أمجد شرف الدين المكي

في إطار استمرارية تحليلنا لـ "التحديات البيئية – السياسية في خضم الصراع القائم بالسودان"، جادل خبراء بيئيون مُنبهون ومُشدِّدون على أن التغيرات المناخية والتحولات البيئية التي شهدها السودان على مدار عقود، لعبت دورًا محوريًّا في تفاقم حالة عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي بالبلاد.

حيث تُشير، وبحجة قوية، بعض الفرضيات الأكاديمية إلى أن الصراع الراهن، الذي يُخيّم على السودان لما يقرب من عام، ورغم ظهوره بثوب سياسي، يعكس في جوهره تصاعد صراعات ذات جذور بيئية وتنموية. تطورت هذه الصراعات إلى ما عُرِف بـ "هامش ومركز"، ومرّ بمراحل نمو معقدة وعديدة حتى وصل إلى حالة الغليان وما نشاهده من وضع راهن. والذي شهد، ويشهد، تحولات جغرافية-سياسية وقبلية شديدة الوطأة، محمّلة بأبعاد ثقافية وهوياتية. هذا التحوّل، الذي ساهمت في صناعته، وعبر التاريخ البرامج السياسية، المدنية، والانقلابات العسكرية، إضافةً إلى بعض النخب سواء بنية مباشرة أو غير ذلك، شكلَ ويٌشكل منعطفًا خطيرًا في تاريخ السودان الحديث، ويُمثّل تهديدًا جوهريًّا لإستقرار الدولة السودانية بأكملها. وهذا موضوع يطول شرحه، سأفرد له مساحة قادمة.
فقد تلقيتُ العديد من الرسائل من الأصدقاء، والمهتمين بأمر البيئة والصحة العامة، تُطالبني بتسليط الضوء بشكل مُكثفٍ على التحديات البيئية التي تُعصف بالدولة السودانية حاليًا، خاصة في ظل النزاع الدائر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. وكما أوردتُ في مقالي الأخير، فإنَّ مشكلة تراكم الجثث وتحللها في التربة نتيجةً لعمليات الدفن غير السليمة، مع انتشار الكلاب الضالة ونهشها فيها، تُمثلُ مصدر قلقٍ رئيسيٍّ للسودانيين، سواء أولئك المقيمين داخل البلاد أو في الخارج.
كما ذكرتُ سالفًا، في ظل الحرب السودانية الدائرة حاليًا بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يبرز تحدٍ كبير يتعلق بالدفن الصحيح للجثث، وهو أمر حاسم للصحة العامة والسلامة البيئية. الدفن غير الصحيح يمكن أن يؤدي إلى مجموعة من المشاكل المقلقة بما في ذلك تلوث المياه الجوفية بالسوائل الجثمانية وانتشار الأمراض نتيجة لتحلل الجثث. هذا بالإضافة إلى التأثيرات النفسية والاجتماعية السلبية على أسر الضحايا والمجتمعات المحلية، خصوصًا عندما لا تُحترم الطقوس الدينية أو الثقافية للمتوفين.
بالإضافة إلى ذلك، الجثث التي لا تُدفن بطريقة لائقة قد تجذب الحيوانات والحشرات مما يؤدي إلى مزيد من المخاطر الصحية والبيئية. في السودان، حيث النزاع مستمر، تصبح مسألة الدفن السليم أكثر إلحاحًا لمنع انتشار الأمراض وضمان الكرامة للمتوفين. وفي ذلك لا بد من إقامة الدعوات للمجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية لتوفير الدعم والموارد اللازمة لضمان إدارة الجثث بطريقة تحمي الصحة العامة وتحترم العادات الدينية والمحلية، مع الأخذ في الاعتبار التحديات القانونية والبيئية المرتبطة بهذه الأزمة.
بافتراض توقف النزاع المسلح في السودان، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تبرز تحديات بيئية متعددة تواجه جهود إعادة البناء والتأهيل للمجتمعات المتضررة. هذه التحديات تشمل بشكل رئيسي التلوث الكيميائي نتيجة استخدام الأسلحة والذخائر، تلوث المياه الجوفية بسبب تدمير البنية التحتية، ومخاطر الألغام الأرضية (بناءً على تقاريرعامة بزرع ألغام في مناطق مختلفة) والذخائر غير المنفجرة التي تهدد سلامة السكان والبيئة المحيطة.
علاوة على ذلك، يسهم تدهور النظم البيئية والتصحر في تفاقم الوضع، حيث يؤدي فقدان الغطاء النباتي والتربة الخصبة إلى تقويض الأمن الغذائي وصعوبات مُعقَّدة في استعادة الزراعة. هذا التدهور البيئي لا يهدد فقط سبل العيش، بل يزيد أيضًا من صعوبة الحفاظ على التنوع البيولوجي والخدمات البيئية والصحية.
في هذا الإطار، يحث الخبراء والهيئات الدولية على ضرورة اعتماد نهج شامل يعالج هذه التحديات البيئية ضمن جهود إعادة التأهيل في السودان. ويُشدّدون على أهمية إجراء تقييمات بيئية دقيقة، وتنفيذ برامج لإزالة الألغام وتطهير الأراضي، وتطوير مشاريع إعادة تأهيل تركز على الاستدامة وإعادة تنشيط النظم البيئية. كما تُعَدُّ مشاركة المجتمعات المحلية، كما ذكرت سابقًا، عنصرًا حيويًّا في هذه العملية، حيث تساهم في بناء القدرة على الصمود ودعم الاستقرار والسلام على المدى الطويل.
