الأحد، 9 يونيو 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
اليوم، أتيتُ بأكبر تمرُّد ممكن على أنظمة وقوانين المصحة منذ وجودي هنا «...». أردت الخروج ولو مؤقَّتاً من هذا المعتقل النفسي الكريه بأقصى طريقة تمرُّديَّة ممكنة. طبعاً، لاحت لي المقارنات التي أجراها ميشيل فوكو بين السجون والمصحات العقليَّة.
كنت قد جئت إلى هنا بسيارتي وأوقفتها في المواقف المخصصة للمرضى المقيمين.
بعد حصولي على مفتاح السيارة من الاستقبال، خرجت من المصحَّة مبتسماً لموظف الأمن عند المدخل («كيف هو الحال»؟! «عظيم»! «وكيف حالك أنت؟! «عظيم أيضاً»! وأظن أنني لو قلت له: «أنا أريد الموت خارج هذا المكان» لعقَّب بالطريقة الأمريكية المؤتمتة: «عظيم أيضاً»)!
ومن تلك المحادثة النَّموذجيَّة، المضجَرة والمضجِرة، والبائسة اتجهت إلى سيارتي التي وقفت إلى جانبها وأنا أدخن سيجارتي الأولى منذ مجيئي إلى هذا المكان، وذلك في احتفال ذاتي صغير بشيء من الحريَّة. عبر الدخان والذكريات تراءت لي أشباحنا -أحمد الزبيدي، وسماء عيسى، وأنا- ونحن نوقف السيارة قبيل وصولنا إلى نقطة التفتيش الحدوديَّة بين عُمان ودولة الإمارات لندخن سجائرنا، وذلك في سياق إثبات نظريتنا العجيبة الغريبة أن طعم التبغ، من نوع السَّجائر نفسه، والعلبة ذاتها، يختلف بين ما هو قبل نقطة التفتيش الحدوديَّة وما بعدها. وقد منحنا أنفسنا براءة الاكتشاف الأكثر إذهالاً في تاريخ البشريَّة، ولن نتنازل عن أيٍّ من حقوق الملكيَّة الفكريَّة. قدت السيارة بسرعة إلى المبنى الذي تقع فيه شقتي، حيث تفقدت البريد (لا شيء سوى الفواتير الأمريكيَّة التافهة المعتادة)، وكذلك لا يوجد في حافظة الرسائل الهاتفية أي شيء ذي قيمة، فأصبت بخذلان شديد.
عدت محبطاً إلى المصحة، وأعدت إليهم مفتاح السيارة، مدركاً أنه ليس في عالمي ما يستحق الهروب من المصحَّة إليه.
في بقية اليوم وما هو متاح لي من الليل، قبل إطفاء الأضواء، واصلت قراءة يوميَّات كافكا.
الإثنين، 10 يونيو 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
تنفيذ الصدمة الكهربائية الثانية. غثيان فظيع، ألم كبير في المفاصل، صداع حاد، وخَوَرٌ كامل مع رعشة خفيفة في كل البدن.
الثلاثاء، 11 يونيو 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
ثقيل جداً هذا الليل، كأنه الماء، أو لأنه كهرباء تسيل.
الأربعاء، 12 يونيو 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
الليلة، حصل الانفجار الكبير الذي كان حدوثه مسألة وقت فقط؛ فحتى طريقة نظراتنا لبعضنا البعض وسلوكها، وإجاباتي المقتضبة ذات الطبيعة التهكميَّة عن أسئلته الاستجوابيَّة والاستفزازيَّة منذ اليوم الأول، جعل كل شيء يتنبأ بنقطة اللاعودة عن الصِّدام.
