هكذا تربعت إيران على منصة الإبداع الاستراتيجي المبني على الردع والدفاع عن النفس

 

د. قاسم بن محمد الصالحي

حق الدفاع عن النفس من المواضيع التي استخدمها الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين، وفي سرديته الكاذبة لتبرير ارتكابه الإبادة الجماعية في غزة، وإذا كانت مواقف العالم الغربي المساند للصهاينة، والرعاية الأمريكية للكيان، لا تنسجم مع حياة مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ولا مع مشاعر وأحاسيس، واعتبارات عواطف وكرامة الشعوب، ناهيك عن حقوق البقاء والحريات على الأرض، في حين، أن حقوق هذه الشعوب هي أس الاستحققات الأصيلة لكل شعوب المنطقة، والدفاع عنها حق قانوني وأخلاقي لدول المنطقة في استخدام القوة أو التصرف لحماية أمنها أو الآخرين من أي تهديد أو خطر يهدد السلامة أو الحياة، كون أن الدفاع عن النفس، يعد جزءًا من حقوق الإنسان الأساسية المعترف بها عالميًا.

إذا كانت مواقف وقرارات العالم الغربي قد قارنت في هذا الجانب بين السردية الفاضحة لوجود كيان استعماري أصطنع على أرض فلسطين، ودفاع أصحاب الأرض عن أنفسهم وعرضهم ومالهم، وسرديتهم لحقهم المسكوت عنه، وذلك بناءً على سلسلة دفاعات، تتناول قضايا الإنسان الفلسطيني في مواجهة الحياة، التي شكل القتل، والتنكيل، والسجون، العنصرية، عناوين بارزة لأغلفة أو لفصول وجود الكيان الصهيوني، ووصف أفعاله على الأرض، وفي أهلها، لما اعتمرت سردية الكيان الصهيوني دوائر صنع القرار الغربي، أعتقد أنها حققت نجاحًا ملحوظًا لأوساط المجتمعات الغربية وتلك المتصهينة على حد سواء، خاصةً لما جمعت هذه السردية بين توظيف الخيال الواسع في الوصف وأسلوب الكذب الذي يتميز به اليهود الصهاينة، والتباكي في التعبير في نقل الحدث أو الأحداث وإيصال فكرة الدفاع عن النفس.

وحسبنا أن نشير هنا إلى: ما يحدث في كل الأراضي الفلسطينية، والاعتداء الأخير على القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية دمشق، فإن المشترك بين سردية الكيان الغاصب، ودفاع أصحاب الأرض عن أنفسهم نجده أخذ عند الغرب والمتصهينين طابع الانحياز التام لجهة الكيان المحتل، خاصةً في ما يتعلق بالبوح وإضاءة الأمكنة المظلمة في حياة الفلسطينيين ومعاناتهم، وتعرية أساليب القمع والقهر والتسلط والاستغلال والتمييز وباقي أشكال الحط من كرامة كل ما هو فلسطيني، وكراهيته وتعذيبه إلى حد القتل، والتصفية الجسدية للمقاومين ومن يقف معهم أو يساندهم.

سلوكيات العنف والقهر والقتل والمعاناة النفسية اليومية التي يمارسها الكيان المحتل في حق الفلسطينيين، والتي تجسدها أحداث غزة وما تلاها من اعتداءات ارتكبها الصهاينة على أراضي دول إقليمية بعد طوفان الأقصى، هي التي طالت الجمهورية الإسلامية الإيرانية في قنصليتها بدمشق؛ لأن الكيان الغاصب بقدر ما هو كيان أوهن من أن يواجه الجمهورية الإيرانية الإسلامية، هو أداة خلقت على أرض فلسطين لحماية أطماع الغرب في منطقة الشرق الأوسط.

هكذا تربعت إيران على منصة الإبداع الاستراتيجي ليلة 14 أبريل، والمبني على الردع والدفاع عن النفس، فكان ردها على الاعتداء الصهيوني لا يقتصر هذه المرة على الشجب والوعيد، دون محاولة أو جرأة منها على تخطي أنماط الرد الموجودة، من حيث القوة والأهداف، إنما الرد الإيراني هذه المرة تعدى قوالب التعامل الجاهزة التي كانت سائدة وشائعة مع هذا الكيان اللقيط، ووصلت بها الجرأة إلى مستوى فضح الكيان الصهيوني وكشف وهنه وعورته، وإلزامه بتكريس الحقوق الكونية التي أقرتها الاتفاقيات والمواثيق الدولية، من هنا فإنَّ حق الدفاع عن النفس الذي مارسته إيران، ودفاعها عن قضية ومعاناة الشعب الفلسطيني، إضافة إلى نظرتها الخاصة لتموجات الأحداث في الإقليم، صارت تتداول داخل محور المقاومة الإقليمية وخارجها، وصارت تتنفسها شعوب المنطقة نفسيًا وسياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، وتترقب الفعل الإيراني تمامًا كما تترقب هلال الشهر.

