غزة واستعادة خطاب الاستقلال الوطني
تاريخ النشر: 16th, April 2024 GMT
تعلّمنا من الحكيم طارق البشري (1933- 2021) – المفكر والقاضي والمؤرخ المصري- أن هناك ثلاثة مكونات أساسية لمفهوم الاستقلال الوطني: سياسي، واقتصادي (أو تنموي)، وحضاري. ولمن لا يعرف مفهوم الاستقلال الوطني من الأجيال الشابة، فالمقصود به الاستقلال من هيمنة المستعمر، الذي كان في منطقتنا، أساسًا، غربيًا.
يقصد البشري بالمكوّن السياسي استقلال الإرادة السياسية؛ للتعبير عن الصالح الوطني العام، وكان مظهرها البارز إلغاء التواجد العسكري الأجنبي على أرضنا العربية.
استند الاستقلال الوطني لمفهوم السيادة بالمعنى التقليدي، الذي يتضمن عدم تدخل الدول في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، كما شهد تطورات تاريخية متعددة: ففي مرحلة ما قبل الاستعمار -التي امتدت من الربع الثاني من القرن التاسع عشر حتى الستينيات من القرن العشرين- كان التركيز من الحركة الوطنية العربية على فكرة الاستقلال السياسي عن المستعمر، وامتزجت بها المطالبة بالمسألة الديمقراطية، كما عبر عنها حزب الوفد المصري، وجلّ الحراك في الدول العربية المختلفة.
تقدمنا خطوة في مرحلة المد القومي العربي في الخمسينيات والستينيات ليضافَ إلى البعد السياسي بعد تنمويّ غرضه تلبية احتياجات الناس الأساسية، مقابل حرمانهم من حريتهم السياسية، وكان قمة هذا التوجه هو حركة التأميم والتمصير التي بدأها عبد الناصر (1954-1970)، واكتملت بتأميم النفط العربي، والذي بدأ بعد الحظر النفطي العربي 1973. كان لايزال – حتى ذلك التاريخ- يكتسب التوجه نحو الاستقلال الاقتصادي قوة دفع ذاتية من أواخر الخمسينيات حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي.
قُصد بالمكون الحضاري أو الثقافي؛ قدرتنا على تقديم نموذج قيمي يعبر عن تطلعات الناس في نظرتهم للكون والحياة وموقع الإنسان فيهما، بما يخالف ما تطرحه الحضارة الغربية في هذا المجال.
ليس غرض هذا المقال هو تتبع إلى ماذا آلت هذه المكونات الثلاثة في واقعنا الحالي، ولا حتى مناقشة الأسس المعرفية والسياسية التي يستند إليها هذا المفهوم.. ولكن غرضه هو زيارة جديدة للمفهوم في ضوء الحرب الوحشية والإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون في ظل تواطؤ رسمي عربي بيّن، وخذلان شعبي ممتزج بالعجز.
ملاحظات ست أولًا: نمط الحكم المطروح في المنطقة اليوم هو النمط الاستبدادي الحداثي النيو ليبرالي: مكونات ثلاثة تضاد مكونات الاستقلال الوطني جميعًا. ثانيًا: نظرية الأمن الإقليمي تعتمد أساسًا على المكون الخارجي؛ فقد عجزت النظم العربية جميعًا عن توفير الأمن إلا بالاعتماد على مزود خارجي، وهو الولايات المتحدة أساسًا، خاصة في مرحلة الحرب الباردة. لقد أصبح الوجود العسكري للولايات المتحدة في المنطقة أكثر وضوحًا، وعليه طُلب من كثير من البلدان؛ لمواجهة التهديدات الخارجية – خاصة من قبل إيران وحلفائها اليوم، وقبلها صدام حسين – كما جرى في حرب الخليج الأولى 1991. ثالثًا: مكونات عربية تمتلك الوفورات المالية والقدرات الاستثمارية الهائلة ما مكّنها من أن تكون جزءًا متماهيًا ومندمجًا في بنية الرأسمالية المعولمة. هي تسعى – خاصة في حقبة الربيع العربي، التي بدأت موجتها الأولى في العقد الثاني من هذا القرن – للسيطرة السياسية والاقتصادية والثقافية أيضًا.في الأولى قادت ثورة مضادة لوأد الحراك الديمقراطي في المنطقة، وفي الثانية: رهنت القرار الاقتصادي الوطني لكثير من دول الإقليم لتدفقات معوناتها واستثماراتها وللمنظمات المالية الدولية – كصندوق النقد الدولي، وثالثًا، فمن خلال السعي لامتلاك القوة الناعمة، والترويج لنموذج دبي – باعتباره درة التاج فيه – فإنها تسعى للهيمنة الثقافية أيضًا.
