وسط تقاطع الأجندات: ميلاد رؤية وطنية مستقلة لتأسيس سودان ما بعد الحرب
تاريخ النشر: 22nd, March 2024 GMT
اشتدت الأزمة في السودان، وتكاثرت المبادرات الخارجية لإنهاء الحرب في البلاد، وبعد قرابة العام على اندلاع الحرب، حاول كثيرون إقليمياً ودولياً أن يمرر أجنداته عبر عدد من المبادرات الخارجية، وسرعان ما تكشفت النوايا الحقيقية وراء هذه المبادرات، ففشل بعضها، وتجمد بعض آخر لتقاطع المصالح، وتنافست وتصارعت رؤى الحلول.
وعندما أيقن الوطنيون في السودان أن أزمتهم لن تحل إلا بأيديهم بمساعدة المخلصين في الإقليم، والذين يقفون سداً منيعاً لمنع التدخل في الشؤون الداخلية للسودان والحفاظ على مؤسساته وعلى رأسها القوات المسلحة صمام الأمان المتبقي لهذا البلد المكلوم، سارع كثيرون الآن لحوار سوداني سوداني شامل ودون إقصاء، في محاولة لبناء تماسك حقيقي سياسياً واقتصادياُ وأمنياً.
وبعدما اطمئن الوطنيون من امتلاك الجيش لزمام الأمور على أرض الصراع العسكري، ماجعل أصحاب الأجندات الداخلية والخارجية يهرولون لفرض مبادرات خارجية تأتي بهم في المعادلة السياسية الجديدة في سودان ما بعد الحرب، يناهضهم أصحاب مبادرات داخلية يسعون لتأسيس جديد يفضي إلى مستقبل يتجنب كل الأخطاء التي أدت إلى هذه الحرب.
وسط هذه المبادرات الداخلية أعلن أمس عن ميلاد رؤية جديدة، إيماناً ويقيناً من أصحابها بأن الأزمة لن تحل إلا داخلياً، ولقطع الطريق أمام أي أطماع خارجية تنفذ بأذرع داخلية، تعيد إنتاج الأزمة من جديد، أو ربما تساعد في خلق دولة تحت سيطرة الطامعين.
ركائز المنصة
بالأمس تم الإعلان عن وثيقة سياسية جديدة أسماها الموقعون عليها (منصة التأسيس الوطنية)، قالوا إنه جرى التوافق عليها بواسطة نخبة من أهل السياسية والرأي من خلفيات سياسية وفكرية متنوعة، بالإضافة لشخصيات وطنية بارزة ورموز المجتمع المدني، وإنه سوف يتم مشاركة الوثيقة مع القوى السياسية الوطنية للتوافق عليها كي تشكل خارطة طريق للمستقبل القريب للفترة التي تعقب نهاية العمليات العسكرية.
وجاء في ركائز المشروع أن المجموعة المتنوعة التي تبنت وثيقة منصة التأسيس الوطنية لا تمثل تحالفاً سياسياً ولا عملاً جبهوياً وإنما هو جهد وعصف فكري للإسهام في تشكيل التوجهات العامة لفترة ما بعد الحرب، وذلك بهدف أن يتم الإنتقال بسلاسة من الوضع شبه الدستوري الراهن في السودان إلى وضع يتوفر فيه أكبر قدر من التراضي بين المكونات الوطنية والتمثيل الشعبي، حيث إن التفويض الشعبي عبر الإنتخابات غير متاح في الوقت الراهن.
آليات مؤقتة
واقترح الموقعون ثلاث آليات مؤقتة هي (اللجنة الوطنية للتأسيس ومجلس التأسيس الوطني والحوار السوداني السوداني) كآليات لتحقيق ذلك التمثيل والتمهيد قبل الإنتقال إلى التفويض الإنتخابي.
وتبنت منصة التأسيس الوطنية خيار أن تبتعد الأحزاب عن المشاركة المباشرة في مؤسسات الحكم خلال الفترة الإنتقالية، وأن تكتفي بالمشاركة في الحوار السوداني السوداني وبتمثيل رمزي في مجلس التأسيس الوطني، وأن يكون لها رأي في القضايا المتعلقة بأوضاع ما بعد الإنتقال مثل قانون الإنتخابات وقانون الأحزاب، وعلى أن تتفرغ الأحزاب لبناء هياكلها والتواصل مع منسوبيها وناخبيها إستعداداً للاستحقاق الإنتخابي.
ولتسليط مزيد من الضوء على هذه المبادرة الجديدة، حاولت “المحقق” التواصل مع الموقعين عليها، لنتبين أكثر الفكرة والتكوين والأهداف وآليات التحرك المستقبلية، وإلى أي مدى يمكن أن يصمد هذا الطرح الوطني أمام الرياح الخارجية العاصفة المحملة بكل الأطماع في السودان.
