أمريكا ترامب وصدام حضارات مع أوروبا
تاريخ النشر: 14th, December 2025 GMT
في أوروبا تعرضت استراتيجية الأمن القومي الجديدة لإدارة ترامب الى انتقادات قاسية. لكنها رغم ذلك وثيقة مثيرة حقا. فهي تحاول أن تفعل شيئا طموحا وهو إعادة تعريف الأمن القومي على أسس حضارية.
ترتكز الآراء التقليدية حول الأمن القومي على المقتضيات العسكرية والاقتصادية. ولا تتجنب الاستراتيجية الخوض في هذه القضايا الشائكة، لكن المرء يشعر أن قلب من أعدَّها ليس مع هذه الضرورات حقًا.
في الجزء الخاص بقضية تايوان وهي بالغة الأهمية تؤكد وثيقة الاستراتيجية بوضوح أن «منع اندلاع حرب حول تايوان... أولوية». وتضيف: «نحن أيضا نحافظ على سياستنا المعلنة والراسخة حول تايوان». هذا هو بالضبط تعريف البيان المؤقت. (في السياسة الخارجية يعبر مثل هذا البيان عن موقف مؤقت إزاء قضية معيَّنة الى أن يتبلور موقف نهائي بشأنها - المترجم).
تصبح الوثيقة أكثر حيوية وابتكارا عندما تتجه إلى القضايا الحضارية. في هذا الجانب يوجد عنصر عرقي قوي بشكل واضح في تعريف الإدارة الأمريكية للحضارة، ولو إنه لم يُفصح عنه تماما.
الأولوية القصوى المدرجة في الوثيقة فيما يخص السياسات هي «الهجرة الجماعية». فالاستراتيجية تصر على وجوب «أن نحمي بلدنا من الغزو... من الهجرة غير المقيَّدة».
ثم تمدِّد تلك الفكرة عبر الأطلسي الى أوروبا. وهذا ما يشكل أساس الزعم الإشكالي في الاستراتيجية بأن أوروبا تقف على حافة «محو حضاري».
تحاجج وثيقة استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة «بأن الغالبية في شعوب بلدان معينة في الناتو ستصبح خلال عقود قليلة على أفضل تقدير من أصول غير أوروبية». وفي نظرها هذا الاحتمال «أكثر من معقول».
هذا الزعم يبدو شبيها بما يدعوه علماء النفس أحيانا الإسقاط النفسي (بمعنى أن هذه مشكلة تعاني منها أمريكا وتسقطها على أوروبا- المترجم.) في الواقع، شعب الولايات المتحدة هو الذي تشير البيانات الإحصائية الى أنه سيصبح في معظمه «من أصول غير بيضاء» بحلول عام 2045. وبناء على الاتجاهات الحالية ستمر عدة عقود أخرى قبل أن تتخطى بريطانيا أو ألمانيا عتبة سكانية مماثلة لها.
مع ذلك، لمنع «المحو الحضاري» في أوروبا تقترح إدارة ترامب «رعاية مقاومة من داخل الشعوب الأوروبية ضد المسار الحالي الذي تمضي فيه أوروبا.» وهذا يعني بوضوح دعم الأحزاب القومية والمعادية للهجرة من شاكلة حزب البديل لألمانيا وحزب التجمع الوطني في فرنسا وحزب الإصلاح البريطاني.
من أين جاءت هذه الانعطافة الحضارية في السياسة الخارجية الأمريكية؟ يُعتقد أن المؤلف الأكثر تأثيرا لاستراتيجية الأمن القومي هو مايكل انتون الذي كان حتى وقت قريب مدير تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأمريكية.
أكبر أسباب شهرته في السابق تأليفه مقالا في عام 2016 تحت عنوان «انتخابات الرحلة 93». حاجج انتون في المقال بأن الحيلولة دون انتخاب هيلاري كلنتون مسألة «بقاء قومي» للولايات المتحدة والتي هي بحاجة إلى انتخاب ترامب لمنع «الاستيراد الذي لا يتوقف للأجانب من بلدان العالم الثالث.» وفي عام 2016، وصف ذلك التسامح مع الهجرة الجماعية بأنه مؤشر على «حضارة تريد أن تموت». هل يبدو هذا القول مألوفا؟
لكن بأي قدر من الجدية على الأوروبيين التعامل مع كل هذا؟ هنالك ثلاثة طرق عامة للنظر الى استراتيجية الأمن القومي. أولها أن استراتيجيات الأمن القومي في معظمها هراء لا معنى له. تدرسها مراكز الأبحاث بعناية لكن لا علاقة لها تذكر بالعالم الحقيقي.
