جاء الوقت لتتلو علينا جماعات من البرجوازيين الصغار كرامة جعفر محمد نميري البلقاء التي غفرت له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وجعلت الثورة عليه شططاً بآخرة. وهذه الكرامة هي أنهم شيعوه حين رحل من بيته في ود نوباوي. لم يمتلك أرضاً، ولم يبتن قصراً، ولا الضالين آمين.
علوا الزانة لقيادة الأمة يا مماحيق.

وذلك الرجل الذي لم يبن بيتاً لم تمنعه شعواء الحكم من تهديد عمال السكة حديد بطردهم من بيوتهم إذا واصلوا إضرابهم ضد نظامه في يوليو 1981.

ويبدو أنه لم يبن بيتاً لأنه لا يعرف أمن البيت من فرط شقائه. وما خرج عليهم من خرج يطلب حقاً مشروعاً حتى أغلق بيوتهم. جاءهم في أمنهم. يا لخراقة لنبي البرجوازيين الصغار الذين البيت مبلغ علمهم. فمن زهد فيه صار ذا كرامات فيهم وخوارق).

إذا كنت قد أقسمت ألا أغفر لخصومي (أو حتى حلفائي) الفكريين شيئاً فهو “كسرة” إضراب عمال السكة الحديد في يوم 18 يوليو 1981. فما زلت أتبلغ غصصاً كثيرة من تلك المحنة. لن أغفر لنميري كيف وسوس له إبليسه بالحيلة التي توعد بها العمال المضربين بإخلاء منازل الحكومة متى ما لم يقبلوا بفك الإضراب والعودة للعمل. وتهافت الإضراب من بعد هذا الوعيد. ولن أغفر للسياسيين والمهنيين الذين استدعاهم نميري بعد تصدع الإضراب لدراسة وضع السكة الحديد بغرض تفكيكها وأقلمتها (تنظيمها على أسس إقليمية تزيل مركزية عطبرة عنها). فهم في نظري مجرد كاسري إضراب لأن نميري قد تبرع لهم بحل مسألتهم قبل أن يبدأوا البحث فيها. ولم أغفر للجمهوريين بيانهم الذي حرض الناس ضد الإضراب في سياق موقفهم “لماذا نؤيد ثورة مايو؟” (مايو 1979) لتوهمهم أن كل تحرك إضرابي ضد النظام إما من تدبير السيد الصادق المهدي أو الإخوان المسلمين لاحتواء نظام مايو، أو من خطط الشيوعيين لإسقاطه. ولن أغفر للنقابة (وكان على رأسها السيد عباس الخضر الحسن رئيس لجنة الحسبة بالمجلس الوطني) التي لم تستعد لانتقام الدولة التي تماسكت معها الحزز منذ ابريل 1978. وهذا الإبريل تاريخ معروف في عطبرة ب “انتفاضة ابريل” انكسرت فيه الحكومة لإرادة العمال. ولكنها تربصت بهم. والعاقل من تدبر.

وقد ظل هاجسي الشاغل أن أعرف الملابسات التي اكتنفت هذا الإضراب الذي كان بمثابة “انتحار” سياسي لأم النقابات. وعثرت في (الرأي العام 25-1-2000) على كلمة بقلم محجوب محمد عثمان جدد فيها ذكرى المرحوم الشريف حسين الهندي (توفى يناير 1982) الزعيم الاتحادي الديمقراطي المعروف. وقال محجوب إن إضراب عمال السكة حديد الحسير هو ثمرة من ثمار نشاط الشريف المعارض لنظام مايو. فإذا صدق قول محجوب توقعت أن يكون الشريف، وكان بيده مالاً لبدا (تحلق حوله المعتفون وأهل الحاجات والبعثات للدكتوراه) قد خصص ميزانية سخية لدعم هذا الإضراب.

ولم يهدأ لي خاطر منذ علمت بالصلة بين المعارضة الحزبية لنظام نميري وإضراب 1981 المهيض. فأصبحت أسأل من توسمت فيهم معرفة بخفايا المعارضة إن كان الشريف قد “بزم” مالاً لنقابة السكة الحديد تتلافى به ضغوط الحكومة وتصمد بين براثنها. وتحدثت إلى أطراف في المعارضة أمنت على أن الشريف تحسب لشر نميري، وبعث بمال وفير ليوضع تحت تصرف النقابة. فقائل قال إنه بعث بخمسة مليون جنيه بواسطة طالب بجامعة الخرطوم للغرض. وكان الطالب، واسمه يوسف، عفيفاً متقشفاً يركب المواصلات العامة وبحقائبه الملايين. وكان من فرط زهادته يسمونه “الشيوعي”. وسلم يوسف هذا المال المجعول للنقابة، بشهادة الراوي، إلى لجنة خماسية اتحادية تسرب المال بين أيديها ولم يبلغ مقصده.