يجمعنا هذا المرشد النفسي المقيت (وهو شخص ثلاثيني أبيض وبدين كأنه قادم من أحد مطابخ الوجبات السَّريعة، ويتفصد الغباء من كل شحمه ولحمه: أمريكيٌّ مثالي) بعد تناول وجبة العشاء، ويتصدر الموقف مثل أتفه صرصور في العالم وقد وصل إلى قمَّة المشهد المريض بالكامل، ويطلب، بنبرة صوت سلطويَّة صريحة، من كل منا «الاعتراف» (الكنسي فعلاً) بالأفكار «السلبية» و»الإيجابية» التي راودته طوال اليوم، وعما إذا كان قد تراجع عن «السَّلبية» منها لصالح «الإيجابيَّة»، والإفصاح عن المواقف والأحداث التي ندم عليها بعد وجوده في المصحة وصار عليه أن يقدِّم الاعتذار، والإدلاء بأسماء الأشخاص الذين سامحهم اليوم، والتعبير عن الأمنيات والعواطف الطيبة التي يكنِّها للبشر وللدنيا التافهة التي يقطن فيها البشر الأكثر تفاهة، إلخ. حقَّاً، ليس هناك ما هو أفضل منه للتدليل على أن العلاج النفسي قد تحول إلى واحدة أخرى من مؤسسات السُّلطة.
لكن، الليلة فاض الكيل، فأجبته ألا أفكار «إيجابيَّة» لدي، وأن كل تفكُّراتي «سلبيَّة» ولا أتراجع عنها، وأنه ليس أنا من ينبغي أن «يندم» على أي شيء فأنا لم أؤذِ أحداً أصلاً، بل إن الآخرين هم من آذوني وهم من عليهم أن «يندموا» ويقدموا اعتذارهم لي (مؤكداً له أني لن أقبل الاعتذار حتى في حالة حدوثه)، وأنني لن أسامح أحداً، وليست لدي أمنيات وعواطف طيبة أكنُّها للبشر منذ خطيئة التُّفاحة، وأنني لا أشعر إلا بالاحتقار لهذا العالم وسُكَّانه، إلخ.
مع علو الصوت جاء أحد الموظفين المناوبين من الإدارة أو الاستقبال (لا أعرف بالضبط)، وتأبَّطني إلى المهجع فقلت له، مدافعاً عن نفسي بأول سلاح زور تبريري خطر في بالي، وهو أن ذلك المرشد النَّفسي قد تفوَّه بأشياء فظيعة تنتهك قناعات مقدَّسة في ديانتي! ابتسم بطريقة تبوح أن هذه الكذبة التهربيَّة مألوفة لديه كثيراً فلا داعي لها، وقال إنه لن يرفع الأمر إلى «سلطات أعلى» في المصحة في هذه المرَّة مقابل تعهدي باحترام المرشد النفسي وضبط أعصابي.
دار بيننا حديث طويل بعض الشيء، واتفقنا على حل وسط هو أنني لست مُلزَماً بحضور جلسات المرشد النفسي بعد الليلة إن كان ذلك ناجماً عن تقييمي الذاتي لوضعي الصحي والمزاجي بطريقة يمكن فهمها وتبريرها خاصة في أيام إجراء الصدمة الكهربائية أكثر من أيام النقاهة منها. ولكني إن حضرت تلك الجلسات، وبدر مني ما بدر الليلة نفسه، فإن الأمر لن يكون بيده أو بيد غيره من المناوبين، وإنه يأسف لأن العواقب ستتضمن، بالتَّأكيد المؤكَّد، طردي من المصحَّة؛ ونتيجة لذلك سترفض شركة التأمين الصحي دفع التكاليف (وهي باهظة حقاً) منذ تاريخ دخولي وحتى يوم طردي.
هكذا توصلنا إلى “gentlemen’s agreement”. وطوال الوقت لفت انتباهي أنه كان يتكلم بإنجليزيَّة جيِّدة لكن بِلَكِنَةٍ أجنبيَّة قوية (بدا لي أنها صادرة من أحد الألسن الآسيويَّة)، وتكاد تكون تلك اللكنة الغليظة أسوأ حتى من لَكْنَتي الفظيعة.