حقيقة أن انتون نفسه ترك الآن الإدارة الأمريكية، وأن ترامب لا يعتبر عموما مفكرا منهجيا يجعل من اليسير تجاهل «اللغة التي تتحدث عن الحضارة» واعتبارها لا تزيد كثيرا عن مجرد خطاب تعبوي لليمين المتطرف الأمريكي.
وجهة النظر الثانية هي أن كل هذا جزء من مساعي الولايات المتحدة لتشديد الضغط على الاتحاد الأوروبي؛ كي يمتثل لها في القضايا التي تهتم بها إدارة ترامب حقا وخصوصا عقد اتفاق سلام مع روسيا وإنهاء الجهود الأوروبية لفرض ضوابط إجرائية على شركات التقنية الأمريكية.
في هذا الشهر نشر كريستوفر لانداو نائب وزير الخارجية الأمريكية تدوينة على وسائل التواصل الاجتماعي اتهم فيها الحلفاء الأوروبيين للولايات المتحدة « بالانتحار الحضاري.» أشار لانداو الى أن الولايات المتحدة لم يعد بمقدورها «التظاهر بأننا شركاء» مع بلدان الاتحاد الأوروبي التي تتبنى سياسات «مخالفة تماما» للمصالح الأمريكية.
من بين السياسات التي عدّدها «رقابة إعلامية» مزعومة وأيضا «الغلُوّ في حماية المناخ».
يبدو هذا مثل تهديد لا يكاد يَخْفَى وفحواه هو «اسحبوا سياسات الاتحاد الأوروبي التي تكرهها إدارة ترامب أو ستراجع الولايات المتحدة دعمها للناتو.»
لغة استراتيجية الأمن القومي عند اقترانها بتهديدات لانداو يمكن أيضا أن تدعم تفسيرا ثالثا أكثر جذرية. وفقا لهذه النظرة، ليست فقط سياسات الاتحاد الأوروبي هي التي تعترض عليها الإدارة الأمريكية ولكن وجود الاتحاد نفسه والذي يُصَوّرَ كمشروع عولمة مُعادٍ للمصالح الأمريكية.
النتيجة المنطقية لهذا التفسير هي احتمال انفصال الولايات المتحدة عن الناتو وتخليها عن حكومات أوروبا الحالية واقترابها أكثر وبشكل دائم من روسيا.
امتدح الناطق باسم فلاديمير بوتين استراتيجية الأمن القومي الأمريكية وأشار الى أنها تتّسق مع تفكير الكرملين. واستخدم الروس القريبون من بوتين منصة «اكس» المحظورة في روسيا لتأييد زعم إدارة ترامب بأن حرية الكلام مهددة في أوروبا.
أوضحت الاستراتيجية أن هنالك معركة تدور رحاها الآن بين نسختين للغرب تضعان الولايات المتحدة وأوروبا في مواجهة.
نسخة إدارة ترامب تعكس نظرة «للحضارة الغربية» ترتكز على العرق والمسيحية والقومية. أما النسخة الأوروبية فنظرة ليبرالية قائمة على الديموقراطية وحقوق الانسان وحكم القانون بما في ذلك القانون الدولي.
في أوروبا أكبر مهدِّدَين للنسخة الليبرالية للحضارة الأوروبية هي أحزاب أقصى اليمين التي تروِّج لها الولايات المتحدة والدولة الروسية التي تتودَّد لها إدارة ترامب. ولا غرابة في أن يشعر الكرملين بوجود فرصة ينبغي اغتنامها.
