هل بالإمكان التأسيس لفكرة المساواة في الإرث من خارج النسق الأصولي؟

يطرح التأسيس لفكرة المساواة في الإرث من خارج النسق الأصولي ثلاثة أسئلة في السياق العربي الإسلامي، أولها، سؤال الأفق؟ وثانيها، سؤال الإمكان؟ وثالثها سؤال النموذج؟ فلنبدأ بتحرير النظر في كل مستوى على حدة.

أما سؤال الأفق، أو التبعات، فمضمونه أن الدعوة إلى المساواة في الإرث، وتنزيلها على مدونة الأسرة أو الأحوال الشخصية، يطرح تحديا فلسفيا وأخلاقيا، فالمبدأ من حيث النظر الفلسفي يأبى التجزيء، والإخلال بسمة الاطراد في تنزيل المبدأ على كل مستوياته، يثير مشكلة أخلاقية يصعب فكها.

بيان ذلك، أن تنزيل مبدأ المساواة في الإرث، يفترض تشغيل هذا المبدأ في كل وحدات المدونة (أو قانون الأسرة أو قانون الأحوال الشخصية) وتفاصليها، بما يعني ضرورة، تحميل النفقة للزوجين في كل مجالات المعيشة مناصفة، وتحميل النفقة على الأبناء في حال الطلاق على قدم المساواة بين الطليقين، وإسقاط المهر في الزواج، وإسقاط المتعة والنفقة في العدة، وما إلى ذلك من أحكام كلف بها الزوج في إطار مسؤوليته الأسرية، هذا فضلا عن إسقاط الرجعة، وما يترتب عنه من إسقاط الطلاق الرجعي، لأن الرجعة حق يمارسه الرجل.

لازم ذلك، أن المساواة في الإرث، بمقتضى المبدأ الفلسفي والأخلاقي، يجر معه تغييرا جذريا لأنماط العلاقات الأسرية والاجتماعية، يسائل الحقيقة الاسوسيولوجية عن إمكان المعادلة الاجتماعية العربية تحمله، وهذا يجرنا إلى المستوى الثاني من السؤال، أي الإمكان؟

فعلى فرض أن التيار العلماني، يقبل هذا الرهان، أي تعميم المساواة في كل وحدات المدونة، وإجراء المناصفة على الأدوار الاجتماعية، بما يجعل المرأة شريكا اقتصاديا واجتماعيا للزوج في إدارة البيت وفي فك رابطة الزوجية أيضا وتحل أعباء ذلك، فهل تقبل الحقيقة الاجتماعية ذلك؟ وهل اشتغل التيار العلماني على الواجهة الفكرية في مسار تحديثي ثقافي مجتمعي، يضمن به انخراطا مجتمعيا في هذا المشروع لاسيما من قبل المرأة التي رَفع خطاب المساواة في الإرث أصلا رهان إنصافها؟ وهل الحقائق السوسيوقتصادية توفر الشروط لإنجاح هذا الورش الحقوقي؟

المساواة في الإرث، بمقتضى المبدأ الفلسفي والأخلاقي، يجر معه تغييرا جذريا لأنماط العلاقات الأسرية والاجتماعية، يسائل الحقيقة الاسوسيولوجية عن إمكان المعادلة الاجتماعية العربية تحملهلقد قضى التيار العلماني في عدد من الدول العربية فترة طويلة فقط من أجل أن يقنع المجتمع بتجريم زواج القاصر، وقد وجد في بعض البيئات والمعادلات ظروفا سياسية تساعده على نقل هذه الفكرة إلى واقع، ولم تكن السلطة القائمة، بدافع من المحافظة حائلا دون أن يتحقق هذا الحلم، لكن في الواقع، كانت الحقيقة السوسيولوجية صادمة، لاسيما في مناطق الندرة التي تتراجع فيها مستويات التنمية وهي بالمناسبة واسعة وممتدة في فضائنا العربي، ولم تستطع التحولات السوسيوقتصادية أن تعاند حقيقة أن الزواج بالقاصر في هذه المناطق أضحى أداة من أدوات الإنتاج، أو على  الأقل، أصبح إحدى الحلول  لتسوية بعض المشاكل المجتمعية القاهرة.

