التغييروفوبيا: هل فشلت الثورات أم فشل المؤرخون لها؟ (2-2)
تاريخ النشر: 15th, April 2024 GMT
عبد الله علي إبراهيم
ذاعت فينا عبارة إننا فشلنا في ثوراتنا الواحدة تلو الأخرى حتى أدمناه. ولم نراجع هذا القول بفشل ثوراتنا وحيثياته نقدياً وأخذناه عمياناً أمسكوه عكازاً. وزكت الدوائر الأكاديمية أخيراً كتاباً مبتكراً في تحليل فشل الثورات للمؤرخ البريطاني كرستوفر كلارك عنوانه "الربيع الثوري... أوروبا المشتعلة والنضال لعالم جديد 1848-1849" (نيويورك: كراون 2023) قال فيه "إن نجاح الثورات الأوروبية وفشلها سؤال طارد الكتابة التاريخية عنها لأجيال"، ومن رأيه إن القول بفشل الثورة هو من صنع المؤرخين للثورات.
وعملاً بقول كلارك فربما كان هذا النعي للثورة السودانية بالفشل من صنع من كتبوا عنها، وفشل الثورة دون تحقيق مقاصدها موضع اتفاق بين كتّاب سودانيين قيموا أثرها في حياة أهلهم، وسنركز على كتاباتهم عن ثورة أكتوبر 1964 لأنها أول الثورات والكتابة عنها أكثر من غيرها، فقال عميد الصحافة السودانية محجوب محمد صالح الذي رحل منا منذ أسابيع إنه ينطبق على ثورة أكتوبر القول إنها "ثورة لم تكتمل"، وهكذا تم حسابها على عودتنا من النتيجة المنتظرة منها في صناعة سودان جديد بخفي حنين، وكل شيخ وله طريقة في بيان كيف قصرت الثورة من دون الغاية وفشلت. وعرضنا لنظرا حسن عابدين وسلمان محمد سلمان وعبد الوهاب الأفندي ممن قالوا بفشل ثورة أكتوبر أو بسوء فهمها. ووقفنا عند ما في الحلقة الماضية عند تفشيل النور حمد لثورة أكتوبر.
اتفق الأكاديمي النور حمد مع غيره في أن "ثورة أكتوبر" لم تحقق من شعاراتها التي رفعتها شيئاً يذكر، وجاء النور لمعنى الثورة الخديج بقوله إنها "سرعان ما أجهضت بعد أربعة أشهر من قيامها وأجهزت عليها الانتخابات العاقبة بعودة الأحزاب التقليدية للحكم على غير توقعات القوى الحديثة التي قامت الثورة على أكتافها". وجاء النور في تقييمه بمحاكمة تلك القوى المتطرفة التي أشعلت العداء للأحزاب التقليدية وطوائفها، في حين لا تملك هي التأثير القوي الذي تملكه الطائفة ولا البديل الحقيقي للطائفية، والثورة عند النور لم تفشل وحسب بل كان فشلها متعدياً على التاريخ من بعدها أيضاً، فقال إنه متى نظرنا إليها في سياق صورة السياسة السودانية المجملة سنرى تلك الثورة أعادت عقارب الساعة إلى الوراء، فهي قد أعادت النظام الديمقراطي الأعرج الذي ظلت تسيطر عليه القوى الطائفية منذ لحظة الاستقلال، فأدخلت المسيرة السياسية في سلسلة من الممارسات المعوجة والأخطاء القاتلة، كان حصادها النهائي وصول الإسلاميين إلى السلطة في البلاد.
أما تشوش المؤرخين حيال "ثورة أكتوبر" فأظهر ما يكون عند كاتب مصقع مثل منصور خالد، الأكاديمي والسياسي ذو الصولات، لا في ما بين كُتبه بل وللغرابة في كتاب واحد من كتبه الكثيرة، فقال في كتابه "النخبة السودانية وإدمان الفشل، الجزء الأول" (صفحة 42) إنه يطلق على أكتوبر صفة "الثورة" للتبسيط لا غير، فالثورة عنده صناعة للتاريخ ولها مقومات لم تتوافر فيها، إلا أنه ذهب في صفحة 75 من الكتاب نفسه مذهباً اختلف 180 درجة عنه في صفحة 42، فسماها ثورة صريحاً بتحفظ عابر على محدودية ميثاقها وصفويته، ولكنه قال إنه لا يعادلها في الخطر التاريخي سوى مؤتمر الخريجين (1938) الذي لعب دوراً مميزاً في الحركة الوطنية ضد الاستعمار الإنجليزي، فقوامها شارع تقوده قوى حديثة مصممة على الانعتاق من ربقة القديم إلى رحاب الجديد، وهو انتقال إلى لب السياسة، فكانت الثورة عليه صيحة لنبذ الرث القديم ومقدمة لأجندة عريضة لإعادة بناء السياسة السودانية بواسطة قوى حديثة مدعوة لشحذ فكرها ومنهجها.
