د. عمرو صالح يكتب: معجزة مصر في التعامل مع المؤسسات الدولية
تاريخ النشر: 29th, May 2024 GMT
سنوات قضيناها من العمل الدولى مع المؤسسات الدولية العالمية وبرامج التمويل الأجنبية جعلتنا نصل إلى خلاصة مهمة وهى أن التعامل مع هذه المؤسسات يتطلب حنكة ومعرفة ودراية بأروقة وخبايا هذه المؤسسات، وأيضاً مرونة سياسية كبيرة، لأن دور هذه المؤسسات الدولية خطير، فمؤسسات مثل البنك الدولى وصندوق النقد الدولى ومؤسسات التمويل الدولية، وأيضاً وكالات التصنيف الائتمانى، تلعب اليوم دوراً حيوياً فى تشكيل النظام الاقتصادى العالمى وفرض قواعد اللعبة الاقتصادية فى العالم، ليس فقط من خلال مراقبة الاقتصاد العالمى ولكن من خلال تقديم تقارير دورية عن الأداء الاقتصادى للدول الأعضاء وتحديد المخاطر الاقتصادية التى تواجههم، وبالتالى هى تقوم بإعطاء توصيات للسياسات الاقتصادية داخل الدول من خلال روشتات وأجندات ومساعدات فنية للبلدان النامية تجعل المؤسسات الدولية تدير أو تساعد فى إدارة مجالات حساسة مثل إدارة الموارد الطبيعية والتعليم والصحة وتمويل مشاريع البنية التحتية مثل الطرق والجسور والكهرباء والمياه؛ بهدف تحقيق التنمية الاقتصادية.
وتكمن خطورة هذه المؤسسات فى وضع معاييرها الاقتصادية العالمية على السياسة الدولية ومراقبة الاقتصاد العالمى ونشر التقارير الدولية، ولكن الأخطر أنها تقوم بوضع معايير ورسم قواعد اللعبة الاقتصادية الدولية وإجبار الدول على اتباع سياسات اقتصادية معينة مثل دخول القطاع الخاص وخصخصة الخدمات والمسئوليات الحكومية، فتأثير البنك الدولى وصندوق النقد الدولى كبير بسبب ما يعرف بوضع «برنامج التكيف الهيكلى» من خلال تقديم قروض مشروطة بتنفيذ إصلاحات اقتصادية، حتى إنها تدخلت فى أزمة الديون السيادية فى أوروبا، وقدم صندوق النقد الدولى قروضاً ودعماً فنياً لدول مثل اليونان وأيرلندا والبرتغال لمساعدتها على تحقيق الاستقرار واستعادة النمو، فما بالك فى التعامل مع دولة مثل مصر؟!
فى العام 2014، وبعد عام من إنقاذ مصر من براثن الانقسام والتفتت، بوصول السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى الحكم، بعد أقل من عام كان القرار الشجاع هو إجراء إصلاحات اقتصادية عميقة؛ وفى هذا الوقت كان السيد الرئيس يشدد على أهمية وحتمية أن يتحد المصريون لأن اتحاد الوطن أول شرط من شروط نجاح الإصلاحات. وهنا قدمت مصر نسختها ورؤيتها إلى البنك الدولى، ومعها ظهرت خلافات بين مصر والبنك الدولى حول منهجية وطريقة الإصلاحات الاقتصادية والإجراءات المالية التى كانت تحتاجها البلاد، فاشترط البنك الدولى إجراءات تقشفية، مثل خفض الدعم الحكومى على الوقود والكهرباء، وتطبيق ضرائب جديدة، وذلك كشرط للحصول على قروض ومساعدات، بينما تحفظ السيد الرئيس على تأثيرها السلبى المحتمل على الفئات الفقيرة وعلى الاستقرار السياسى والأمنى، بل وأصر السيد الرئيس أن يكون للجانب الاجتماعى النصيب الأكبر وأن أولويات مصر الاقتصادية تختلف عن تلك التى يراها البنك الدولى، كما أصرت مصر على سياسات دعم النمو الاقتصادى وتخفيف البطالة، بينما كان البنك الدولى يركز على إصلاحات هيكلية قاسية طويلة الأجل، وقد انتقد البنك الدولى بشدة الرؤية المصرية، وتوسع الخلاف وشكك فى تقاريره الدولية فى قدرة مصر على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة بنجاح وبشكل مستدام فى العام 2014.