تنزيل مفهوم المساواة المطلقة، وتأطير العلاقات الأسرية بوحي منها، لا يتطلب فقط إزالة الحواجز السوسيوقتصادية وإقناع الأسرة بأن الخيار الأفضل لها ولبناتها أن يلجن إلى المدرسة، ويستكملن تعليمهن كما هو الحال بالنسبة لزواج القاصر، بل يتطلب إحداث زلزال اقتصادي واجتماعي وثورة ثقافية، لا تواجه فقط ما يسمى في الأدبيات العلمانية بالثقافة الذكورية، بل يضع نصب عينيه، إقناع المرأة بالتخلي عن الثقافة التمييزية لصالحها، أي إقناعها بالتنازل عن مكتسبات ثقيلة في سبيل تحميلها مسؤولية الإبحار في  معادلة اجتماعية تصل فيها نسبة البطالة إلى أكثر من 10 في المائة، أخذا بعين الاعتبار حال النساء اللواتي يقوم أزواجهن بتحمل مسؤولية النفقة عليهن، فهؤلاء لا يدخلن في الحسبة، لأنهن ينتمين  في الاعتبار العلماني، إلى عالم ما قبل تنزيل المساواة المطلقة.

نترك الجواب عن سؤال الإمكان مفتوحا، ونقدر أنه سيكون من التيار العلماني من المنصفين من يستطيع أن تدفعه جرأته للجواب عن هذا السؤال بقدر من الوضوح، ويعتبر -التزاما بمبدئه العلماني- أن شروط تنزيل المساواة المطلقة لا تزال بعيدة، إن لم تكن مستحيلة في المديات القصيرة والمتوسطة، وأن سؤال الإمكان ليس مرتبطا بجهد ثقافي (ثورة ثقافية) يقوم بها التيار العلماني في المجتمع العربي، ولا ندري أهليته للقيام بها في الشروط الراهنة، بل يتطلب تحولا سوسيوقتصاديا رهيبا، يقترب تماما من الثورة الصناعية التي قامت في أوربا، وهو السيناريو الذي يستبعده أكثر المتفائلين توقعا.

سؤال الإمكان حتى لا نقول إن الجواب عنه مستحيل أو صعب، يتطلب توفير أرضية صلبة، تأخذ مسارا ممتدا من الزمن، ربما يسع قرونا، شرط أن يحصل التفاعل بين مستويين من التحول، الديناميكية العلمانية في المجتمع، وشروط التثوير المجتمعي، والديناميكية الاقتصادية والاجتماعية وما يمكن أن يؤمل منها من تغير البنيات الاقتصادية والاجتماعية، وما يستتبعه ضرورة من تغير الأدوار بين الرجل والمرأة فضلا عن العلائق الأسرية والاجتماعية.

المفارقة أن عقبة سؤال الإمكان إن تم تجاوزها، فإنها لا تعني أن المشكلة قد حلت، بل لا بد من الجواب عن سؤال النموذج؟ وأي رؤية يحملها العلمانيون لنظام إرث بديل يقوم على مبدا المساواة المطلقة؟

إن كان الجواب يقتفي النموذج الأمريكي، فهذا يطرح أسئلة إشكالية أعقد من تلك التي يطرحها العلمانيون على نظام الإرث في الإسلام، فالإرث في النموذج الأمريكي، يعطي للمالك سلطة في توزيع إرثه حسب رغبته وإرادته، فيمكن أن يكتب وصية موثقة لدى المحامي ويشهد عليها، وقد يكون مضمونها  تمكين شخص واحد من الإرث، ربما يكون وارثا شرعيا أم لا، ويتم بناء على ذلك حرمان الورثة من الإرث، وإذ ذاك  سندخل في نقاش فلسفي عميق، يتعلق  بمناط توزيع الثروة بعد الموت، وهل هو حرية المالك حال حياته (إرادته ورغبته تعبر عن حقه في توزيع ثروته كما يشاء)، أم هو العدل الذي يضمن لذوي القربى أن يأخذوا نصيبا من الإرث كما هي النماذج  ألأخرى، البريطانية والفرنسية على سبيل المثال، والتي تقيد الوصية بنصيب محدد حتى لا يحرم الورثة من تركة المتوفي.