في أعقاب الصراع القائم في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ستواجه البلاد تحديات جمة في إعادة بناء بنيتها التحتية الصحية، مما يؤثر سلبًا على قدرتها على توفير الرعاية الصحية الأساسية لسكانها. تتمثل هذه التحديات بشكل رئيسي في نقص المرافق الصحية، عدم توفر الأدوية والمعدات الطبية، النقص الحاد في الأيدي العاملة المؤهلة، وتدهور البنية التحتية القائمة بسبب الدمار الذي خلفته الحرب.
النزاعات تعمل على إضعاف النظام الصحي بشكل كبير، حيث تتضرر المستشفيات والعيادات من الهجمات، وغالبًا ما تُستخدم كمراكز للقتال أو كملاذات للنازحين، مما يقلل من قدرتها على تقديم الخدمات الطبية. إضافةً إلى ذلك، سيُعاني السودان من نقص حاد في الكوادر الطبية نتيجة هجرة الأطباء والممرضين بسبب الصراع والظروف الاقتصادية الصعبة.
في الصومال وجمهورية الكونغو الديمقراطية توضح العواقب البعيدة المدى للصراعات على البنية التحتية الصحية. فقد شهدت ومازالت الصومال عقودًا من الحرب الأهلية وعدم الاستقرار السياسي، أدت إلى تدمير شبه كامل للبنية التحتية الصحية، مما أدى إلى تفشي الأمراض ونقص في الخدمات الصحية. أيضًا في جمهورية الكونغو الديمقراطية، أدت الصراعات المتكررة وضعف الحكومة إلى تدهور الخدمات الصحية وانتشار الأمراض مثل الإيبولا والحصبة، مما زاد من العبء على المجتمعات الهشة.
في السودان الحالي، تظهر الحاجة الماسة لإعادة بناء البنية التحتية الصحية كجزء لا يتجزأ من جهود الإعمار. الاستثمار في الرعاية الصحية، تدريب الكوادر الطبية، وتوفير الأدوية والمعدات الطبية الضرورية، كلها خطوات حيوية لضمان عدم تفاقم الوضع الصحي. كما أن التعاون الدولي والدعم من المنظمات الإنسانية والصحية العالمية يمكن أن يلعب دورًا محوريًا في تحقيق هذا الهدف.
يجب على المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية تقديم الدعم اللازم للسودان لتجاوز هذه الأزمة الصحية الشاملة. ويتطلب ذلك توفير الموارد المالية، إرسال فرق طبية متخصصة، وتوفير الأدوية والمعدات الطبية اللازمة. كما ينبغي على هذه الجهات تقديم الدعم في إعادة تأهيل وبناء المرافق الصحية التي دمرت خلال النزاع، وتدريب الكادر الطبي المحلي لضمان استمرارية وجودة الرعاية الصحية المقدمة.
بالإضافة إلى ذلك، يجب وضع برامج للصحة العامة تستهدف التوعية والوقاية من الأمراض، خصوصًا في المناطق الأكثر تضررًا من النزاع. هذا النهج الشامل سيساعد على منع تفشي الأمراض وتحسين الأمن الغذائي والصحي للمجتمعات المحلية.
من الضروري أيضًا إقامة شراكات بين الحكومة السودانية والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص لتعزيز النظام الصحي. يمكن لهذه الشراكات أن تعزز الابتكار، توسع الوصول إلى الخدمات الصحية، وتوفر حلولًا مستدامة للتحديات الصحية الراهنة.
على المدى الطويل، يجب أن تركز جهود إعادة الإعمار على بناء نظام صحي مرن قادر على مواجهة الأزمات المستقبلية. هذا يعني الإستثمار في البحوث الصحية، تطوير السياسات العامة التي تضمن العدالة في الوصول إلى الرعاية الصحية، وبناء قدرات المجتمعات المحلية للتعامل مع الأزمات الصحية.
إن التجارب المستفادة من مناطق أخرى في أفريقيا التي شهدت صراعات وتحديات صحية مماثلة يمكن أن تقدم دروسًا قيمة للسودان في مرحلة إعادة البناء. بالنظر إلى تجارب دول مثل رواندا وليبيريا، حيث تمكنت هذه البلدان من إعادة بناء نظامها الصحي بعد الصراعات، يمكن للسودان الاستفادة من هذه النماذج في تطوير استراتيجياته الخاصة لإعادة الإعمار وتحقيق التنمية المستدامة.
لذا، أتوجه بالنداء إلى المسؤولين والصحفيين والمؤلفين والباحثين وصُنّاع القرار في السودان، مطالبًا بتشكيل لجان وورش عمل عاجلة لبحث هذه القضايا البيئية والصحية المعقدة. في نظري، يُعدّ هذا من المهام الجليلة والضرورية بشكل بالغ. وإن كان يظن البعض أن هذا قد يكون مبكرًا أو غير ملائم في ظل استمرار النزاعات، وهو أمر مفهوم، إلا أن التخطيط البيئي والصحي يتطلب جهودًا مضنية وتبادلًا للآراء والخبرات الغنية، فضلاً عن التواصل الفعّال مع الهيئات الدولية والمنظمات الإنسانية، وهو مسعى ليس باليسير على حد تقديري المتواضع. لهذا، يتعين علينا البدء فورًا في هذه المساعي، حتى نزيل الغمة عن هذا الوطن الجريح.