وعدد الجديد الذي جاءت به "ثورة أكتوبر"، فهي عنده أبرزت قضية الجنوب كأولى قضايا الحكم والسياسة بانعقاد مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965، وحولت بشكل عام الخلاف من اقتتال حول الكراسي إلى خلاف حول جوهر الحكم، وفرضت ما سماه "عدوى التغيير" على القوى التقليدية فصارت تلهج بالاشتراكية مثلاً ولو لغطاً.
قال الشاعر الدبلوماسي محمد المكي إبراهيم في أغنية ذاعت على لسان الموسيقار محمد وردي منذ الثورة إلى يومنا كالنار في الهشيم، "كان أكتوبر في أمتنا منذ الأزل"، وهي لمن نظر إلى أبعد من أرنبة عاجل أمره معنا منذها إلى يومنا، وهو ما عناه كلارك بقوله إن الثورات ليست مثل الجلوس لورقة امتحان تنجح فتكرم أو تفشل فتهان وتفرغ من الأمر، فالثورة لم تكن وحسب، بل هي كائنة في ما بعدها من تاريخ إلى الأبد أيضاً، فميز منصور خالد "ثورة أكتوبر" بأنها أبرزت قضية جنوب السودان في مؤتمر مائدة مستديرة بحضور أفريقي وعربي مهيب في فبراير (شباط) عام 1956، فلم تعد بعده القضية شغب صفوة جنوبية يوسوس لها المبشرون المسيحيون كيداً للإسلام.
ولم ترع دولة الإنقاذ (1989) حرمة هذا الوعي فجاهدت الحركة القومية الجنوبية لتسلم لها عن يد صاغرة، حتى اضطرت إلى التفاوض معها في اتفاق السلام الشامل (2005) الذي منحها حق تقرير المصير وعبرت به للانفصال، وتلك قصة أخرى.
وبتأثير "ثورة أكتوبر" وسعتها للديمقراطية نشأت حركات الهامش مثل نهضة أبناء دارفور واتحاد جبال النوبة ومؤتمر البجا، وخاض الأخيران الانتخابات العامة عام 1965 وما بعدها بكسب مرموق منها، ولم تثبت هذه المنظمات عند النضال المدني طويلاً واختارت حرب التحرير في ظروف جفت فيها الديمقراطية.
أما أمر منح "ثورة أكتوبر" حق المرأة في التصويت فعجيب، لأن فيه مصداقاً لقول كلارك إن "القوى المتصارعة لا تخرج من الثورة على حالها وكأن الثورة فاصل ونواصل"، وخلافاً لذلك تخرج هذه القوى وقد علق بها من الثورة عالق، وهذا ما حدث للحركة الإسلامية، فكانت رائدات فيها استقلن من الاتحاد النسائي السوداني عام 1954 لأنه طالب قبل انتخابات الحكم الذاتي بمنح المرأة حق التصويت، وقلن إنه مما لا يجيزه الإسلام.
ومن غرائب الصدف أن سعاد الفاتح، الوجه البارز في الانشقاق على الاتحاد النسائي المار ذكره، فازت بعد مرور ثلث قرن من موقفها ضد منح المرأة حق الاقتراع والترشيح بمقعد برلماني في انتخابات عام 1986، وكان وراء ذلك التغير تجديد الدكتور حسن الترابي للحركة الإسلامية بعد صعوده لقيادتها بعد "ثورة أكتوبر"، فقال إنه نظر لتوافد النساء على أروقة الحزب الشيوعي في الانتخابات وغيرها يطلبن التحرر من ربقة التقاليد، وقال في نفسه لماذا لا يكون تحررهن بواسطة الإسلام، فكتب في هدأة السجن كتابه "المرأة بين الإسلام وتقاليد المجتمع" (1973)، وتدارسه مع إخوانه في السجن وخارج السجن وبعض رفاقه خارج السودان في تكتم خشية أن يخرج للعلن فيفسد قبل أن يتوطن في أفئدة الجماعة، فكان جاء فيه باجتهادات جريئة في فقه الإسلام وطنت المرأة في ميدان السياسة كما لم يطرأ للإسلاميين من قبل، وصارت الحركة الإسلامية بعد نشر الكتاب قبلة للنساء، وسمّى الترابي ذلك "كسباً" في كتابه "الحركة الإسلامية: المنهج والكسب (1989). ويروى عن رئيسة الاتحاد النسائي وأول نائبة برلمانية عام 1965 عن اليسار، فاطمة أحمد إبراهيم، قولها بسعادتها لفوز سعاد الفاتح وزميلاتها في برلمان عام 1986، فهن عندها نساء قبل أن يصرن إسلاميات.
ومع ذلك فأكبر أبواب النعي للثورية السودانية واليأس من التغيير في أثرها، وهي الحال التي سمتها كاتبة نبيهة بـ "التغييرفوبيا"، هو المثال الأسطوري الذي حدثنا كلارك عنه والذي نحمله في رؤوسنا عن الثورة كلحظة طلق، ينهض بها طلاب التغيير ويحطمون العالم القديم ويبنون من فوقه دولة تطابق صورتهم لما ينبغي أن يكون عليه العالم، ونسأل سؤال كلارك: "هل من ثورة في الدنيا تطابقت مع هذا المعيار الضيق".