تعلَّمت، لحظتئذ، هذا الدرس: بعض الغرباء يفهمون بعضهم البعض، ويحاولون مساعدة بعضهم البعض، ولو بأنصاف الأكاذيب والاختلاقات، والتَّعاطف نصف المُعْلَن، وأنصاف التَّفهم والحقائق والمسوغات، وأنصاف الإمكانات والوعود، وكل الرغبة في عدم حدوث مزيد من التهوُّر والتدهور. حقَّاً، «طوبى للغرباء».
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: سان دییغو
إقرأ أيضاً:
فلنغير العيون التي ترى الواقع
كل مرة تخرج أحاديثنا مأزومة وقلقة وموتورة، مشحونة عن سبق إصرار وترصد بالسخط والتذمر، نرفض أن نخلع عنا عباءة التشاؤم، أينما نُولي نتقصّى أثر الحكايات شديدة السُمية، تلك الغارقة في البؤس والسوداوية.
في الأماكن التي ننشُد لقاءت متخففة من صداع الحياة، نُصر على تصفح سجل النكبات من «الجِلدة للجِلدة»، فلا نترك هنّة ولا زلة ولا انتهاكًا لمسؤول إلا استعرضناه، ولا معاناة لمريض نعرفه أو سمعنا عنه إلا تذكرنا تفاصيلها، ولا هالِكِ تحت الأرض اندرس أثره ونُسي اسمه إلا بعثناه من مرقده، ولا مصيبة لم تحلُ بأحد بعد إلا وتنبأنا بكارثيتها.
ولأننا اعتدنا افتتاح صباحاتنا باجترار المآسي، بات حتى من لا يعرف معنىً للمعاناة، يستمتع بالخوض في هذا الاتجاه فيتحدث عما يسميه بـ«الوضع العام» -ماذا يقصد مثله بالوضع العام؟- يتباكى على حال أبناء الفقراء الباحثين عن عمل، وتأثير أوضاعهم المادية على سلوكهم الاجتماعي، وصعوبة امتلاك فئة الشباب للسكن، وأثره على استقرارهم الأُسري، وما يكابده قاطني الجبال والصحراء وأعالي البحار!
نتعمد أن نُسقط عن حواراتنا، ونحن نلوك هذه القصص الرتيبة، جزئية أنه كما يعيش وسط أي مجتمع فقراء ومعوزون، هناك أيضًا أثرياء وميسورون، وكما توجد قضايا حقيقية تستعصي على الحلول الجذرية، نُصِبت جهات وأشخاص، مهمتهم البحث عن مخارج مستدامة لهذه القضايا، والمساعدة على طي سجلاتها للأبد.
يغيب عن أذهاننا أنه لا مُتسع من الوقت للمُضي أكثر في هذا المسار الزلِق، وأن سُنة الحياة هي «التفاوت» ومفهوم السعادة لا يشير قطعًا إلى الغِنى أو السُلطة أو الوجاهة، إنما يمكن أن يُفهم منه أيضًا «العيش بقناعة» و«الرضى بما نملك».
السعادة مساحة نحن من يصنعها «كيفما تأتى ذلك»، عندما نستوعب أننا نعيش لمرة واحدة فقط، والحياة بكل مُنغصاتها جميلة، تستحق أن نحيا تفاصيلها بمحبة وهي لن تتوقف عند تذمر أحد.
أليس من باب الشفقة بأنفسنا وعجزنا عن تغيير الواقع، أن نرى بقلوبنا وبصائرنا وليس بعيوننا فقط؟ أن خارج الصندوق توجد عوالم جميلة ومضيئة؟ ، أنه وبرغم التجارب الفاشلة والأزمات ما زلنا نحتكم على أحبة جميلين يحبوننا ولم يغيرهم الزمن؟ يعيش بين ظهرانينا شرفاء، يعملون بإخلاص ليل نهار، أقوياء إذا ضعُف غيرهم أمام بريق السلطة وقوة النفوذ؟
النقطة الأخيرة
يقول الروائي والفيلسوف اليوناني نيكوس كازنتزاكس: «طالما أننا لا نستطيع أن نغير الواقع، فلنغير العيون التي ترى الواقع».
عُمر العبري كاتب عُماني