ليس من شغل الأحزاب بالطبع الإيحاء بالإضراب لنقابة ما ولا تمويله. وسبق إن كتبت كيف خاضت نقابة السكة حديد إضراب الثلاثة الثلاثين يوماً في 1948 اعتماداً على صندوق مالها، وتبرع شعب مدينة عطبرة جوداً بالموجود نوعاً ونقداً. وقد جاء حزب الأشقاء (الزعيم الأزهري) بتبرعهم للنقابة بواسطة السيد محمد نورالدين. ولكن السيد الطيب حسن، سكرتير النقابة، أوقف نور الدين عند حده عندما طلب منه، بآصرة الزمالة في حزب الأشقاء، أن ترفض النقابة قبول محام بعث به حزب الأمة للدفاع عن النقابيين أمام المحاكم ليقتصر الدفاع على محاميّ الأشقاء مثل السيد مبارك زروق. وقال الطيب لنور الدين إن النقابة هيئة أخرى غير الحزب تحتاج لدعم الكل ولا تخضع للأشقاء أو غيرهم في رسم سياساتها. والتزم المرحوم على محمد بشير بنفس ما التزم به الطيب الشقيق. فقد رفض إملاءات من الشيوعيين، وكان في طليعتهم مندوباً شبه دائم لعمال ورشة المرمة (صرة الورش) في النقابة، بأن تدخل النقابة في إضراب لم يعتقد هو بمساسه بعمال السكة حديد، أو مناسبته لهم في الزمان والمكان. فاستحق لعنة الشيوعيين منذ ذلك الوقت. وطبقوا عليه صيغ اللعنة الشيوعية المتوارثة مثل وصفه بالإصابة بداء “العقلية النقابية”. وهذا ما اتوافر على دراسته حالياً.

قال الدكتور أحمد العوض سكنجا في كتابه “مدينة الحديد والنار” (بالإنجليزية 2002) إن إضراب 1981 كان منعطفاً حاداً في تاريخ نقابة عمال السكة الحديد. فقد دفعوا من جرائه ثمناً باهظاً، ولم يستردوا حيويتهم بعد. ولا تعدل كسرة عمال السكة الحديد في 1981 في نظري إلا “كسرة” المهدية في 1899 من حيث تجريد السودانيين أو جمهرة منهم (في الحالتين) من أداة لتغيير ما بأنفسهم ومعاشهم. وكانت تلك الأداة هي الدولة في حالة المهدية بينما هي النقابة في حالة السكة حديد. وهذه قناعة قد لا تجدها بين من لم يترب في أدب وسياسية وزمالة النقابة من أمثالي. فالنقابة هي هدية عطبرة والعمال لنا. وهي أوسع النظم الاجتماعية السودانية ديمقراطية لأنها، تعريفاً، مؤسسة تضم عمال المنشأة المعينة بغير نظر لفوارق الدين أو الإثنية أو القبلية أو اللغة أو الأنثوية أو الذكورية. فقد انضمت المعلمات والممرضات لنقابة المنشأة منذ أواخر الأربعينات. ودخل العمال من الغرب والجنوب في النقابة افواجاً متى ما بلغتهم السكة. وسعة النقابة للتنوع لا تقارن بسعة ما هو متعارف عندناً من النظم التقليدية مثل القبيلة والطائفة ذات المعايير الضيقة في تصنيف من انتمى إليها مهما بدا من رحابتها.
فكسرة النقابة، اي نقابة، طعنة نجلاء في إنسانيتنا. فقد ساءني دائماً الاتهام المعمم الذي راج بين جماعات يسارية جزافية من أن بيئتنا العربية المسلمة (الإسلاموعربية في لغتهم الإكتومايوية) مسكونة بالاضطهاد العنصري خرقاء من جهة حقوق الإنسان إلى يوم يبعثون. ولا فكاك للمرء منا إلا أن يخلع عروبته وإسلامه خلعاً وينكرها ثلاثاُ في الضحى الأعلى. وتجدهم يستدلون على ذلك بأبيات مستلة باعتساف من المتنبي عن كافور الإخشيدي، أو من ذكر ممارسات للزبير باشا، أو مبدأ الكفاءة في الزواج استناداً على عقد زواج شهير في السبعينات. وهذا انتقاء عشوائي للبرهان على نقص إنسانيتنا كمسلمين وعرب لن تسلم معه أي جماعة من تهمة الاضطهاد العنصري مهما بلغت من آيات السماحة. ولقد جادلت هؤلاء اليساريين الجزافيين طويلاً ألفت انتباههم دائماً إلى أن إنسانيتنا العربية الإسلامية (الإسلاموعربية) لم تتجمد في تاريخ الأولين لأنها فعل تاريخي يتجدد بالتاريخ ويجدده. وكنت أشير لهم مثلاً ب “النقابة” التي هي من أفضال مدينة للحديد والنار عربية إسلامية في الغالب. ولكن الأشقياء الجزافيين لا يرون حقاً للإنسان إلا ما تصدقت لهم به مراكز حقوق الإنسان المرابطين عند بواباتها . . . با”الأسامي الأجنبية”.