هل هناك علاقة بين حديث توماس فريدمان -كاتب العمود في النيويورك تايمز- السمج عن المقارنة بين نموذج المقاومة وما أدى إلى دمار، في مقابل نموذج غزة/دبي الذي يبشّر بالمنّ والسلوى، أو بين قاهرة الجمهورية الجديدة، وعاصمتها الإدارية وبين ما أشرت إليه في السطور السابقة؟ – ربما.
لم تكتفِ هذه المكونات العربية بالأدوار السابقة، بل موّلت – ولاتزال- عددًا من الحروب الأهلية العربية في السودان، واليمن، وليبيا، وسوريا. رابعًا: قوى إقليمية غير عربية – أقصد إيران أساسًا وتركيا إلى حد ما- احتلت بالسياسة والسلاح عددًا من العواصم العربية، بالإضافة إلى الاحتلال العسكري المباشر لأراضٍ عربية، كما في شمال سوريا. خامسًا: أثبتت حرب غزة أن اتفاقات التطبيع – في طبعاتها القديمة والأبراهامية الجديدة- هي نموذج أكبر لدور يشبه السلطة الفلسطينية في الضفة، الذي تحولت فيه إلى عبء على المقاومة، وتطلعات الشعب الفلسطيني الذي يطالب أغلبه بحلها، وفق استطلاعات الرأي.
أحد المكونات الأساسية لاتفاقات التطبيع، هو الحفاظ على أمن إسرائيل من تهديد الشعوب العربية، وبالطبع المقاومة الفلسطينية، وزادت الطامة أن نموذج الحكم النيو ليبرالي الأوتوقراطي الحداثي يجب أن يزوّدها بمقومات الحياة من غذاء وسلع -إن حوصرت- وعليه أن يضمن الأمن في غزة في اليوم التالي، ويحوّلها إلى دبي البحر المتوسط. سادسًا: لقد تفككت الروابط التاريخية بين الدول الأوروبية وأجزاء من أفريقيا وأميركا الجنوبية، وآسيا إلى حد كبير، حيث لم تعد الدول المستقلة تذعن لأولئك الذين استعمروها ذات يوم.