جدعون راكمان كبير معلقي الشئون الخارجية بصحيفة الفاينانشال تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: استراتیجیة الأمن القومی الولایات المتحدة الاتحاد الأوروبی إدارة ترامب فی أوروبا الى أن
إقرأ أيضاً:
فرصة مقيدة: هل تستفيد الصين من تراجع القوة الناعمة الأمريكية؟
فرصة مقيدة: هل تستفيد الصين من تراجع القوة الناعمة الأمريكية؟
تكشف العديد من استطلاعات الرأي حول العالم تراجعاً في صورة الولايات المتحدة الأمريكية منذ الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب، واستمرت أزمة القوة الناعمة الأمريكية خلال ولاية ترامب الثانية. وبالتزامن مع ذلك، باتت الصين تتطلع إلى أداء دور أكثر نشاطاً على الساحة الدولية، مدركة بشكل أكبر أن صورتها الذهنية تصنع فارقاً، وعلى نحو جعل عالِم العلاقات الدولية الراحل، جوزيف ناي، يحذر، في مستهل عام 2025، من أن “الصين على أهبة الاستعداد لملء الفراغ الذي خلفته سياسات الرئيس ترامب”. وفي هذا الإطار، تُثار تساؤلات من قبيل: هل تملك الصين مقومات حقيقية للقوة الناعمة؟ وهل تستطيع الاستفادة من التراجع النسبي الأمريكي في هذا المجال؟
ترامب وتراجع القوة الناعمة:
قدّم جوزيف ناي، في عام 1990، مفهوم القوة الناعمة للدوائر الأكاديمية والسياسية الغربية، معرفاً إياها بأنها “قدرة الدولة على جعل الآخرين يريدون ما تريده”؛ ومن ثم فهي القدرة على تشكيل تفضيلات الآخرين، وتنبني بصورة رئيسية على جاذبية الأفكار والممارسات، بخلاف القوة الصلبة أو الخشنة التي تتضمن “إصدار الأوامر” وتستند بالأساس إلى الإكراه العسكري والحوافز الاقتصادية. واعتبر ناي أن الثقافة والقيم السياسية الليبرالية والسياسة الخارجية هي المرتكزات الرئيسية للقوة الناعمة الأمريكية، وقدم المفهوم باعتباره أساساً لرسم سياسة أمريكية أكثر فعالية. وفي العقود اللاحقة، ذاع مصطلح القوة الناعمة وارتبط بجهود الدبلوماسية العامة وبناء السمعة الدولية.
وقد حاولت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية تحقيق القيادة العالمية بالاستثمار في أرصدة القوة الناعمة، مع الاعتماد على الجاذبية والإقناع. ويمكن عزو القوة الناعمة الأمريكية خلال تلك الحقبة، بدرجة رئيسية، إلى تجسيد الولايات المتحدة للقيم الليبرالية، وحيوية مؤسساتها الديمقراطية، فضلاً عن النموذج الأمريكي الناجح المتمثل في مجتمع منفتح يستوعب مختلف الإثنيات.
وتبنى الرئيس ترامب، سواء في ولايته الأولى أم الثانية، سياسات أدت إلى تراجع القوة الناعمة الأمريكية، ومنها الآتي:
1- التشكيك في القيم الديمقراطية: تبنى الرئيس ترامب خطاباً سياسياً يشوه المؤسسات الإعلامية، ويقوض الثقة في الانتخابات الأمريكية مثلما حدث في عام 2020؛ مما نال بالسلب من صورة الولايات المتحدة كبلد يجسد تقاليد راسخة للانتقال السلمي للسلطة. وبعد تنصيبه رئيساً للمرة الثانية في يناير 2025، استمر ترامب في انتهاج السياسات ذاتها التي تنعكس سلباً على مصداقية الولايات المتحدة وقيمها الليبرالية؛ وهو ما ظهر مثلاً في التضييق على الحريات الأكاديمية والدخول في صدام مع بعض الجامعات الأمريكية.
2- تراجع واشنطن عن التزاماتها الدولية: بدت الولايات المتحدة كحليف دولي غير موثوق به، عبر تشكيك ترامب في جدوى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، والهجوم على حلفاء مثل اليابان وكوريا الجنوبية ومطالبتهما بدفع مقابل أكبر للحماية الأمريكية، فضلاً عن الانسحاب من منظمة الصحة العالمية خلال ذروة انتشار وباء كورونا.
وفي ولايته الرئاسية الثانية، أعلن ترامب الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ بالرغم من تهديدات التغير المناخي، وكذلك الانسحاب من منظمة اليونسكو، فضلاً عن إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). كما أطلق ترامب تصريحات غير ودية تجاه حلفاء تقليديين مثل الدنمارك وكندا، وأيقظ المخاوف في أمريكا اللاتينية عبر تهديد بنما ثم فنزويلا. كذلك أدى إفراط ترامب في سياسات الحمائية التجارية إلى جعل الولايات المتحدة تبدو وكأنها شريك اقتصادي غير موثوق به.
