اعتاد الرئيس المصري الراحل أنور السادات (1970-1981م)، منذ اندلاع ثورة الخبز (18- 19 يناير/ كانون الثاني 1977م)، ضده، وحتى رحيله على وصفها بـ "انتفاضة الحرامية"، مع أنها شعبية خالصة، اندلعت عفويًا وتلقائيًا لتشمل مصر كلها من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها. وذلك على خلفية صدور قرارات حكومية بزيادة أسعار مجموعة من السلع الأساسية.
هذا الوصف للسادات (انتفاضة الحرامية)، وغيره من الأوصاف المماثلة.. دأبت غالبية حكومات العالم العربي، على إلصاقها، بأي "حراك طلابي أو شعبي"، على غير هواها.. تشويهًا، ووصمًا له بـ "مؤامرة"، تباشرها قلة مندسة، من مثيري الشغب، تنفيذًا لأجندات خارجية، بقصد التخريب، وضرب أمن البلاد واستقرارها.
اشتعال الغضبتذكّرت هذه الأوصاف، والمفردات المُعتادة في عالمنا العربي، بمناسبة ثورة طلاب الجامعات الأميركية.. المُستعرة؛ نُصرة لفلسطين، ورفضًا لحرب الإبادة الإسرائيلية – المدعومة أميركيًا- لسكان قطاع غزة.. وطلبًا لوقف الاستثمارات المالية الجامعية الداعمة لدولة الاحتلال، وجيشها.
هذه "الثورة" في مواجهة التوحش الإسرائيلي.. اشتعلت شرارتها الأولى، قبل أيام، من "جامعة كولومبيا"، بمدينة نيويورك الأميركية. رئيسة الجامعة الدكتورة نعمت شفيق (مينوش)، مصرية الأصل.. مُحاكاةً منها لأساليب القمع والتعاطي الأمني في العالم الثالث.. استدعت شرطة نيويورك لقمع الاحتجاج، وفض اعتصام الطلاب، واعتقال بعضهم، واصفة إياهم بـ "المتسللين" لإثارة الشغب، وتعطيل الدراسة، وقامت بفصل عدد من الطلاب والأساتذة المتضامنين معهم من الجامعة. ازداد الغضب اشتعالًا، وانتشارًا لعدوى الاحتجاجات، التي وصلت إلى 75 جامعة أميركية، وتسللت إلى جامعات فرنسية وكندية، وأسترالية، والحبل على الجرار.
تمويل حماس وإيرانأصاب ذلك الإدارة الأميركية بالارتباك، ودفع إدارات الجامعات- تحت ضغط النواب الصهاينة في الكونغرس- إلى سلوك ذات النهج الأمني، بجلب الشرطة للتعاطي مع الطلاب بقسوة وغلظة ومصادرة حرياتهم في التعبير. عمليًا، أفضى القمع إلى عناد جموع الطلاب الثائرة، لصالح القضية الفلسطينية، وانكشاف الدعاية الصهيونية، وأكاذيبها، بشكل غير مسبوق في الولايات المتحدة الأميركية، الداعم الرئيسي، المتكفل بدولة الاحتلال.
مُذهل، هو اندفاع الإعلام التقليدي الأميركي والغربي، لترديد "اتهامات سخيفة، فضفاضة"، للطلاب، مُستعارة من قاموس مفردات العالم النامي، على شاكلة دعم الإرهاب، ونشر العنف، والتخريب.. بتمويل من حماس، وإيران. لم يبقَ إلا أن تكون هناك "مؤامرة كونية" على أميركا لضرب استقرارها. هذا، مع إنزال تهمة "مُعاداة السامية" التي يُختزل معناها في نشر الكراهية لليهود، والتحريض عليهم.. لتكون هذه التهمة سيفًا على رقاب "الناقدين" للكيان الصهيوني، أو الرافضين ممارساته الهمجية المتوحشة بحق الشعب الفلسطيني، لذبحهم وتصفيتهم معنويًا، حتى ولو كانوا مئات الآلاف من الطلاب.