وبالنسبة للكثير من دول الجنوب اليوم، فإن الاعتماد على الماضي الاستعماري القائم على المساعدات والتجارة لا يكفي لتلبية احتياجات البلدان النامية. يعتمد نموها الحالي والمستقبلي على تنويع علاقاتها أو التخلص من العلاقات القديمة لصالح علاقات جديدة. مجموعة البريكس التي تمثل 30٪ من حجم الاقتصاد العالمي أحد الأمثلة على ذلك، بالإضافة إلى موقف الانقلابات الأفريقية الأخيرة من التواجد العسكري الفرنسي والأميركي على أراضيها. مكونات الاستقلال الوطني
ما الذي تعنيه هذه الملاحظات الست وغيرها لمفهوم الاستقلال الوطني؟ أو بعبارة أخرى؛ مفهوم الاستقلال الوطني اليوم: ضد من، وعمّن؟
أولًا: تحرير الإرادة السياسيّة بالديمقراطية، وهنا أحيل للقراءة الديموقراطية لمأساة غزة التي قدّمها الرئيس التونسي السابق د. منصف المرزوقي -على موقع الجزيرة- التي يستنتج منها أن "للديمقراطية دورًا مركزيًا في مأساة غزة، وإن بآليات ومداخل مختلفة، سواء بإجهاضها في مصر، وقتلها في رام الله، وإفسادها في إسرائيل، وابتزازها في أميركا".يضيف المرزوقي بعدًا آخر لاستنتاجه وهو: الفشل الواضح للثورة المضادة في كل بلدان الربيع العربي، وانهيار صورة الاستبداد؛ نتيجة جبنه وتقاعسه أمام مأساة غزة، مما يعني أن الحراك الثوري عائد إلى الساحة قريبًا بحفيظة أقوى ضد أنظمة يمكن القول فيها: "أسد عليّ وفي الحروب نعامة". ثانيًا: تحرير القرار الاقتصادي الذي تم ارتهانه للشركاء الإقليميين والدوليين وللمنظمات المالية الدولية. هذا التحرير مقصده الجوهري هو تقرير السياسات العامة لصالح فئات اجتماعية أوسع مما هو مطروح الآن، فمع نموذج النيو ليبرالية فإن تقرير السياسات تضطلع به نخبة ضيقة تقرر لصالحها وتحرم فئات عريضة من المواطنين من الاستفادة، وتكتفي ببعض برامج الحماية الاجتماعية التي تؤدي – في النهاية- لتخفيف معاناة هذه الفئات دون أن تغير من أوضاعها شيئًا.
هل هناك علاقة بين انتشار الفساد وزيادة التفاوتات في الدخول والفرص والثروات وبين السياسات الاقتصادية والمالية المطبقة؟ وهل هناك علاقة بين حالة الخذلان الشعبي العربي الممتزج بالعجز، وبين الإنهاك السياسي والاقتصادي الذي تعاني منه هذه الشعوب، كنتيجة حتمية للسياسات النيو ليبرالية الشرسة وعلو، وطغيان الثورة المضادة؟
يرتبط المكون الأول بالثاني – أي السياسي بالاقتصادي- والثاني بالأول من زاويتين: السياسات الاقتصادية والمالية المطبقة لصالح من؟ ومن له حق تقرير السياسات باستقلال، بما يضمن أن تكون لصالح فئات اجتماعية متسعة من المواطنين؟ ثالثًا: إدراك طبيعة التحالف الذي يقود الاستعمار اليوم، هو لم يعد طرفًا خارجيًا يهيمن بقوة السلاح؛ وإنما تحالف يضم حكومات تنتمي إلى المنطقة لها تموضعها في النظام الرأسمالي العالمي، وتلعب وظائف لصالحه، كما تتحالف مع بعض مكوناته، ولكن لها أيضًا امتدادها في الداخل الوطني بالتشبيك مع أجزاء من هياكل الدولة، بالإضافة إلى بعض القوى المستفيدة من سياساتها المالية – كفئات من رجال الأعمال- أو قوى عسكرية ذات امتداد اجتماعي، كقوات الدعم السريع في السودان، وخليفة حفتر في ليبيا.
في هذا البعد يمكن النظر من الخارج إلى الداخل، أو من الداخل للخارج؛ بمعنى أن هناك أصحاب مصلحة في هياكل الدولة العربية ومحسوبيات عصبية بالمعنى الخلدوني -مالية أو قبلية أو طائفية- تسعى إلى الإقرار والحفاظ على امتيازاتها عبر التحالف والاندماج في الشبكات الإقليمية والدولية المعولمة، بما يضمن تحقيق الصالح لهم، لا الصالح العام لفئات عريضة من الشعوب. رابعًا: المكونات الثلاثة السابقة، من شأنها أن تغير طبيعة السلطة العربية التي بات تغييرها في قلب معركة الاستقلال الوطني بمعناه الذي أقدّمه في هذا المقال.