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: ثورة أکتوبر
إقرأ أيضاً:
ثورة اللمس .. رقعة جلدية ذكية تحول اللمس إلى نصوص واستجابات رقمية
صراحة نيوز- تمتلك بشرة الإنسان قدرة مذهلة على استشعار أنماط دقيقة من الضغط والحركة والتوقيت، بينما تقتصر معظم الأجهزة الرقمية الحالية على تسجيل نقرات بسيطة وحركات محدودة. هذا الفارق دفع العلماء لاستكشاف جيل جديد من تقنيات اللمس، يشمل قفازات مزوّدة بحساسات دقيقة، وأساور ترصد تغيّرات طفيفة في الضغط، وأس surfaces تفاعلية تبث اهتزازات دقيقة.
مستقبل الواجهات اللمسية يبدو الآن أقرب إلى دمج الذكاء الاصطناعي بالجسد نفسه، حيث يتحول الجلد إلى منصة تواصل رقمية كاملة. ومع ذلك، فإن الكثير من هذه المحاولات لا يزال محدود القدرات، غير قادر على التقاط الإيماءات المعقدة أو تقديم ملاحظات لمسية غنية بالمعلومات.
أحد التحديات الرئيسية يكمن في أن النص الرقمي يعتمد على نظام ASCII المكوّن من 128 رمزاً، بما يشمل الحروف والأرقام وعلامات الترقيم. تحويل هذا النظام إلى إشارات لمسية محسوسة يمثل مهمة صعبة، إذ يجب تمثيل كل حرف بطريقة يمكن إدراكها باللمس فقط، دون الحاجة للبصر أو السمع.
إلا أن التطورات الحديثة في المواد اللينة والذكاء الاصطناعي بدأت تفتح آفاقاً جديدة للتفاعل اللمسي. فقد ظهرت دوائر إلكترونية قابلة للتمدد تتحرك مع الجلد، ومستشعرات هلامية تلتقط القوى الدقيقة، ومحركات صغيرة تنتج اهتزازات مميزة، إلى جانب خوارزميات ذكية قادرة على تفسير الإشارات المعقدة في أجزاء من الثانية.
وفي هذا الإطار، كشفت دراسة نشرت في مجلة Advanced Functional Materials عن رقعة جلدية ناعمة تعمل كواجهة لمسية تحول اللمس إلى نص، وترسل ردود فعل نصية عبر الجلد. تعتمد الرقعة على مزيج من حساسات أيونية إلكترونية، دوائر مرنة، ومحركات اهتزاز صغيرة، إضافة إلى نموذج ذكاء اصطناعي يميّز أنماط الضغط، ما يتيح تمثيل جميع أحرف ASCII الـ128 عبر اللمس فقط، وفقاً لموقع Nanowerk.
الرقعة مصنوعة من دائرة نحاسية قابلة للتمدد مثبتة على بوليميد مرن، ما يسمح لها بالانحناء والالتواء دون تلف، وتغطيها طبقة سيليكون ناعمة تمنحها صلابة تشبه الجلد الطبيعي (435 كيلو باسكال)، لتكون مريحة للارتداء والإزالة. يعتمد المستشعر الرئيسي على مصفوفة أيونية إلكترونية تتغير سعتها عند الضغط على طبقة من ورق الأرز المغطى بالهلام، حيث يلتقط قطب نحاسي هذه التغيرات ويحوّلها إلى بيانات رقمية. لتطبيق النص، يُقسم كل حرف ASCII إلى أربعة أجزاء ثنائية، ويحدد عدد الضغطات خلال ثوانٍ معدودة قيمة كل جزء، بينما تصل الاستجابة للمستخدم عبر نبضات اهتزازية متناسبة مع الجزء الممثل.
ولتقليل الحاجة إلى بيانات ضخمة، ابتكر الباحثون نموذجاً رياضياً يحاكي سلوك الضغط الحقيقي بأربع مراحل: الارتفاع، الذروة، الانخفاض، والعودة.
تم اختبار الرقعة في سيناريوهين عمليين:
كتب مستخدم عبارة “انطلق!” عبر سلسلة من الضغطات، فترجمها الحاسوب فوراً مع إرسال تأكيد لمسي دون النظر.
استخدمت الرقعة للتحكم في لعبة سباق، حيث تحرك الضغطات السيارة، وتشير شدة الاهتزاز إلى قرب المركبات الأخرى، فكل اهتزاز أقوى يعني خطراً أكبر.
بهذه التكنولوجيا، يبدو مستقبل الواجهات اللمسية أقرب إلى دمج الذكاء الاصطناعي بالجسد، ليصبح الجلد منصة تواصل رقمية كاملة.