أمجد شرف الدين المكي
جامعة سالف روجينا – أمريكا
[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: بین الجیش السودانی وقوات الدعم السریع البنیة التحتیة التحتیة الصحیة الرعایة الصحیة فی السودان

إقرأ أيضاً:

هجليج… النفط كورقة حرب وضغط سياسي!

الواثق كمير

[email protected]

تورونتو، 10  ديسمبر 2025

في خضم حرب أبريل المشتعلة، لم تعد منطقة هجليج النفطية مجرد موقع إنتاج، بل تحوّلت إلى عقدة استراتيجية حاسمة تتحكّم في مسار صادرات جنوب السودان عبر بورتسودان، وتشكل شرياناً مالياً حيويًا لكل من الخرطوم وجوبا. فالسيطرة على حقول النفط لم تعد مسألة جغرافية أو تقنية، بل أصبحت مؤشراً على موازين القوى، وورقة نفوذ سياسية وعسكرية في آن واحد.

هذا التطور يفتح مجموعة من الأسئلة الجوهرية: من هو الخاسر الأكبر نتيجة تعطّل الإنتاج؟ ما المكاسب الحقيقية لقوات الدعم السريع من السيطرة على الموقع؟ هل يمكن إعادة تشغيل النفط دون اتفاق رسمي بين الدولتين؟ وكيف سيتصرف الجيش الشعبي إذا أقدمت جوبا على ترتيبات مباشرة مع الطرف المسيطر على الأرض؟ وهل للتنافس الإقليمي والدواي دور؟

الإجابة على هذه التساؤلات تكشف طبيعة الصراع الحقيقي، وتوضح كيف يمكن للنفط أن يتحوّل من مورد اقتصادي إلى أداة ضغط سياسية واستراتيجية.

من المتضرر الأكبر؟

دولة جنوب السودان هي الأكثر تضرراً فورياً. فاقتصادها يعتمد شبه كلي على تصدير الخام عبر السودان، وأي تعطيل في هجليج يعني خسائر مالية تُهدد الرواتب والخدمات واستقرار الدولة.

أما السودان، فرغم حاجته لرسوم عبور النفط، فإن تأثير التوقف يكون تدريجياً، إذ يخسر موارد مهمة لكنه لا يواجه خطر الانهيار الفوري مثل جوبا.

فائدة السيطرة بالنسبة للدعم السريع

قد يبدو أن المكاسب محدودة طالما ظل إنتاج الحقل النفطي متوقفاً. ومع ذلك، فإنّ السيطرة على الموقع تمنح الدعم السريع ورقة ضغط ثمينة، إذ يمكنه ابتزاز الأطراف أو انتزاع تنازلات سياسية ومالية، وتثبيت موقعه كلاعب أساسي في أي ترتيبات نفطية مستقبلية.