نبل وشفافيةلطلاب الجامعات الأميركية، كما أقرانهم في العالم، قُدرة على قيادة المجتمعات إلى التغيير للأفضل، فالطلاب، قوة هائلة.. متطورة، لا يُستهان بها.. مُلهمة، وجاذبة للمجتمع كله. يمتلكون نقاءً وصفاءً، ونبلًا، وشفافية، وحماسة الشباب، وقدرة على العطاء تدفعهم إلى النضال، وتحدي الصعاب، في صلابة، حال آمنوا بعدالة قضيتهم.
مما يعين الطلاب الأميركان في ثورتهم، امتلاكهم العلم والمعرفة، واعتناقهم قيم التعاون، وقبول الآخر، ونبذ التعصب، مع تحررهم من أسر الأفكار المُسبقة، الفاسدة. فقد شهدت الولايات المتحدة عام 1968 احتجاجات طلابية مناهضة للحرب الأميركية على فيتنام، انطلقت، وللمصادفة، من جامعة كولومبيا، وجرى قمعها، وقُتل عدد من الطلاب بالرصاص الحي، ما أسهم في انتقالها إلى عموم الولايات المتحدة الأميركية، والضغط على صانع القرار لوقف الحرب، لاحقًا.
في نفس العام شهدت مصر (فبراير/ شباط)، احتجاجًا طلابيًا (كان التعليم بحالة جيدة)، انطلق من جامعة القاهرة، ثم، عين شمس.. رفضًا لـ "الأحكام" الصادرة عقابًا لقادة سلاح الطيران، إذ يراها الطلاب، مُخففة.. كون القادة المحكومين، تسببوا في هزيمة عام 1967، بعدما تمكن الطيران الإسرائيلي من تحييد سلاح الطيران المصري، بتدمير الطائرات المصرية في مرابضها. حسب روايات شهود هذه الفترة، فإن الرئيس جمال عبد الناصر (1956- 1970م)، الموصوف بالدكتاتور، حين علم، بعزم الطلاب، على التظاهر، تنديدًا بأحكام قضية الطيران، وطلبًا لتشديدها.. أعطى تعليماته بتأمين المظاهرات، مُحذرًا من المساس بالطلاب.
عبد الناصر.. وحماقة نعمت شفيقعبد الناصر، أدرك بحسه السياسي أن الحماقة، والصدام مع طلاب الجامعات، قد يشعلان الشارع المصري، فأوعز إلى وزير الحربية بـ "إلغاء الأحكام"، وإعادة محاكمة القادة، وهو ما نشرته صحيفة الأهرام في اليوم التالي. من الغريب، أن "عبد الناصر"، وهو المُستبد.. تعاطى بذكاء سياسي فائق مع تظاهرات الطلبة عام 1968. كان أكثر حنكة، من الأميركان (سواء عام 1968، أو 2024).. رغم أنهم رُعاة الديمقراطية ودُعاة الحرية وحقوق الإنسان في العالم.. أو هكذا، كنا نظن. إلى أن أظهرت ثورة الطلاب الأميركان أن هذه القيم التي تباهِي بها الولايات المتحدة، وتتيه بها فخرًا على الدنيا.. يتم التضحية بها؛ لقمع الشباب الأميركي، ومصادرة حرياته إرضاء للكيان الصهيوني.
إسقاط الهيمنة الإسرائيليةمن حُسن الحظ، وتداعيات "طوفان الأقصى"، أن حماقة رئيسة جامعة كولومبيا "نعمت شفيق"، باستدعاء الشرطة للصدام مع الطلاب.. أنتجت أثرًا عكسيًا. فقد قدمت خدمة جليلة لـ "القضية الفلسطينية"، لنشهد ربيعًا فلسطينيًا في أميركا. كما أشعلت ثورة الطلاب الأميركان، الآخذة في التمدد لتشمل أوروبا.. لتكون "نعمت شفيق"، أهم أدوات إسقاط "الهيمنة الإسرائيلية" عن عرشها في عقول الأميركان، والأوروبيين، وصُنّاع القرار فيهم.