وللتدليل على الضرر الذي ألحقته سياسات الرئيس ترامب بالقوة الناعمة الأمريكية، وجد استطلاع للرأي أجراه مركز (YouGov) في فبراير 2025 أن شعبية الولايات المتحدة قد انخفضت في سبع دول أوروبية هي بريطانيا وفرنسا وألمانيا والدنمارك والسويد وإسبانيا وإيطاليا بنحو 8% منذ نوفمبر 2024 لتصل إلى 34%. وفي استطلاع رأي آخر أجرته (Le Grand Continent) في مارس 2025، كان ترامب ثاني قائد يحظى بأقل قدر من الثقة بين 13 قائداً سياسياً، بعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما رأى 70% من المبحوثين أنه يجب على أوروبا الاعتماد على قوتها الذاتية لضمان أمنها، مع تراجع نسبة من يثقون بمصداقية الولايات المتحدة كشريك قادر على الدفاع عن أوروبا إلى 10% فقط.
ركائز القوة الناعمة الصينية:
ظهر مصطلح القوة الناعمة لأول مرة في الصين في الخطاب السياسي الرسمي عام 2007، حين تحدث الرئيس السابق، هو جنتاو، في المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي، عن أهمية تعزيز القوة الثقافية الناعمة للصين. ويعمد الرئيس الحالي، شي جين بينغ، إلى التشديد على أهمية القوة الناعمة من خلال استدعاء المفهوم في العديد من اللقاءات والخطابات الرسمية، والتي تفصح عن إدراك متزايد لأهميته في تطور الصين كقوة عظمى، وضرورة تحسين القوة الصلبة في بُعديها العسكري والاقتصادي بالتوازي مع الارتقاء بالقوة الناعمة التي تقوم على القيم والأفكار والثقافة.
ويكشف تقصي السجالات الفكرية للأكاديميين الصينيين أن القوة الناعمة للصين ترتكز على عدد من المصادر والمقومات، من أهمها الإرث الحضاري الصيني، وثقافتها وما تحفل به من قيم مثل: احترام المجتمع، والتكامل ونبذ الشقاق، والتناغم الداخلي، واستيعاب الاختلافات. ويضاف إلى ذلك، خصوصية النموذج التنموي الصيني وجاذبيته للدول الفقيرة، بما يمنحه من أولوية للتنمية الاقتصادية والابتكار.
كما تسعى الصين إلى تعزيز قوتها الناعمة من خلال أدوات متعددة، منها ما يلي:
1- تبني سياسة خارجية نشطة: تشدد المقاربة الصينية على ضرورة أن تبدو سياستها الخارجية مشروعة وذات طابع أخلاقي، مع إبداء استعدادها لتسوية بعض النزاعات الحدودية مع جيرانها. إضافة إلى ذلك، هناك تنامٍ في عدد المؤسسات الدولية والإقليمية التي تشغل الصين عضويتها، كما أصبحت بكين منذ نهاية التسعينيات مشاركاً نشطاً في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وفي الوقت الحالي تُعد الصين أكبر دولة مساهمة بقوات حفظ السلام من بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بما يعزز صورتها كفاعل دولي مسؤول.
2- التركيز على المكاسب الاقتصادية المشتركة: يكون ذلك من خلال عقد الصفقات التجارية، ومشاريع البنية التحتية مع الدول الأخرى. وفي هذا السياق، تبرز مبادرة “الحزام والطريق” التي تسعى إلى تعزيز الترابط الاقتصادي مع العديد من دول آسيا وإفريقيا وأوروبا، عبر شبكة واسعة من مشاريع النقل والمواصلات والاتصالات. وتتسم برامج المساعدات الاقتصادية للصين بأنها تُمنح دون مشروطية اقتصادية أو سياسية.
3- نشر الثقافة الصينية: تشهد الصين في السنوات الأخيرة توسعاً ملموساً في جهود نشر ثقافتها عبر معاهد كونفوشيوس التي يبلغ عددها أكثر من 500 معهد حول العالم. كما أدرجت أكثر من 80 دولة اللغة الصينية في أنظمتها التعليمية الوطنية، ويبلغ إجمالي عدد الأجانب الذين يتعلمون اللغة الصينية ويستخدمونها نحو 200 مليون شخص. ولا تزال جامعات الصين تُمثل وجهة تعليمية رئيسية للطلاب الأجانب، ولا سيّما من دول آسيا وإفريقيا، وإن كانت مكانتها كوجهة تعليمية لا تزال أقل من الجامعات الغربية.
