فاطمة الحارثية
نقف اليوم كآباء ومُربين وأولياء أمور ومسؤولين أمام تحديات جسام، فالعولمة صنعت الشك والحيرة في سكينة المعتقد، وزعزعت الطاعة والقبول والثقة، حتى بات للخبرة والحكمة اختلاف مصطنع تتنازع عليه الأجيال حتى في التعريفات، والنجاة كان وسيبقى في عمق القيم والمبادئ والأخلاق الأصيلة، والتي لابد من التمسك بها والحفاظ عليها وتمكين العادات والتقاليد الأصيلة بعيدا عن الغريب الوحشي، وهنا اقصد النابعة من تكاتف الأسر والمجتمعات، وننئ بأنفسنا الثقافات المقلدة والدخيلة، وهذا يوجب القول أن وبالرغم من تقادم السلوكيات الدخيلة علينا منذ الانفتاح في أواخر القرن الماضي، لا يعني أن ما تعود عليه البعض ونشأ فيه هو الأصالة والمطلوب.
ولبس الأقنعة عادةٌ تعلّمَها البعض من أجل الحفاظ على مصالح معينه، ونجد باطنهم وفعلهم عكس كلماتهم الرنانة وتمثيلهم الزائف، ومن وقاحة البعض يأتون بشهود زائفين مثلهم، ويخلقون من لا شيء نمط لا دليل فيه غير كلمة تم انتهاك قوتها وأثرها. نحن من نصنع من الآخر قوة ونضع له مقاليد وطقوس التبجيل، حتى تخال نفسه والغريب القادم، أنه ذو شأن وأن الحياة بنعيمها وشقائها بين كفيه؛ والحقيقة أن لا يوجد للناس هوية غير أخلاقهم، وأصالة القصد والعمل الخالص لوجه الله، إن أكبر تحدي نجده في هذا الزمن الزائف الحصول أو إيجاد الكوادر الأمينة المؤهلة للثقة، وهنا الثقة سلاح ذو حدين، فإمّا أن تكون في شر أو خير، فالبعض وَثِقَ بالسامريّ وأفقدهم الجنة، والآخر وثق بهارون وموسى وأتم على نفسه النعمة، والبعض الآخر لم يثق حتى في نفسه، فغاب في الزحام وغياهب التيه.
إذن.. ما نحتاجه اليوم لُحمة الثقة ومساحة الفرص، وقبلها أن نثق بأنفسنا ونعمل على بناء أعمدة الثقة والإيمان أن جميع الطرق وكل ما يحصل وكل ما نعمله حصاده مُسلم به، فإما الحصاد نعمة رضا الله أو غضبه؛ وبكل تأكيد لا شأن ولا دخل في أي وقت أو مجال كان أو حدث رضا الآخر أو غضبه، فالآخر مهما بلغ وأصبح لا ولن يملك لي ولك نفعا وأو ضرا إلا بإذن الله.
فأين الخلل؟ اليوم يُصبح الطفل إلى المدرسة يجتهد ويبذل ما يستطيع لينال رضا معلمه حتى يُعطيه مكافأة الدرجات، ثم يعود إلى المنزل ليجتهد حتى ينال رضا أبويه أو ولي أمره لينال تذكرة الخروج للعب أو بعض المنافع. ونفس الحال في شبابه، حين يدخل الجامعة وبعدها آلام الرضوخ والمنافسات في فترة البحث عن عمل، حتى يدخل في معترك العمل، ويبدأ في جهد إرضاء البيئة التي يعمل فيها لينال الزيادات والامتيازات والترقيات، وينشغل ويُغامر ويتعلم ويتشبث وأمور وأحداث لا تنتهي. وخلال الرحلة التي يكررها معظمنا، في لهو ومتعة لإرضاء النفس، والسعي نحو إشباع شهواتها ورغباتها، لتغلبنا الحياة عند سلم التقاعد، هذا إذا بلغ بنا العمر عتيًا، ثم تهزأ بنا النفس وتقول لنا: أين الثمين في هذا الثرى، أين من كان ويجب أن تسعى نحو رضاه، منذ اللحظة الأولى؟ أكان عليك بذلك كل هذا الجهد لإرضاء كل هذا الكم من الناس؟ أن تذل وأنت مُكرم عند من منحك الحياة والوجود؟ أين هم عنك الآن؟ العزة لمن علم عظمة لله ومنة الله عزوجل وحده لا شريك له.