ليس من المُستبعد – على المدى الطويل نسبيًا – إعادة الولايات المتحدة النظرَ في دعمها غير المحدود للكيان الصهيوني، بعدما ضربت "ثورة الطلاب"، أُخطبوط الهيمنة الإسرائيلية على العقل الأميركي، والأوروبي تزامنًا، مع انكسارات "جيش الاحتلال" في قطاع غزة، رغم كل أسباب القوة التي يمتلكها، وانكشافه هشًا، مُجردًا من الردع المزعوم.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات الولایات المتحدة عبد الناصر نعمت شفیق
إقرأ أيضاً:
لماذا تراجع سفر الكنديين إلى الولايات المتحدة هذا العام؟
ألبرتا- في مثل هذه الأيام من كل عام، كانت الأجواء بين كندا والولايات المتحدة تعج بالرحلات الجوية للسياح، لقضاء إجازة فصل الصيف، لكن ولأول مرة منذ عقود عدة، تشهد هذه المسارات تراجعًا غير مسبوق، بعدما شكلت هذه الرحلات شريان حياة اقتصادي وسياحي بين الجارتين.
بدأت التوترات السياسية بين كندا والولايات المتحدة في فبراير/شباط من هذا العام، عندما صرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بضم كندا إلى الولايات الأميركية، ثم عندما فرضت إدارته رسومًا جمركية على السلع الكندية مدعيةً مخاوف أمنية على الحدود.
وردّت كندا بإجراءات مماثلة بفرض رسوم على المنتجات الأميركية، ما أثار حالة من الغضب والاستياء الشعبي، وأطلقت حملات مقاطعة واسعة ضد السلع الأميركية والسفر إلى الولايات المتحدة.
حجوزات متراجعة نحو أميركاووفقًا لتقرير صادر هذا الشهر عن منظمة بيانات وتحليلات الطيران، فإن شركات الطيران، مثل "طيران كندا"، و"ويست جيت"، و"يونايتد إيرلاينز" قلصت رحلاتها إلى وجهات أميركية رئيسية مثل لوس أنجلوس وشيكاغو وأورلاندو، مع إعادة توجيه تركيزها نحو وجهات محلية ودولية تعتبر أكثر ربحية.
وأشار التقرير إلى بيانات وإحصاءات لافتة، أبرزها:
إلغاء أكثر من 320 ألف مقعد على الرحلات بين البلدين حتى نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2025، وذلك استنادًا إلى مقارنة البيانات بين الفترة من 3 إلى 24 مارس/آذار 2025. شهرا يوليو/تموز وأغسطس/آب 2025، وهما ذروة موسم السفر الصيفي، شهدا أكبر انخفاض في السعة بنسبة 3.5% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. رغم الاستقرار العام في سعة الرحلات خلال الصيف، إلا أن التحديثات الأسبوعية الأخيرة أظهرت اتجاهًا تنازليًا واضحًا في عدد المقاعد المتاحة. كما انخفضت حجوزات الركاب على الخطوط الجوية بين كندا والولايات المتحدة بنسبة 70% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024، في مؤشر واضح على التراجع الكبير في الطلب على السفر عبر الحدود. إعلانوقالت إيمي بوتشر، نائبة رئيس الشؤون العامة في جمعية صناعة السياحة الكندية، إن الكنديين اختاروا تجنب زيارة الولايات المتحدة هذا الصيف.
وأضافت أن السفر جوًا تراجع بنسبة 22.1% في يونيو/حزيران الماضي مقارنة بالعام السابق، بحسب بيانات هيئة الإحصاء الكندية، كما انخفضت رحلات العودة الكندية بالسيارة بنسبة 33.1%.
وأشارت بوتشر، في بيان نقلته شبكة "سي بي سي" الكندية، إلى أن السياحة تُعد واحدة من أقوى المحركات الاقتصادية في كندا، حيث بلغت عائداتها 130 مليار دولار كندي ( نحو 95 مليا دولار) في عام 2024، منها 75% من السفر المحلي.
كما أكدت هيئة الإحصاء، أن الإنفاق السياحي في كندا من المقيمين ارتفع بنسبة 0.8% في الربع الأول من عام 2025، مدفوعًا بشكل أساسي بالإنفاق على الإقامة.
حملات مقاطعة الكنديين السفر نحو أميركاويعزو الخبراء الانخفاض الحاد في الطلب إلى مزيج من العوامل السياسية والاقتصادية.
ويقول الدكتور زياد الغزالي، الخبير الاقتصادي من مقاطعة أونتاريو، إن تصريحات ضم كندا كولاية أميركية، أثارت موجة من السخط الوطني، وقد انعكست هذه الموجة في حملات مقاطعة السفر إلى الولايات المتحدة، خاصة بعد الرسوم الجمركية التي فرضها دونالد ترامب، ولغة التهديد والوعيد التي استخدمها في تصريحاته تجاه أوتاوا.