مكاسب نسبية لبكين:
يثور التساؤل حول مدى قدرة الصين على الاستفادة من التراجع النسبي في القوة الناعمة الأمريكية. وبالرغم من أن الصين تُعد ثاني أكبر اقتصاد في العالم؛ فإن قدرتها على ابتكار منتجات ثقافية مؤثرة خارجياً لم تكن حتى وقت قريب متناسبة مع صعودها الدولي. لكن تغيرات كبيرة تحدث؛ إذ تشهد الصين ثورة في الإنتاج الترفيهي، ومن أمثلتها دمية “لابوبو” (Labubu) التي رفعت القيمة السوقية لشركة “بوب مارت” بنسبة 400%، وسلسلة مطاعم “ميكسوي” (Mixue) التي انتشرت في جنوب شرق آسيا.
وقد أظهر استطلاع رأي لمركز “بيو” الأمريكي للأبحاث في 25 دولة، نُشرت نتائجه في يوليو 2025؛ أن الغالبية ما تزال تنظر بإعجاب أكبر إلى الولايات المتحدة مقارنةً بالصين؛ ولكن الفجوة بين البلدين آخذة في الانحسار. وتراجعت التقييمات الإيجابية للولايات المتحدة. ففي كندا مثلاً، انخفضت نسبة الاستحسان للولايات المتحدة بمقدار 20%، بينما حققت الصين مكاسب هامشية.
وبالرغم من تحسن صورة الصين نسبياً في عام 2025 مقارنةً بفترة ما بعد “كوفيد-19″؛ فإن 54% من المبحوثين في الدول الـ25 يحملون صورة سلبية عنها، و66% لا يملكون ثقة كبيرة في قدرة الرئيس شي على معالجة الأزمات الدولية. ومع ذلك، فإن الذين يبدون ثقة أقل في ترامب فيما يتعلق بالأزمات الاقتصادية أكثر ميلاً إلى إقامة علاقات اقتصادية أقوى مع الصين. وفي دول مثل الأرجنتين والبرازيل وإندونيسيا والمكسيك وجنوب إفريقيا، تميل قطاعات واسعة إلى رؤية الولايات المتحدة كمصدر تهديد للمصالح القومية، بينما تُعد الصين حليفاً رئيسياً في دول مثل جنوب إفريقيا وإندونيسيا. وتُقدم الصين نفسها كشريك لا يتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهو خطاب يجد صدىً إيجابياً في عدة دول نامية؛ لكن سمعتها تبقى سلبية في أوروبا وبعض الدول الآسيوية بسبب المخاوف الأمنية.
تحديات أمام الصين:
على الرغم من التحسن النسبي في صورة الصين في العديد من دول العالم؛ فإنها تواجه عدة تحديات قد تحدّ من تعزيز قوتها الناعمة، أهمها ما يلي:
1- الضعف النسبي لوسائل الإعلام الصينية مقارنةً بالنفوذ الواسع للإعلام الغربي؛ إذ لا تزال وكالة “شينخوا” عاجزة عن تحقيق تأثير يماثل تأثير المنافذ الإعلامية الأمريكية الكبرى.
2- طبيعة النظام السياسي الصيني الذي يفرض رقابة على المحتوى الثقافي؛ مما يُصعّب عملية الابتكار. وعلى الرغم من تشجيع الحزب الشيوعي الحاكم للابتكار؛ تظل هناك قيود تفرضها الحكومة، وتؤثر في عملية الإنتاج.
3- عجز بكين عن تقديم بديل جدي لقيادة النظام العالمي أو التعامل الفعّال مع الأزمات الدولية؛ ما يجعل كثيراً من استطلاعات الرأي تشكك في قدرتها على خلافة واشنطن.
ختاماً، يمكن القول إنه مع التراجع النسبي في القوة الناعمة الأمريكية، تبدو الصين شريكاً أكثر موثوقية في نظر كثيرين، إلا أن ذلك لا يجعلها القائد العالمي غير المنازع في مجال القوة الناعمة. كما أن بكين قلّصت مساعداتها التنموية للدول النامية بسبب الضغوط الاقتصادية الداخلية، وتفاقم الديون في دول “الحزام والطريق”. وتدل الخبرة التاريخية على أن القوة الناعمة للولايات المتحدة شهدت فترات من الازدهار ثم الانحسار، كما حدث بعد حرب فيتنام. ومع أن استعادة أسس القوة الناعمة بعد انتهاء ولاية ترامب الثانية قد تكون عملاً مكلفاً؛ فإن الديمقراطية الأمريكية ذات التقاليد الراسخة ستظل قادرة على التعافي، بما يجعل استعادة تلك القوة أمراً ممكناً.