فترة عابسة
السفير عبد المحمود عبد الحليم سفير السودان السابق بالقاهرة وأحد الموقعين على المبادرة أكد من جانبه أن السودان يمر بفترة وصفها بـ “العابسة” في تاريخه. وقال عبد المحمود لـ ” المحقق” إن بلادنا تمر بمفترق طرق لم يكن متخيلاً فى أسوأ كوابيسنا، وبمخاض أن تكون أو لا تكون وأن نتجاوز هذه التجربة المريرة أو أن تذهب ريحنا فى أتون هذه الحرب المدمرة والتى سبقها انسداد الأفق السياسي، مضيفا أننا تداعينا وتحدثنا وأكدنا أن راية هذا الوطن العملاق لاينبغى أن تسقط أبداً، وأن المحن تلد المنح مستلهمين تجارب الدول التى خرجت من صراعاتها بأقوى مما كانت.
مؤكداً أن هذه المجموعة من رموز المجتمع وشخصياته بتنوع تجاربها وفكرها، لا تمثل تحالفاً سياسياً أو تشكيلاً مناطقياً أو عملاً جهوياً، وقال إنما خرجت عبر تدارسها وعصفها الذهنى بمجموعة من الأفكار والمقترحات، التى نأمل أن تشكل لوحة الآداء، بعد أن تضع الحرب أوزارها.
وتابع توافقنا على قيام منصة التأسيس بانطلاق آليات اللجنة الوطنية للتأسيس، ومجلس التأسيس الوطنى والحوار السودانى السودانى كآليات لتحقيق التوافق والتراضي الذى يسبق التفويض الذى ستمنحه الإنتخابات، وأضاف رأينا كذلك أن تبتعد الأحزاب عن المشاركة المباشرة في مؤسسات الحكم خلال الفترة الإنتقالية، موضحاً أن المبادرة وضعت كذلك التدابير التي تحول دون سيطرة الجنانب العسكري على الفترة الإنتقالية، وقال إن هذه الأفكار ستكون للتشاور مع القوى السياسية الوطنية للتوافق بشأنها.
طيف واسع
من جهتها أوضحت الدكتورة ميادة سوار الذهب رئيس الحزب الديمقراطي الليبرالي وأحد الموقعين على المبادرة أن منصة التأسيس الوطنية هي فكرة طُرحت معالمها الرئيسية قبل عدة أشهر، وأنه تداول في شأنها طيف واسع من المهتمين بالشأن العام من مختلف التوجهات الفكرية والسياسية.
وقالت سوار الذهب لـ “المحقق” إن منصة التأسيس رؤية مطروحة للجميع، وإنها ستعرض على جميع الكتل السياسية والمجتمعية والرموز الوطنية، مضيفة وتبقى الصيغة المطروحة قابلة للتعديل متى ما كانت هناك حاجة لذلك، مبينة أن القصد هو خلق أكبر إجماع ممكن بين السودانيين للتداول والإتفاق على الكيفية التي يخرجون بها بلادهم من أزمتها الراهنة ويبنون بها وطناً ناهضاً.
وأوضحت أن المبادرة هي رؤية أو خارطة طريق للإسهام في تشكيل التوجهات العامة لفترة ما بعد الحرب، وأنه توافقت عليها شخصيات مؤثرة في الساحة أصحاب خلفيات فكرية متنوعة، لافتة إلى أن منصة التأسيسي تسترشد بكتابات ومساهمات السياسين والخبراء والأكاديمين.
مشروع وطني
وأكدت سوار الذهب أن عامل القوة في المبادرة ينبع من جوهر الفكرة والدواعي الملحة لإنشاء منصة تأسيسية بعد هذه الحرب التي أبانت بجلاء إحتياج أهل السودان إلى مشروع وطني متكامل يحقق الإجماع المطلوب للسودانيين في المرحلة الحالية المفصلية والتي تتمثل في إعادة تأسيس الدولة بعد الحرب، وقالت في هذا نحتاج إلى مقترحات عملية تأسيسية لتكون أساساً بإجماع أكبر عدد ممكن من السودانيين لبناء دولة حديثة لتحقيق الرفاه والاستقرار، مضيفة أن هذا يتطلب مؤسسات وطنية قومية يتفق السودانيون على تكوينها ومهامها ونتائج أعمالها، وأنه سيتم التواصل مع جميع المكونات السياسية والمؤسسات السيادية، وأن المبادرة قابلة للتطوير.