بعد حرب 1948 تغيرت ستة نظم عربية، لكنه تغير اكتشفنا بعد عقود أنه تغير في القائمين والمسيطرين على هيكل السلطة فقط، وليس تغيرًا في طبيعتها وجوهرها الأساسي. خامسًا: أظهرت حركة الاحتجاج العالمية على الحرب في غزة، أننا لم نعد بإزاء نموذج غربي يتطلب لمواجهته تيارًا أساسيًا، وإنما بصدد نموذجين يتوزع عليهما العالم في شرقه، وغربه، وجنوبه، وشماله. في الأول، نسترد فيه إنسانيتنا من خلال الحرية والعدالة للجميع، وفي الثاني، يصير فيه العالم متوحشًا غير قابل للعيش فيه. سادسًا: امتلاك نظرية للأمن الجماعي تتضمن ثلاثة مكونات أساسية: أمن إنساني للشعوب يحافظ على الأمن القومي للدول، واستبعاد إسرائيل منه؛ فقد أتت الحرب على غزة على التصورات التي حاولت الاتفاقات الأبراهامية أن تروج لها بدمج الكيان الصهيوني في نظامنا الأمني، وأخيرًا وليس آخرًا؛ إعادة صياغة دور المزودين الخارجيين للأمن لتقتصر وظيفتهم على المساندة والدعم لنظام أمن جماعي، يضمن مصالح الأطراف في الإقليم، ولا يهدد الاستقرار العالمي.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات الاستقلال الوطنی من القرن فی هذا أساس ا
إقرأ أيضاً:
م عبدالرحيم فتحي البقاعي يكتب: الاستقلالُ التاسعُ والسَّبْعُونَ للمملكةِ الأردنيَّةِ الهاشميَّةِ وَطَنٌ وُلِدَ منَ التَّحدِّي ويَكبُرُ على الثَّوابتِ
صراحة نيوز ـ عبدالرحيم فتحي البقاعي
لا يُمكِنُ أنْ يَمرَّ عيدُ استقلالِنا التَّاسعِ والسَّبْعِينَ مرورَ الكِرامِ، ونحنُ نعيشُ في إقليمٍ يَموجُ بالتَّحوُّلاتِ، وتَتَساقَطُ فيه دولٌ كانتْ تُعدُّ راسخةً، بينما يَبقى الأردنُّ شامخًا بثوابِته، راسخًا بنظامِه، عصيًّا على الفوضى والانكسارِ.
هذه ليستْ مصادفةً، بل نتيجةٌ لمسيرةِ وعيٍ وطنيٍّ، وصبرٍ سياسيٍّ، وحكمةٍ مَلَكيَّةٍ بدأتْ منذُ لحظةِ التَّأسيسِ، وما زالتْ مستمرَّةً بثقةٍ وثباتٍ.
لقد وُلِدَ هذا الوطنُ من رَحِمِ التحدِّي، فلم يكنِ الاستقلالُ في الخامسِ والعشرينَ من أيَّارَ عامَ 1946 مجرَّدَ انسحابِ قوَّةٍ استعماريَّةٍ، بل كان تتويجًا لنضالٍ وطنيٍّ طويلٍ، ونتاجًا لفكرةٍ كُبرى حملَها الشَّريفُ الهاشميُّ عبدُالله الأوَّلُ، الذي لم يرضَ يومًا أنْ يكونَ الأردنُّ بَديلًا عن طموحاتِ الثَّورةِ العربيَّةِ الكُبرى، بل رآه نواةً لمشروعٍ قوميٍّ، تتشكَّلُ فيه الهُويَّةُ، وتُبنى فيه الدولةُ التي تحملُ الرِّسالةَ.
خمسَةٌ وعشرونَ عامًا بينَ التأسيسِ والاستقلالِ، كانت كفيلةً بأنْ تتجذَّرَ في الأرضِ بذورُ الدولةِ، وتُبنى أولى مؤسَّساتِها، ويتشكَّلَ عقدٌ اجتماعيٌّ مُبكِّرٌ بين القيادةِ والشَّعبِ.