وتأسيسًا على ما تقدم، يمكن القول إنه إذا كانت الردود الكلاسيكية تجاه ما يقترفه الكيان الصهيوني المُغتصِب في فلسطين قد أغنت المُتصهْينين بحب حياة الخنوع مع الكيان الصهيوني، فإن الرد الإيراني تحوَّل إلى آلية سلاح لمناهضة أساليب القبول بالكيان المصطنع، ورافعة أساسية تتوق إلى صون حقوق الفلسطينيين وكرامتهم كاملة غير مجزأة.

بطبيعة الحال، لست راغبًا هنا في إثارة إشكالية الماضي والحاضر ومناصريهما، بقدر ما أريد أن أوضح أنَّ الحق يُحفظ بالمطالبة مهما تقادم الزمن، فالظالم لم يأخذه قرضًا أو استعارة يعيده فيما بعد، والفلسطينيون وبفعل التحالف ضدهم، وعدم استعدادهم، وقعوا ضحايا التجاذبات العالمية وتنافسات الأقوياء من خارج الإقليم، واليوم هم أقرب لاستعادة حقهم من أي وقت مضى.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

السودان بعد حرب أبريل: من مخاطر التقسيم إلى تفكك الدولة!

الواثق كمير

[email protected]
تورونتو، 9 ديسمبر 2025

المقدمة
منذ انفصال جنوب السودان عام 2011، واجه السودان منعطفًا تاريخيًا حاسمًا أصبحت فيه بنية الدولة أكثر هشاشة من أي وقت مضى. وفي مطلع عام 2013، وفي ظل توتر سياسي متصاعد وأزمة اقتصادية خانقة وتنامٍ ملحوظ للنزاعات في الأطراف، نشرت ورقة تحليلية تناولت مستقبل الدولة السودانية عبر ثلاثة سيناريوهات رئيسية: 1) إما بقاء الوضع حينئذٍ على ما هو عليه مع إصلاحات شكلية، أو 2) انزلاق البلاد نحو تفكك مُتدرّج للدولة، أو 3) الوصول إلى تسوية سياسية شاملة تُعيد تأسيس الشرعية وتمنع الانهيار. (الواثق كمير، “الكرة في ملعب الرئيس: تفكك الدولة السودانية ….السيناريو الأكثر ترجيحاً!”، سودانايل، 11 فبراير 2013).
لم تكن الورقة محاولة للتنبؤ بقدر ما كانت قراءة لبُنية الأزمة ولمنطقها الداخلي، حيث أكدت أن تجاهل متطلبات التسوية التاريخية—باعتبارها المدخل الوحيد لمعالجة جذور الصراع—سيجعل من سيناريو التفكك هو الأكثر احتمالاً. ومع اندلاع الحرب في أبريل 2023، وتغير طبيعة النزاع بشكل جذري، تبرز الحاجة لإعادة ربط اللحظة الراهنة بالسيناريوهات التي عُرضت في 2013، ليس للمقارنة التاريخية فحسب، بل لاستخلاص الدروس العملية التي يمكن أن تُسهم في وقف الحرب وصياغة مسار جديد لإعادة تأسيس الدولة.

تفكك الدولة: السيناريو الأكثر ترجيحاً!

حرب أبريل 2023 لم تكن مجرد تصعيد جديد للصراع، بل شكلت منعطفًا نوعيًا في مسار النزاعات السودانية. ظهور لاعب جديد على المسرح، قوات الدعم السريع، وتحالفه العسكري والسياسي مع جهات محلية وإقليمية، وتسيطره على كامل إقليم دارفور وأجزاء من غرب وجنوب وشمال كردفان وجنوب النيل الأزرق، مع إعلان حكومة ودستور لدولة، جعل الواقع السياسي والجغرافي أكثر تعقيدًا. وبينما الانفصال السلمي قد لا يكون ممكنًا—مخالفًا لما حصل في جنوب السودان—يظل سيناريو تفكك الدولة الأكثر ترجيحاً.

ثلاثة عوامل رئيسة تعزز هذا الترجيح:

التدخل الإقليمي وتضارب المصالح: تشاد وإثيوبيا وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان، بدعم من الإمارات، من جهة، ومصر وإرتريا من جهة أخرى، تشارك في الصراع بشكل مباشر وغير مباشر. خاصة بعد سيطرة الدعم السريع على حقول النفط في منطقة هجليج، وخروج الفرقة العسكرية للجيش السوداني، ودخول الجيش الشعبي من جنوب السودان والتنسيق المشترك مع الدعم السريع لحماية المنشآت الحيوية. هذا التعقيد الإقليمي يجعل من إدارة الأزمة الداخلية دون تفكك الدولة أمراً بالغ الصعوبة.