هل يُمكن تشغيل الحقل النفطي دون اتفاق بين الدولتين؟

نظرياً، يمكن تشغيل بعض أجزاء المنظومة مؤقتاً. لكن عملياً، لا يمكن أي صادرات أن تتحرك عبر الأنابيب إلى بورتسودان دون اتفاق رسمي بين السودان وجنوب السودان، وترتيبات أمنية تضمن سلامة الفنيين والمنشآت. شركات النقل والتأمين والمشغلون الدوليون لن يغامروا في بيئة غير مستقرة.

كيف سيتصرف الدعم السريع؟

من غير المرجح أن يكتفي بالسيطرة الجغرافية. القوة المسيطرة على مورد استراتيجي عادة ما تحوّله إلى “عملة تفاوضية”. ربما، الأرجحُ أن يطالب الدعم السريع برسوم أو حصة من العائدات، أو ضمانات سياسية مقابل السماح بمرور النفط، وهو ما يعزز مكانته ويضمن له موارد للحفاظ على حضوره العسكري.

وماذا عن جيش جنوب السودان؟

إذا دخلت جوبا في ترتيبات مباشرة مع الدعم السريع، خصوصاً مع وجود الجيش الشعبي في مناطق مجاورة، فسيبحث الجيش عن نصيبه من الترتيبات، سواء بالمشاركة في الحراسة، أو بالحصول على ضمانات مالية، أو الاكتفاء بترتيبات الأمر الواقع مقابل استمرار تدفق النفط. بينما الإهمال أو التهميش قد يفتح بابًا لصراع نفوذ جديد حول الطريق الحيوي الذي يربط الجنوب بالعالم.

هل للتنافس الإقليمي والدولي دور؟

مُنذ أن دخلت الموانئ والتنافس للحصول علي المنافذ البحرية ساحة التنافس الأقليمي والدولي فان السيطرة على التجهيزات والمنشآت النفطية في حرب السودان تدخل حسابات جديدة وتُلقي بتبعاتٍ على الاطراف في المنطقة وخارجها. فالسيطرة علي هجليج وصل صداها إلى بكين فأعلنت شركة CNPC الصينية الخروج من تعاقداتها النفطية وانهاء وجودها في السودان، مما يعنى عمليا تراجُعاً ونكسةً في سيرورة مشروع النفط السوداني. ويلامس ذلك انشغالات واشنطن الداعية لتحجيم الوجود والتمدد الصينى فى أفريقيا، بجانبِ أنّ احتلال هجليج يضعف أدوات الشراكة بين الخرطوم وجوبا ويدفع بأشواق دولة الإمارات ان تكون جوبا سندا لمشروعها في السودان.

خاتمة

هجليج لم تعد مجرد منشأة نفطية، بل تحوّلت إلى ورقة سياسية واستراتيجية تُعيد رسم موازين القوى بين الخرطوم وجوبا. سيطرة الدعم السريع تمنحه نفوذاً غير مسبوق، في حين يظل الجنوب الأكثر هشاشة مالياً والسودان في موقف استراتيجي معقّد.

هجليج اليوم تُذكّرنا بأنّ النفط ليس مجرد مورد اقتصادي، بل ورقة حرب وأداة ضغط سياسية واقتصادية في آنٍ واحدٍ، وأنّ الطريق من الحقل إلى بورتسودان ليس مجرد خط أنابيب، بل مسار يحدد موازين القوى، ويرسم ملامح المرحلة القادمة في علاقات السودان وجنوب السودان ومستقبل استقرار المنطقة.

 

 

 

الوسومالواثق كمير

مقالات مشابهة

  • جنوب السودان يتولى أمن حقل هجليج النفطي بعد سيطرة الدعم السريع
  • التآمر الناعم
  • إسرائيل توافق على مطلب أميركي بتحمّل تكاليف إزالة الدمار في غزة
  • حرب السودان تخرج عن السيطرة
  • الورقة سقطت والأمل فى "النقض"
  • محافظ بني سويف يشيد بفريق مستشفى التأمين الصحي بعد نجاحه في إجراء 4 تدخلات دقيقة باستخدام منظار SpyGlass للمرة الثانية
  • هجليج… النفط كورقة حرب وضغط سياسي!
  • الكونغرس يمهّد لإنهاء حقبة قانون قيصر… خطوة أمريكية جديدة نحو إعادة تشكيل العلاقة مع سوريا
  • تناسل الحروب
  • المرحلة الثانية في غزة: هل هي إعادة تشكيل للشرعية؟