عقلانيَّةُ الملكِ المؤسِّسِ لم تكنْ تراجعًا، بل كانتْ رؤيةً تتقدَّمُ على زمنِها؛ فالأردنُّ لم يُبنَ على استعجالٍ، بل على حِكمةٍ وتدرُّجٍ وشرعيَّةٍ.
ولأنَّ المشروعَ كانَ كبيرًا، كان لا بدَّ أنْ تُدفَعَ الأثمانُ، فارتقى الملكُ عبدُالله الأوَّلُ شهيدًا على عتباتِ المسجدِ الأقصى، وهو يُجسِّدُ التزامًا لا يتزحزحُ بقضيَّةِ العربِ الأولى: فلسطين.
واستلمَ الرِّايةَ من بعدِه الملكُ طلال، صاحبُ الدُّستورِ الذي شكَّلَ خارطةَ الطَّريقِ لنظامِ حُكمٍ نيابيٍّ ملكيٍّ وراثيٍّ، وأرسى بنيانَ دولةِ المؤسَّساتِ، وأقرَّ إلزاميَّةَ التَّعليمِ ومجَّانيَّتهِ، ومهَّدَ لمرحلةٍ دستوريَّةٍ ناضجةٍ قادرةٍ على تجاوزِ العواصفِ.
ثمَّ جاءَ عهدُ الحسينِ، الذي لا يمكنُ اختصارُهُ بفقرةٍ أو سطرٍ، فقد حَمَلَ الأردنَّ على كَتِفَيه، في وقتٍ كانتْ فيه الخريطةُ السياسيَّةُ للمنطقةِ تَنقلبُ رأسًا على عقبٍ.
صمدَ الأردنُّ في وجهِ الحروبِ، وموجاتِ اللجوءِ، والانقلاباتِ، والمدِّ القوميِّ الجارفِ، وبقيَ ثابتًا لا يَميلُ عن بوصلتِهِ، ولا يَنجرفُ وراء شعاراتٍ زائفةٍ.
الحسينُ، بحكمتِه وعقلِه النيِّرِ، قادَ وطنًا صغيرًا بإمكاناتِه، كبيرًا بدورِه، فبَنى دولةَ المؤسَّساتِ، ورفعَ شأنَ التَّعليمِ، وأرسى منظومةَ الأمنِ والاستقرارِ، حتى صارَ الأردنُّ في عهدِه واحةً للسلامِ، ومنارةً للعقلانيَّةِ في محيطٍ مضطربٍ.
ومع مطلعِ الألفيَّةِ، سلَّمَ الحسينُ الرِّايةَ لوليِّ عهدِه جلالةِ الملكِ عبدالله الثاني ابنِ الحسين، بعد أن أعدَّهُ إعدادَ القادةِ، وربَّاهُ على مبدأِ الخدمةِ لا السُّلطةِ.
ومنذ اللحظةِ الأولى، واجهَ الملكُ المعزَّزُ مشهدًا دوليًّا وإقليميًّا شديدَ التعقيدِ؛ أحداثُ الحادي عشرَ من أيلولَ، واحتلالُ العراقِ، والحربُ على الإرهابِ، ثمّ رياحُ الرَّبيعِ العربيِّ وما أعقبَها من فوضى أطاحت بثوابتٍ وقِيَمٍ وقادةٍ ودُوَلٍ.
لكنَّ الأردنَّ، بفضلِ قيادتِه، لم يتردَّدْ في اتخاذِ القرارِ الصَّعبِ: التقدُّمُ إلى الأمامِ.