إدراك عمق الأثر الذي نشكله عند صياغ واستخراج كنوز القوى البشرية، لتتناسب مع الحاجة والمطلوب في رحلة الإنسان للبناء وتعمير الأرض، نحن لسنا هنا عبثا، ولا جهد يُبذل دون عائد فيه ومنه، وأكثر ما يُظهر حدود وعينا البسيط جًدا، غفلتنا عن أمر هو عظيم عند الله عزوجل وهي الكلمة، والتي هي ميزان أعظم من أن نستطيع جميعا أن نقيسها مهما بلغنا من علم وعلوم؛ فسبحان الله في قوله رغم الإقرار بأنه عدو له (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)، فسبحان الله، وعجبي ممن يستهين بالجوهر الحقيقي في هذه الحياة. إن تعزيز عمق الوعي الفكري وتقارب الأفكار والأهداف والإيمان بالمصير الواحد، وأهمية التعاضد للنجاح المشترك والوصول معا كأخلاء، أمر فيه نجاة لنا، وعكس ذلك من جهود مبذوله في التوافه لن ننال بعدها إلا الخسارة والندم.
ثقافة المعتقد الذي يسهل ترجمتها من خلال القيم والمبادئ الأصيلة الإنسانية المشتركة، والوحدة في تعظيم التآلف والتناغم في الأداء الواجب علينا كقدر مُسلم به يعيش الكثير من التحديات في الزمن الراهن، وكما قال لي احدهم في الأمس القريب: "الاندهاش يقع على قدر علم المتلقي"- وأنا أضيف- وأيضا على قدر فهم ووعي المرسل وقدرته على سرد الإدهاش.
سمو...
تستمر الحياة، ونستمر في الاستمتاع والقبول بالمعجزات والمتغيرات التي يصنعها الله لنا بنا ومنا، وصدق قائدٌ قال: وكل أمر الله خير.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
رحلة في عقل مُلحِد
بدر بن خميس الظفري
@waladjameel
لطالما اقترنت كلمة "الإلحاد" في نظر الكثيرين بذلك التيار الفكري الخطر، الذي ما إن يُذكرُ في مجلس واقعي أو افتراضي، حتى تجد أعصاب الناس قد اشتدت، وقلوبهم ارتجفت، وعقولهم استفزت. يدخلون في نقاشٍ حاد، يدعون إلى مصرع الإلحاد.
ومع تفهُّمنا لكل تلك المشاعر الغاضبة، إلا أنها لن تقدم حلًّا لظاهرة الإلحاد، بل ستزيدها تعقيدًا يصعب تفكيكه.
وحتى لا يساء فهمنا، ونُتَّهَم بما ليس فينا، نريد أن نُؤكد أننا في هذا المقال، لا نكتب للدفاع عن الإلحاد، ولا لتمرير منطقه؛ بل لنفهمَ بهدوء كيف بدأ التشكيك في وجود الله، وكيف تكوّن إنكارُ خَلْقِهِ تعالى لهذا الكون، وكيف تشكلت تلك الأسئلة التي بدت لكثير من المُلحِدين طريقًا للخلاص، رغم أنها قد تقود إلى متاهات أعمق. فما من سؤال إلحادي وُجِّه للإيمان إلا وقد تصدى له الدين وبينه.
غير أنَّ الحوار، حتى يُحقق هدفه، لا بُد من أن نفهم محتواه فهمًا عميقًا، وأن نُفصِّل محاوره تفصيلًا دقيقًا. ولهذا، دعونا نذهب في رحلة في عقل المُلحِد، لنستكشف شواطئ فكره، ونعْرُج إلى قلبه، لنتحسس عواطفه ومشاعره.
إن عقل المُلحِد، ليس ساكنًا ولا فارغًا؛ بل تيار متحرك فائض بالأسئلة الشائكة، تيار لا ينقطع من الحيرة والشك، والرغبة في أن يكون للكون منطقٌ معقول. في داخله، لا شيء مستقر على حاله، ولا إجابة مقدسة، فكل فكرة تمُر على عقله لا بُد أن يغربلها أولًا بغربال من الأسئلة.
هو لا يهاجم الإيمان بدافع الحقد؛ بل يفتِّش عن إجابة تُرضي العقل قبل أن تُريح القلب. قد يكون مرّ بتجربة فقدٍ، أو صُدم بنفاقٍ باسم الدين، أو عُنّفَ وهو يسأل، فهرب إلى نفي كل المُسلَّمات وإنكارها.
وليس غريبًا أن يكون بعض هؤلاء قد قرأوا كتاب "الرب ليس عظيمًا" للكاتب والصحفي البريطاني الأمريكي كريستوفر هيتشنز، الذي لم يكتفِ بنقد الدين؛ بل أقام عليه دعوى فكرية يتّهمه فيها بإفساد كل شيء.
في هذه المرحلة من رحلة المُلحِد، لا يمكن التعامل معه بالعنف أو الخطابة أو التخويف، لأن كل هذه الأدوات، بالنسبة إليه، تُذكّره بما دفعه للبعد عن الإيمان من الأصل. هو لا يثق في صوت الوعظ العالي، ولا يخاف من عذاب الجحيم، ولا يهتم بالوعد والوعيد. هو يريد حوارًا بنّاءً، لا جلسة في محكمة.
المُلحِد لا يتبع دينًا، لكنه لا يخلو من منهج يتبعه، فلكل منهم منهج أو أكثر.