لا نريد الخوض في هذه الإشكالية، فالحرية التي يناط بها توزيع التركة بمقتضى الوصية في النموذج الأمريكي، قد خضعت في نماذج أخرى لعملية مراجعة عميقة (تقييد يحمي حق الورثة في تركة الهالك)، ولم يسمح بها إلا في حدود الثلث كما هو النموذج البريطاني، أو بما لا يفوق النصيب الشرعي للورثة كما يحدده القانون الفرنسي.

وإذا كان الجواب يقتفي نماذج أخرى غير النموذج الأمريكي، مثل النموذج الفرنسي والبريطاني، فإن السؤال الذي يطرح هو معايير تقسيم الجهات التي تستحق الإرث، بل معايير إدخال الأبناء غير الشرعيين (الطبيعيين) والذين تم تبنيهم ضمن الورثة الشرعيين، ومعايير المفاضلة بينهم وبين الأبناء الشرعيين.

في النموذج الفرنسي ثمة مشكلة تتعلق بإرث الأبوين، اللذين يحجبان بوجود الفروع، وهي مسألة بالغة الحساسية في مجتمعنا العربي الإسلامي، يتطلب من العقل العلماني أن يكون جاهزا لمواجهة التحدي الذي تشكله ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا.

في النموذج البريطاني، تطرح مشكلة الأبوين بشكل أكثر حدة، فهما يحجبان ليس فقط بوجود الفروع كما في النموذج الفرنسي، بل يحجبان أيضا بوجود الزوج أو الزوجة، فيمكن الزوج أو الزوجة من كل التركة في حال عدم وجود الفروع، ولا يرث أبوي الهالك أي شيء، لأنهما محجوبان بمقتضى القانون الذي رتب جهات الإرث بهذا الترتيب.

في النموذج الأمريكي، يتغير الترتيب قليلا، فتسبق جهة الزوجية جهة البنوة، ولا تحجب أحدها الأخرى، فيحصل اقتسام التركة في حال اجتماعهما، ويحرم الأبوان في حال وجود الزوج أو الزوجة، أو حال وجود الأبناء.

هذه بعض الأسئلة التي تطرحها ثلاثة نماذج نظم إرث غربية، تعتبر ملهمة للتيار العلماني في تحقيق مفهوم المساواة، وهي تثير تحديات كثيرة، لا تتحملها المجتمعات العربية، فهذه المجتمعات لا تتقبل لحد الآن تمكين الولد الناتج عن علاقة غير شرعية من النسب، أي من السبب الذي يضمن له الحق في الإرث، ولا تقبل أن يكون التبني سببا في استحقاق الإرث، فبالأحرى أن تقبل ان يحرم الأبوان من الإرث، سواء بالفروع بمن فيهم أبناء الزنا حسب المتداول ثقافيا في الفضاء العربي، أو بالأزواج، وهي فوق هذا وذاك، تثير إشكالات أخرى مرتبطة بالحرمان الكلي من الميراث بمقتضى الوصية كما هو النموذج الأمريكي، أو الحرمان الجزئي كما هو الحال في النموذجين البريطاني والفرنسي، واللذين لا يمعنان أن توجه الوصية لوارث شرعي، مما يثير من جديد سؤال المساواة، بل تحدي المحاباة، وما يترتب عنه من سؤال العدل في توزيع الثورة على الورثة.

خاتمة:

وهكذا، يتبين أن قضية المساواة في الإرث، التي ترفعها التيارات العلمانية مطلبا في خطابها، تثير تحديات كبرى، في الغالب ما يتم إخفاؤها، لأن الطاغي في النقاش هو الإيديولوجيا وليس المعرفة المنهجية، فتبين في خلاصات هذا المقال، أن هذا المطلب يطرح بجدية سؤال الأفق وسؤال الإمكان وسؤال النموذج، وأن هذه الأسئلة الثلاثة، لا جواب لها لحد الآن، سواء على مستوى خطاب النخب العلمانية، أو على مستوى حقائق السوسيولوجيا العنيدة.

اقرأ أيضا: المساواة في الإرث في خطاب النخب العلمانية.. نقاش في المنهج (1من2)

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير مدونة الأسرة المغرب اصلاحات جدل مدونة الأسرة سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة من الإرث الإرث فی کما هو فی حال

إقرأ أيضاً:

شوقي علام: المنهج الأزهري الأشعري حمى مصر من التطرف الفكري

أكد الدكتور شوقي علام، مفتي الديار المصرية السابق، أن المنهج الأزهري القائم على العقيدة الأشعرية، والتصوف الرشيد، والتعددية المذهبية، كان له الدور الأكبر في حفظ توازن الشخصية المصرية واعتدالها على مدار قرون طويلة، مشيرًا إلى أن هذه الركائز الثلاثة شكّلت منظومة متكاملة من الفهم الوسطي والهدوء الفكري الذي حمى المجتمع المصري من الصراعات الفكرية والمذهبية.