إمكانية انفجار صراعات محلية جديدة:
بافتراض سيطرة الدعم السريع على كل دارفور وأجزاء من كردفان، وحتى في حال توجهه نحو انفصال هذه المناطق، فإن غياب توافق شعبي وسياسي حول تقرير المصير كما حدث في الجنوب يفتح الباب أمام حرب “أهلية” جديدة بين مجموعات دارفور الأخرى ذات الأصول الأفريقية (الزغاوة، الفور، المساليت، البرتي، الداجو، التنجر، التامة، الميدوب، الفلاتة، القرعان، وغيرهم) وبين حواضن الدعم السريع الاجتماعية من ذوي الأصول العربية. ذلك، بجانب أنّ هناك الحركات المسلحة التي تتباين مواقفها السياسية من هذه الحرب ومستقبل دارفور، مما قد يُنبئِ باستمرار النزاع. هذا الصدام الداخلي يزيد احتمالات التفكك ويؤكد هشاشة الدولة.
الشروخ داخل التحالفات العسكرية والسياسية: تبرز احتمالات تصدع داخل التحالف الحكومي بين الجيش السوداني والحركات المُشكلّة ل “القوة المشتركة”، بجانبِ المجموعات المسلحة الأخرى المُقاتلة مع الجيش في شرق ووسط وشمال البلاد، في سياق التنافس على الأنصبة في السلطة والثروة. بينما ليس من المستبعد أنّ هذا التصدع قد يُصيب التحالف العسكري لقوات الدعم السريع مع الجيش الشعبي شمال وحركات دارفور المنشقة النى انضمت إلى تحالف “تأسيس”، ما ينذر بتفكك الدولة على الصعيد العسكري والسياسي، ويعقد جهود السيطرة على كامل التراب الوطني وإعادة الشرعية، حيث تصبح الولاءات متناقضة والمصالح متضاربة، مما يُضعف القدرة على إدارة الدولة بشكلٍ موحد وفعال.
بالنظر إلى هذه العوامل، يبدو أن السودان بعد أبريل ليس على حافة الانقسام فحسب، بل على طريق خطير نحو تفكك الدولة—الذي طرحته في ورقة 2013— الذي ما زال هو السيناريو الأكثر ترجيحاً بعد حرب أبريل، يعكسه واقعٌ متناميٌ على الأرض.

الخاتمة
ما كشفته الحرب ليس مجرد أزمة عابرة بل تحذير صارخ بأن وحدة الدولة السودانية مهددة على نحوٍ غير مسبوقٍ. فبعد مرور أكثر من عقد على السيناريو الذي رسمته في الورقة التحليلية لعام 2013، حول تفكك الدولة أصبح أقرب من أي وقتٍ مضى، مُعززاً بتدخلات إقليمية مُعقدة، صراعات داخلية حادة بين المكونات المجتمعية والسياسية، وشروخ في التحالفات العسكرية. اليوم لا يمكن معالجة الوضع عبر الإجراءات الشكلية أو الحلول الجزئية. إنّ ترجيح كفة تفكك الدولة يُحتم على القيادات السياسية وصانعي القرار التفكير بجدية في مسارات حل سلمي شامل، يُعيد تأسيس الشرعية، ويضع الأسس لانتقال مستدام يحمي السودان من الانهيار الكامل.
فبدون تبني مسار تسوية سياسية شاملة قادرة على دمج كل الأطراف، واستعادة الدولة من جديد، ستظل المخاطر قائمة، والبدائل محدودة، فيما يعاني الشعب السوداني من آثار النزاع وتشتت السلطة وفقدان المؤسسات. إنّه اختبار حقيقي لقدرة الدولة السودانية على تجاوز أخطر أزماتها منذ الاستقلال.

الوسومالواثق كمير

مقالات مشابهة

  • حروب الشيطنة إنقاذ لسمعة الكيان الصهيوني
  • عاجل: فضيحة إعلامية للانتقالي: قتلى وجرحى شبوة كانت بسبب محاولة سرقة شيول تابع لوزارة الدفاع وقيادي جنوبي ينفي استهداف قوات دفاع شبوة بطيران مسيّر
  • مقررة أممية تنتقد توقيع كوستاريكا اتفاقية التجارة الحرة مع الكيان الصهيوني
  • “حماس” تدين بشدة قرار حكومة بوليفيا استعادة علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني
  • إسقاط 31 طائرة مسيرة أوكرانية كانت تحلق باتجاه موسكو
  • «الأونروا»: حقوق الإنسان تشمل لاجئي فلسطين ولا يجوز تطبيقها بانتقائية
  • نتنياهو يواصل الدفاع عن لجنة إخفاقات السابع من أكتوبر رغم تشكيك المعارضة في نزاهتها
  • في اليوم العالمي لحقوق الإنسان.. برلمانية: حماية الكرامة مسؤولية وطنية
  • إيرواني: يجب على العالم أن يتحرك بحزم لإنهاء الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة
  • السودان بعد حرب أبريل: من مخاطر التقسيم إلى تفكك الدولة!