فرص وتحديات
محمد محمد خير الكاتب والمحلل الصحفي وصف من جانبه المبادرة بـ ” الطرح الجيد والمناسب” لحل الأزمة في السودان، معلناً دعمه الكامل لهذه الرؤية. وقال خير لـ “المحقق” إن هذا الطرح يتسم بالعقلانية التي يفتقدها السياسي السوداني، مضيفا أن الأشخاص الموقعين على المبادرة معروفين بالكفاءة ونكران الذات وعدم الرغبة في السلطة والسمعة الطيبة في الأوساط العامة ولهم مكانة كبيرة.
مضيفاً أن هذا المشروع يختلف عن مشاريع داخلية أخرى مقدمة للحل الآن، وأن الإختلاف يكمن في أن أصحاب المشاريع الأخرى لديهم أطماع في السلطة، وهذا ينعكس بصورة مباشرة على مشاريعهم ورؤاهم في الحل، مؤكداً أن هذه الرؤية يمكن أن تجد طريقها في الحل – مستدركاً في الوقت نفسه – ولكنها ستقابل بتحديات كبيرة وحملة مضادة من الطامعين في السلطة، وقال يجب أن تتضمن آليات المبادرة سند إعلامي وأشخاص تتصدى لها ليس حولهم شبهات.
ولفت الأستاذ محمد محمد خير إلى أن ظهور مثل هذه المبادرات الداخلية يعكس استشراف وضع جديد بالبلاد، وربما تكون مؤشراً على أن الحرب ستضع أوزارها قريباً، وأن هذه المجموعات تحاول أن تستعد لمرحلة ما بعد الحرب، ورهن استمرار ونجاح مثل هذه المبادرات بمدى استقلاليتها وقوة الذين يدافعون عنها بعيداً عن شهوة السلطة.
القاهرة – المحقق: صباح موسى
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: هذه المبادرات ما بعد الحرب فی السودان
إقرأ أيضاً:
فصل الجيش عن الحزب والحركة
حيدر المكاشفي
خلال زيارته للمملكة العربية السعودية في اطار جولته الخليجية التي شملت الى جانب المملكة كل من دولتي الامارات وقطر، وعلى الرغم من أن المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة كانتا من الرعاة الرئيسيين لمبادرة جدة لوقف الحرب في السودان، إلا أن زيارة ترامب لم تتضمن أي تصريحات أو مبادرات جديدة بخصوص الأزمة السودانية. لم يُذكر السودان في الخطابات الرسمية أو المؤتمرات الصحفية، فيما عدا تلك الاشارة المعممة التي وردت على لسان ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان والتي جاء فيها (سنواصل جهودنا لإنهاء الأزمة في السودان من خلال منبر جدة والذي يحظى برعاية سعودية أميركية)، فهل بناءً على ما سبق، يمكن القول إن زيارة ترامب إلى الخليج تجاوزت فعلياً ملف الحرب في السودان، حيث لم يتم التطرق إليه بشكل علني أو ضمن جدول الأعمال المعلن مما يشير إلى أن الأزمة السودانية لم تكن ضمن أولويات هذه الجولة الدبلوماسية..شخصياً و بعدد من الشواهد لا اعتقد أن إدارة ترامب تجاهلت تماماً وكلياً أزمة حرب السودان الكارثية، فادارة ترامب في فترة رئاسته الاولى هي من قدمت قانون (حماية الانتقال الديمقراطي)، الذي تضمن عدداً من الحوافز، في سياسة يمكن وصفها بسياسة العصا والجزرة، ومعلوم أيضاً ان سياسة ترامب منذ ولايته الاولى تعمد الى تجاهل المؤسسات متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، وتحويل السياسة الأميركية في المنطقة إلى تحالفات مع دول معينة مثل السعودية، مصر، والإمارات وقطر لتدير هي ملفات، منها مثلاً ملف السودان الموكل الى المملكة العربية السعودية بحسب تصريحات ولي العهد السعودي، كما أن نهج إدارة ترامب الممتد حتى الآن منذ ولايته الأولى واتضح جليا في زيارته الحالية للدول الخليجية، انها تعتمد على ثلاثة محاور رئيسية هي تعزيز العلاقات الاقتصادية، وضمان فعالية المساعدات الأميركية من خلال تقليص الإنفاق غير الفعّال، ومكافحة التشدد والتطرف وإنهاء الحروب، وطالما ان ملف حرب السودان أوكل تماماً للمملكة العربية السعودية لم يعد ترامب بحاجة للاشارة اليه وترك أمره لولي العهد السعودي الذي أشار اليه في حديثه الذي نقلناه عنه، ولكن هب ان ترامب تدخل مباشرة في ملف حرب السودان وملأ الميديا بالتصريحات، فما عساه ان يفعل غير محاولة حمل الطرفين المتقاتلين للتفاوض، فمن المستبعد جداً ان يتدخل بصورة سافرة لانهاء الحرب كأن يفرض حظر على الطيران أو ارسال قوات للفصل بين المتقاتلين أو اي إجراء عسكري آخر..