وهنا أصر السيد الرئيس على تطبيق برنامج مصرى بنسبة 100%، وأطلقت مصر أولاً برامج متوالية للحماية الاجتماعية لتخفيف آثار الإصلاحات الاقتصادية على الفئات الأكثر فقراً، وأطلقت الحكومة برامج للحماية الاجتماعية مثل «تكافل وكرامة» ودعم المرأة المعيلة، ودعم مشروعات الشباب والإنفاق على الصحة والتعليم وتطوير القرى الأكثر فقراً وتقديم دعم نقدى للأسر الفقيرة، وهى توجهات كانت ترفضها تماماً المؤسسات الدولية.
ورغم رفض المؤسسات الدولية، نجحت مصر فى الإصلاح الاقتصادى عبر مجموعة من السياسات والإجراءات التى ساعدتها على تعزيز الاستقرار الاقتصادى وجذب الاستثمارات؛ فقامت بتحرير سعر الصرف، واتخذت عدداً من الإصلاحات المالية الشجاعة لخفض العجز فى الموازنة، وتقليص الدعم على الوقود والكهرباء، وتطبيق ضريبة القيمة المضافة وتحسين مناخ الأعمال والاستثمار وتبسيط الإجراءات وتقديم حوافز للمستثمرين والاستثمار فى البنية التحتية فى مشاريع ضخمة فى جميع أرجاء الوطن، ونتيجة لهذه الإصلاحات، حققت مصر معدلات نمو اقتصادى مبهرة؛ فارتفع معدل النمو الاقتصادى من 2.3% فى 2013/2014 إلى نحو 5.6% فى 2018/2019، كما انخفض معدل البطالة من 12.5% فى 2016 إلى نحو 7.5% فى 2019، وزادت احتياطيات النقد الأجنبى بشكل ملحوظ، حتى وصلت إلى مستويات قياسية تجاوزت 45 مليار دولار.
لقد نجحت مصر فى إصلاحات وسياسات مبهرة أظهرت للمؤسسات الدولية قدرتها على تحقيق نجاحات، رغم أن تلك المؤسسات كانت تشكك فى قدرة القيادة والشعب على الاتحاد وتحقيق المعجزة الاقتصادية، ولكن حققت مصر عدداً من المؤشرات الاقتصادية جعلتها واحداً من أسرع الاقتصادات نمواً فى المنطقة.
الدرس الذى تعلمناه من التجربة المصرية أنه لا يوجد مستحيل، وأن التفاف القيادة والشعب هو مفتاح النجاح، وأن الصبر على الشدائد الاقتصادية يحقق المعجزات ويهزم دسائس الأعداء، وأن الإصلاح الاقتصادى هو مسألة زمنية تتطلب التعامل بإنسانية مع الأفراد قبل اعتبارهم كتلة بشرية، وهذا ما طبقته السياسة الحكيمة للسيد الرئيس التى أثبتت ما نؤمن به فى أن التعامل مع المؤسسات الدولية يتطلب -وكما أشرنا فى البداية- الحنكة والمعرفة والدراية بأروقة وخبايا هذه المؤسسات ومرونة سياسية كبيرة، وأن ما فعلته مصر أثبتت به مرة أخرى للعالم أنها قادرة على تحقيق المستحيل، وأن قيادتها وكوادرها كما عبروا أكبر مانع مائى فى العام 1973 قادرون اليوم على عبور أكثر الموانع شدة وتحصيناً فى الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وأيضاً الرياضية.
فتحيا مصر حرة قادرة.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: صندوق النقد البنك الدولي اقتصاد مصر المؤسسات الدولیة هذه المؤسسات البنک الدولى السید الرئیس التعامل مع من خلال
إقرأ أيضاً:
السجن موضوعًا ثقافيًا
طيلة الأعوام الستة عشر التي قضَّاها في سجون النظام الأسدي، لم يستطع ياسين الحاج صالح الكتابة عن التجربة سوى بعض الملاحظات المتوترة التي صادرها السجَّانون قبل الإفراج عنه من سجن تدمر أواخر سنة 1996: «حاولتُ الكتابة عن السجن وأنا في السجن، فلم أعرف، لم أجد الموضوع». فلطالما كانت هناك حاجة إلى مسافة ضرورية عن السجن، جسدية وزمنية ونفسية، كي تصبح الرؤية أكثر وضوحًا، وذلك قبل أن تبدأ الذاكرة بمعالجة سنوات السجن في سياق تحويله إلى «موضوع ثقافي».