ليس تفريط أي كان، بما في ذلك العمال أنفسهم، بهذا الوعاء النقابي المجيد مجرد غفلة سياسية. إنه بالأحرى غفلة حضارية. وتستحق هذه الغفلة من صحافة التحري عندنا تسليط الضوء عليها في حين ما يزال شهود الأمر بيننا.

عبد الله علي إبراهيم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: السکة الحدید

إقرأ أيضاً:

مواعيد قطار تالجو على خطوط السكة الحديد اليوم.. الأحد 14 ديسمبر 2025

أعلنت الهيئة العامة لسكك حديد مصر عن أسعار ومواعيد تشغيل قطارات تالجو الإسبانية الفاخرة على خطوط الوجهين البحري والقبلي، اليوم الأحد 14 ديسمبر 2025.

ويُوفّر القطار الجديد مستوىً عاليًا من الراحة والهدوء للمسافرين خلال الرحلة، في إطار خطة الهيئة لتحديث أسطولها وتقديم خدمات متميزة تواكب المعايير العالمية في النقل بالسكك الحديدية.

مواعيد قطار تالجو اليوم

وتستعرض «الأسبوع»، مواعيد القطارات، وذلك عبر خدمة متميزة تقدمها لكم على مدار الساعة عبر الضغط على الرابط هنـــــــا.

مواعيد قطار تالجو على خط القاهرة - الإسكندرية:

القطار رقم 2025 يقوم من القاهرة 8:00 صباحًا ويصل الإسكندرية 10:30 صباحًا.

القطار رقم 2023 يقوم من القاهرة 2:00 ظهرًا ويصل الإسكندرية 4:30 مساءً.

القطار رقم 2027 يقوم من القاهرة 7:00 مساءً ويصل الإسكندرية 9:30 مساءً.

مواعيد قطار تالجو على خط الإسكندرية - القاهرة:

القطار رقم 2022 يقوم من الإسكندرية 7:00 مساءً ويصل القاهرة 9:30 مساءً.

القطار رقم 2024 يقوم من الإسكندرية 2:00 ظهرًا ويصل القاهرة 4:30 مساءً.

القطار رقم 2026 يقوم من الإسكندرية 6:50 مساءً ويصل القاهرة 9:20 مساءً.

ملحوظة: ينطلق قطار 2022 الساعة 9:00 صباحًا من محطة الإسكندرية أيام الجمعة والعطلات الرسمية.

مواعيد قطار تالجو على خط القاهرة - أسوان:

القطار رقم 2030 يقوم من القاهرة 7:00 مساءً ويصل أسوان 6:40 صباح اليوم التالي.

القطار رقم 2031 يقوم من أسوان يوميًا 7:00 مساءً ويصل القاهرة 6:50 صباحًا.

محطات وقوف قطار تالجو على خط القاهرة - أسوان:

الجيزة - المنيا - اسيوط - سوهاج - قنا - الأقصر - إدفو - كوم أمبو - أسوان.

مقالات مشابهة

  • أكبر إضراب عن الطعام في بريطانيا منذ 1981.. نقل متظاهري بالستاين أكشن إلى المستشفيات
  • مواعيد قطار تالجو على خطوط السكة الحديد اليوم.. الأحد 14 ديسمبر 2025
  • حديد عز بـ 37453 جنيهًا.. أسعار الحديد الأسمنت اليوم الأحد 14 ديسمبر 2025
  • السكة الحديد: نقلنا 36 ألف راكب سوداني بمشروع العودة الطوعية
  • السكة الحديد تواصل نقل الأشقاء السودانيين ضمن مشروع العودة الطوعية
  • السكة الحديد تسير القطار الـ38 لنقل 1028 سودانيًا إلى وطنهم
  • بريطانيا تواجه تفشيًا غير مسبوق للإنفلونزا وسط إضراب الأطباء
  • مواعيد قطار تالجو أسرع قطارات السكة الحديد اليوم الجمعة
  • السكة الحديد توفر خدمات خاصة لهذه الفئة داخل المحطات والقطارات
  • السكة الحديد تكرم أبناء العاملين المتفوقين دراسيًا