وأوضح الدكتور شوقي علام، خلال تصريحات تلفزيونية، اليوم الجمعة، أن الأزهر الشريف تبنّى العقيدة الأشعرية دراسة واعتقادًا، مع دراسة العقائد والملل الأخرى من منطلق الفهم والاستيعاب لا الإقصاء، مؤكدًا أن هذا المنهج جعل المجتمع المصري يعيش حالة من الانسجام الروحي والفكري والمادي، لأن الأشاعرة ينظرون إلى كل من قال «لا إله إلا الله محمد رسول الله» نظرة وحدة لا فرقة.

شوقي علام: الأزهر الشريف صاغ الشخصية المصرية وترك بصماته على العالم الإسلاميشوقي علام: فقه الواقع ركن أساسي في الفتوى ولا يكتمل الحكم دون فهم المجتمع وظروفهشوقي علام: هناك فرق بين فرض العين والكفاية يجب للجميع فهمهشوقي علام: التعليم حق أصيل للطفل وتتحمل مسئوليته الأسرة

شوقي علام: التدين الأزهري هو النموذج الأصيل للتدين الحقيقي

وأشار الدكتور شوقي علام إلى أن الأزهر بثَّ هذا المنهج في التعليم والتعلم والممارسة الدينية، حتى صار التدين الأزهري هو النموذج الأصيل للتدين الحقيقي، الذي يجمع بين العلم والخلق والتسامح، مؤكداً أن هذا النموذج ظل سائداً في المجتمع المصري قرابة الألف عام.

وأضاف المفتي السابق أن بعض التحديات الفكرية الوافدة في القرن الماضي حاولت أن تقف في وجه هذا المنهج المتوازن، بدعوى العودة المباشرة إلى الكتاب والسنة دون الاستناد إلى المذاهب الأربعة، محذرًا من خطورة هذا الطرح الذي يتجاهل مكانة العلماء الأوائل ومنهجهم في الفهم والاستنباط.

وأوضح المفتي السابق أن الحوار العلمي الهادئ مع تلك المدارس الفكرية لا مانع منه، لكنه لا يجوز أن يكون مشحونًا بالتعصب أو الإقصاء، مشيرًا إلى أن المذاهب الأربعة لم تكن في يوم من الأيام في مواجهة النص الشريف، بل كانت سبيلًا إلى فهمه، ولذلك لا يمكن إلغاء هذا التراث العلمي الأصيل.

وتابع المفتي السابق: "المنهج الأزهري سيبقى حصنًا منيعًا أمام دعاوى الفوضى الفكرية، لأنه يقوم على فهم النصوص بفهم العلماء الراسخين، لا على الادعاء بالاجتهاد دون أهلية، ومن هنا يستمر الأزهر في أداء رسالته التاريخية في نشر الاعتدال والتعايش والتسامح في الداخل والخارج".

طباعة شارك الدكتور شوقي علام شوقي علام المنهج الأزهري الأزهر التدين الأزهري

مقالات مشابهة

  • ندوة لمناهضة العنف ضد المرأة فى جامعة الفيوم
  • هل تشعر الحيوانات؟ وهل تمتلك وعيا؟
  • وضع ستار على الأضرار التي لحقت بحاملة الطائرات ترومان اثناء خطاب ترامب.. صور
  • وزير الري: الجيل الثاني لمنظومة الري ينقل مصر من الإرث إلى الريادة
  • الإرث النضالي في الخطاب الإنتخابي
  • الإفتاء: تعليم المرأة أمر مطلوب شرعًا كالرجال
  • اليوم العالمي للطفلة.. الفتاة السعودية نموذج في المساواة والتمكين
  • هل تشهد إيران تحولا في خطاب النخب السياسية عن الحجاب؟
  • خطان متوازيان ...ويلتقيان
  • شوقي علام: المنهج الأزهري الأشعري حمى مصر من التطرف الفكري