بعض المُلحِدين نزعتهم فلسفية، يُؤسسون موقفهم على قضية “الشر” التي تؤرقهم. يتساءلون: كيف يمكن أن يوجد إله عادل، وهناك أبرياء يموتون تحت القصف أو أطفال يموتون من البرد؟ وكما ذكر المفكر الأمريكي جورج سميث في كتابه “القضية ضد الإله”، فإنَّ كثيرًا من المُلحِدين لا يرون في هذا التساؤل تشكيكًا في الدين فحسب؛ بل يعدونه تفكيكًا لصورة الإله الكامل.
مُلحِدون آخرون يبنون منهجهم الإلحادي على غياب الأدلة التجريبية الحسية. وهذا ما أشار إليه الفيلسوف وعالم الأعصاب الأمريكي سام هاريس، في كتابه “رسالة إلى أمة مسيحية” حين قال إن المُلحِدين لا ينكرون وجود الله بقدر ما ينكرون الإيمان بشيء غير محسوس؛ فليس دور العِلم عندهم أن يملأ الفراغ الوجداني، وإنما أن يُرتّب فوضى الأسئلة، ويقدّم تفسيرًا عقلانيًا يقنع الذهن ويهدئ اضطرابه.
وهناك من يغوص في قراءة كتاب "وهم الإله" لعالِم الأحياء التطوري البريطاني ريتشارد دوكينز، يجد أن التفسير الطبيعي للكون أكثر انسجامًا مع العقل من أي سردية دينية؛ فهو يرى في نظرية التطور تفسيرًا يُغنيه عن الإيمان بخالق؛ إذ تتيح له فهم الحياة من منظور علمي دون الحاجة إلى من يوجد هذه الحياة.
لكن في كل هذه المناهج والاتجاهات الإلحادية هناك شيء مشترك، وهو أن المُلحِد لا ينكر وجود الإله لمجرد الإنكار؛ بل لأنه لا يجد ما يُقنعه بوجوده.
كثيرٌ من المؤمنين يظنون أن الإلحاد يُطفئ المشاعر. لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا من ذلك. المُلحِد لا يعيش بجمود؛ بل أحيانًا يكون أكثر حساسية ممن حوله. هو يدرك أنه سيموت، ولا ينتظر حياة أخرى، لذا يعيش كل لحظة كأنها المساحة الأخيرة له، ليُنجِز فيها ما يراه حقًا، أو يترك أثرًا، أو يكتشف فيها ذاته. وهو لا ينتظر عدالة الآخرة، فيسعى للعدالة الآن. وإن ضاق صدره، لا يرفع عينيه نحو إله لا يراه لطلب العون؛ بل ينظر داخله، مُحاوِلًا أن يُلملِم بقاياه بيديه وحده.
بل إننا نجد في كتاب "مذكرات كافر مغربي" للكاتب والفيلسوف المغربي سعيد ناشيد، صوتًا داخليًا يصرخ من وجع الواقع، لا من كبرياء الفكرة؛ فالإلحاد لا ينتُج دومًا عن تنظير فلسفي؛ بل أحيانًا هو صرخة من جرح شخصي، أو من دينٍ استُعمل أداةً للإيذاء لا ملاذًا من الألم.
ومع ذلك، ففي قلب المُلحِد خيط خفي من الخوف، يُحدِّث نفسه: ماذا لو كنت مُخطئًا؟ لكن في أعماقه أيضًا تصميم صامت على أن الطريق نحو الحقيقة، وإن كان صعبًا، أشرف من العيش مع أسئلة أجوبتها موروثة ومُغلَّفة غير مُقنعة.
إنَّ أكبر خطأ نرتكبه حين نواجه شخصًا مُلحِدا هو أن نختزله في موقفه من الله، فنُجرِّده من إنسانيته، ونُعده نجسًا لا يستحق أن نتعامل معه. المُلحِد إنسان، له أهل وأحلام وإحساس، وقد يكون أقرب إلى الخير من كثير من المُتدينين. وقد يكون أصدق في ألمه من كثير ممن يخفون شكوكهم وراء قناع الإيمان.
لا يُطلب من المؤمن أن يوافق المُلحِد، ولا أن يصمت أمام أفكاره، لكن يُطلب منه أن يفهم دوافعه، وأن يُفرِّق بين من يُلحد هروبًا من الألم، ومن يُلحد ازدراءً للحقيقة. وهذا ما أشار إليها الفيلسوف البريطاني برتراند راسل في كتابه "لماذا لستُ مسيحيًا"؛ إذ يرى أن التفكير الحُر لا يعني الإنكار بالضرورة؛ بل يعني الوقوف في وجه القناعات والإجابات الموروثة، ونقدها بشجاعة.
الرحلة في عقل المُلحِد ليست لإقناعه، وليست أيضًا لتبرئته... هي فقط دعوة للفهم؛ لأننا إنْ عجزنا عن فهم من يخالف تفكيرنا، فلن نستطيع يومًا أن نُدرك حقيقة ذواتنا.
رابط مختصر