المشكلة اذن ليست هي عدم اشارة ترامب لحرب السودان، وانما المشكلة في طرفي الحرب انفسهم وبالذات في قيادة الجيش التي يمكن ان نستلف لقب (مستر نو) من السيد عبدالواحد محمد احمد النور ونخلعه على قيادة الجيش التي صارت بالفعل (مستر نو)، برفضها لكل المنابر التي اتيحت للتداول حول الازمة، بل حتى المنبر الذي شاركت فيه وتوصل لتفاهمات مبدئية بين الفريق كباشي وعبدالرحيم دقلو في العاصمة البحرينية المنامة، تنصلت عنه قيادة الجيش ووأدته في مهده، والملاحظ هنا ان قيادة الجيش مرتهنة تماماً للوبي البلابسة وعلى وجه الخصوص جماعة الكيزان، فكلما تسربت اخبار عن لقاء يجمع طرفي الحرب، تجد هذه الجماعة سارعت لشن حملة شعواء ضده، فتسارع بدورها قيادة الجيش ليس لنفي التسريب فحسب بل والتأكيد على استمرار الحرب حتى القضاء على المليشيا، ولا تفسير لذلك سوى ان قيادة الجيش واقعة تماماً تحت تأثير وقبضة الكيزان ولا تملك الارادة الحقيقية للمضي في أية فرص تفاوض تلوح في الافق، وما لم تتحرر قيادة الجيش من الهيمنة والسيطرة الكيزانية وتمتلك ارادة نفسها سيظل الحال كما هو عليه، وبالطبع لن تتحرر قيادة الجيش من قبضة الكيزان مالم يتم فصل الجيش عن الحزب والحركة ونعني بهما حزب المؤتمر الوطني والحركة الاسلامية، ومعلوم ان هذين (الحاءين) الحزب والحركة ما فعلاه بالدولة منذ استلام الاخيرة للسلطة عبر انقلابها المشؤوم، فهما لم يسيطرا على الجيش فقط بل جعلوا من الحزب والحركة والدولة شيئاً واحداً، تماهت السلطة في الحزب وتمدد الحزب في السلطة، ووضع الدولة في خدمة الحزب، رئيس الدولة هو رئيس الحزب، ومساعد الرئيس في القصر هو نائب الرئيس في الحزب، والوالي هو رئيس الحزب في الولاية، ووزير الوزارة الفلانية هو أمين القطاع العلاني في الحزب وهكذا دواليك، كل الدولة في جوف الحزب بما في ذلك الــ… والــ… والــ… مما تعدون وتعرفون من مؤسسات وهيئات يتشكل منها قوام أي دولة، وباختصار وضع الحزب الدولة رهينة له ورهن إشارته من قمة جهازها التنفيذي وإلى أصغر وحدة محلية، وأحكم عليها الخناق تحت إبطه، لا فاصل بين الانتماء السياسي للحزب والحركة والانتماء العام للمنصب، ذاك هو هذا، وهذا هو ذاك، فلا تدري ما الذي يفعله من أجل الحزب، وما الذي يفعله من أجل المنصب، فقد اختلط حابل الدولة بنابل الحزب، حتى صار السودان كله من أقصاه إلى أقصاه رهينة بين يديه، وجعل ما فيه ومن فيه مثل خادم الفكي كلهم مجبورون قسرا على خدمته، يسوقهم حيث ما شاء ويطبق عليهم ما يشاء بالقوة والقهر والجبروت حيناً ولا يريهم إلا ما يرى، ولا يسمع إلا ما يطربه، وبالجزرة والإغراء والملاطفة حيناً آخر، ورغم ان لجنة ازالة التمكين التي تكونت بعد ثورة ديسمبر سعت لتعديل هذا الوضع المقلوب والصورة الشائهة للدولة، بإنهاء دولة الحزب لصالح دولة الوطن بفصل الحزب عن الدولة وتخليص رقبتها من تحت إبطه، إلا ان انقلاب اكتوبر2021 الذي نفذته قيادتي الجيش والدعم السريع قبل ان تكتشف الاخيرة نوايا الانقلاب الحقيقية وتتبرأ منه، حيث وضح ان الهدف الرئيس للانقلاب كان القضاء على الثورة وإعادة الكيزان للسلطة، وهذا هو المشهد الماثل حتى الآن منذ انقلاب اكتوبر اذ ماتزال قيادة الجيش تحت إبط الحزب والحركة..
الوسومحيدر المكاشفي