فأطلقَ جلالةُ الملكِ التعديلاتِ الدستوريَّةَ الرَّائدةَ عام 2011، سَبقَت حتى المطالباتِ الشعبيَّةِ، ثمّ جاءتْ رؤيةُ التحديثِ الشَّاملةُ بثلاثيَّتِها: السِّياسيِّ، والاقتصاديِّ، والإداريِّ، لتُؤكِّدَ أنَّ الأردنَّ لا يَكتفي بالنَّجاةِ، بل يسعى للنَّهضةِ، رغم قلَّةِ المواردِ، وضيقِ الحالِ، وضغطِ الإقليمِ، ومؤامراتٍ حاكَها الخصمُ والصَّديقُ معًا.
اليومَ، ينظرُ العالمُ إلى الأردنِّ بإعجابٍ: دولةٌ دستوريَّةٌ مستقِرَّةٌ، ذاتُ جيشٍ محترفٍ، وأجهزةٍ أمنيَّةٍ يقظةٍ، ومجتمعٍ متماسكٍ رغم تنوُّعِه، وقيادةٍ شرعيَّتُها من التاريخِ، ومن الإنجازِ، ومن الثقةِ التي لم تهتزَّ يومًا.
هذا الاستقرارُ لم يأتِ بالمصادفةِ، بل هو نتيجةُ عقدٍ اجتماعيٍّ نادرٍ، لم يُكتبْ بالحِبرِ فقط، بل كُتبَ بالدَّمعِ والتَّعبِ والتضحياتِ.
عقدٌ جعلَ منَ الهاشميينَ رموزًا وطنيَّةً جامعةً، ليسوا مجرَّدَ حُكَّامٍ، بل قادةُ أمَّةٍ حقيقيُّونَ، حاضِرونَ في وجدانِ النَّاسِ، وفي تفاصيلِ حياتِهم، وضَربوا أروعَ الأمثلةِ في الاشتباكِ الإيجابيِّ بينَ القيادةِ الحكيمةِ والشَّعبِ الوفيِّ، الذي يصبو إلى دولةٍ ينصهرُ فيها الجميعُ في فسيفساءٍ وطنيَّةٍ فريدةٍ بينَ الأممِ.
إنَّ الحفاظَ على هذا الوطنِ مسؤوليَّةُ كلِّ أردنيٍّ.
فالاستقلالُ لا يُقاسُ بإعلانٍ سياسيٍّ، بل بالقدرةِ على حمايةِ المُنجزِ، والتَّطلُّعِ إلى الأفضلِ.
علينا أن نَخلعَ شوكَنا بأيدينا، وأنْ نُؤمنَ أنَّ الأردنَّ لكلِّ الأردنيينَ، وأنَّ وحدتَنا الوطنيَّةَ هي حِصنُنا الأولُ، وأنَّ العلمَ والعملَ هما سِلاحُنا الحقيقيُّ في وجهِ التحدِّياتِ، لتبقى رايتُنا مرفوعةً في السَّماءِ، يعتزُّ بها الأردنيونَ جميعًا.
ورغمَ كلِّ الضغوطِ، لم تَنْحنِ رايتُنا يومًا.
ظلَّ الأردنُّ في صفِّ الحقِّ، مدافعًا عن القدسِ، وعن فلسطينَ، وعن القيمِ العربيَّةِ التي تتعرضُ للتشويهِ، دون أنْ يُساوِمَ أو يُهادِنَ.
لم نُتاجِرْ بالمبادئِ، ولم نَخُنِ الأشقَّاءَ، وبقينا الحضنَ الدَّافئَ لكلِّ مظلومٍ، والملاذَ الآمنَ لكلِّ من ضاقتْ به الدنيا.
كلُّ عامٍ والوطنُ بألفِ خيرٍ،
كلُّ عامٍ والرايةُ خفَّاقةٌ،
كلُّ عامٍ وملكُنا المعزَّزُ عبدالله الثاني ووليُّ عهدِه الأمينُ الحسينُ بن عبدالله في عزٍّ وثباتٍ،
وكلُّ عامٍ وشعبُنا الأردنيُّ العظيمُ يكتبُ صفحةً جديدةً في كتابِ المجدِ والكرامةِ