ويضيف الغزالي، في حديث للجزيرة نت، أن تراجع قيمة الدولار الكندي بنسبة 6% هذا العام، إلى جانب زيادة أسعار تذاكر السفر، وارتفاع تكاليف المعيشة في البلاد، جعل السفر إلى الولايات المتحدة أكثر تكلفة على المواطن الكندي.
ويستطرد: "إلى جانب تباطؤ سوق العمل وارتفاع معدلات البطالة إلى 7% في مايو/أيار الماضي، وهي الأعلى منذ عام 2016 باستثناء فترة جائحة كورونا، فقد ساهم هذا التدهور في تقليص ثقة المستهلك الكندي وقدرته على الإنفاق على السفر".
إعادة جدولة الرحلات وتغيير الوجهات بعيدا عن أميركاوانعكس هذا التراجع الكبير في سفر الكنديين إلى الولايات المتحدة مباشرة على شركات الطيران الكندية، ما دفعها إلى اتخاذ إجراءات عاجلة بتعديل جداول رحلاتها الصيفية، وتقليص سعة الرحلات المتجهة جنوبًا، وإضافة المزيد من المقاعد والوجهات الجديدة، مع التركيز على "أسواق القوة" في أوروبا والوجهات السياحية المشمسة.
فشركة "ويست جيت" الكندية، ثاني أكبر ناقل بعد "الخطوط الكندية"، أعلنت أنها قلّصت عددًا من رحلاتها بين كندا والولايات المتحدة، كما ألغت تسعة مسارات جوية في مايو/أيار الماضي، استجابة للانخفاض الكبير في الطلب.
وعللت هذه التعديلات بالتوترات الجيوسياسية القائمة بين البلدين، وتزايد الإقبال على تجارب السياحة الداخلية.
أما شركة "الخطوط الكندية"، فقد أعلنت في وقت سابق عن انخفاض بنسبة 10% في الحجوزات المتجهة نحو الولايات المتحدة، ابتداء من منتصف مارس/آذار الماضي وحتى الأشهر الستة المقبلة.
وإثر ذلك، بدأت الشركة بخفض الطاقة الاستيعابية، وإعادة تركيز عملياتها نحو وجهات في أميركا اللاتينية وأوروبا، وفق ما نقلته وسائل إعلام محلية.
ويقول مشغل السياحة في مقاطعة أونتاريو، فؤاد علي، إن الرحلات الجوية والبرية والبحرية نحو الولايات المتحدة انخفضت عموما بنسبة 38%، مرجعًا هذا التراجع إلى التوترات السياسية والتجارية، والرسوم الجمركية المفروضة على كندا.
إعلانوأشار في حديثه للجزيرة نت، إلى أن المواطنين الكنديين، سواء كانوا عربًا أم أجانب، يتوجهون بشكل كبير في رحلاتهم الداخلية إلى غرب كندا، خاصة إلى مدينة فانكوفر.
وفي السياق ذاته، قررت المواطنة شيرل راتزلاف من مقاطعة ألبرتا تغيير وِجهة سفرها هذا العام إلى تركيا بدلًا من الولايات المتحدة.
وقالت لـ"الجزيرة نت": "إن تغيير وِجهة السفر يعود للتوترات السياسية والرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي على بلادنا، والتصريحات التي تدعو إلى ضم كندا كولاية أميركية، لذلك قررت قضاء إجازتي أنا وزوجي في مدينة إسطنبول التركية".
وتجولت "الجزيرة نت" منتصف الأسبوع في صالات المغادرة والوصول في مطار كالغاري الدولي، بمقاطعة ألبرتا، حيث لوحظ نشاط لافت في صالات وصول الرحلات الداخلية القادمة من المقاطعات الأخرى، في المقابل، بدت صالات المغادرة المخصصة للرحلات الدولية، لا سيما المتجهة إلى الولايات المتحدة، في حالة من الركود والانخفاض الواضح في الحركة، مما يعكس صورة ميدانية لما يعيشه قطاع السفر الكندي من تغيرات جذرية هذا الصيف.