في كتابه «بالخلاص، يا شباب! 16 عامًا في السجون السورية» الصادر عن دار الساقي عام 2012، يشبه الحاج صالح كتابة تجربة السجن، كسجين سابق، بطريقة أهل الميت في التعرُّف على الجثة وغسلها وإكرامها بالدفن. وهذا لا يعني أن كتابة السجن محاولة للنسيان أو التجاوز ببساطة من يتحدثون عن «الاستشفاء بالكتابة»، بل هي السعي لوضع الماضي في سكَّته وسياقه، دفعًا بـ«الماضي الذي لا يمضي» ولو قليلًا حتى يصبح التفكير بالغد الحر ممكنًا، يقول: «لا أستطيع أن أتذكر بحرية ماضيًا لم ينفصل عني».
الكتابة عن السجن من خارج السجن، كما يحاولها الحاج صالح، هي مرحلة أخرى من نضال السجين كي ينال استقلاله عن ماضيه في السجن السياسي، وذلك من أجل إعادة التعرُُّف على حريته أيضًا، أو ما تبقى منها، على نحو مختلف. وليست الكتابة هنا فعلًا توثيقيًا، بل فعل تحوُّل من المعاناة إلى المعنى، أعسر ما فيها أنها تتطلب جهدًا نفسيًا صعبًا ومريرًا للتذكر. ولكن لا مفرَّ من التذكر، لأن «النسيان ممنوع» باعتباره شرطًا من شروط استمرار القمع.
يكتب الحاج صالح عن السجن نمطَ حياةٍ قائمٍ على التمرين اليومي بهدف البقاء على قيد الحياة فحسب. إنه مختبر البقاء البشري في ظروف قهرية مصممة للإذلال والطمس والموت البطيء، يقول: «السجن وحش، ولا يمكن للمرء أن يعايشه إلا إذا روَّضه وسيطر عليه». ولا يمكن لمن هو قابع في السجن أن يعيش فيه إلا بفضل نسيان السجن، هذا إذا ما أُتيحت له الوسائل والأدوات المساعدة على التلهّي والانشغال عن السجن وترويضه، وأهمها الكتب والأقلام. وعلى السجين قبل كل شيء أن يتواضع للحقيقة المُرة، أن يقبل الاعتراف بسجنه.
يمكن للزمن في السجن أن يصبح مادة قاتلة. تعتمد نسبة تسمم السجناء بالزمن في السجن على الطريقة التي يتبعونها باختلافهم في تصريف الساعات والأيام. الزمن هناك إما أن تقتُله، كما يفعل بعض السجناء بلعب الشطرنج أو الورق أو طاولة الزهر، أو أن تكسبه وتمنحه المعنى بطريقة مبتكرة عبر التأمل والقراءة التي تصبح ملاذ نجاة في ذلك المستنقع. يراقب ياسين الحاج صالح الزيارات الدورية عند تلك النوافذ التي يتبادل خلالها السجين الأخبار والمشاعر والمال مع الوافدين لزيارته من العالم الخارجي، فيسجل في كتابه هذه الملاحظة الشعرية البليغة عن الزمن في السجن: «حين تفتح هذه النوافذ كل أسبوع أو أسبوعين أو شهر فإنها تسمح بخروج الزمن المتراكم في الداخل وإدخال زمن طازج، تساعد على بدايات جديدة وتسرّع انسياب الزمن حتى موعد الزيارة القادمة».
اعتُقل ياسين الحاج صالح في ديسمبر سنة 1980 وهو في العشرين من عمره، وكان يومها طالبًا في سنته الثالثة بكلية الطب في جامعة حلب، وعضوًا في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري. عاش معظم سنوات اعتقاله في سجن حلب المركزي بالمسلمية شمال حلب، قبل أن يُنقل إلى سجن عدرا ومنه إلى سجن تدمر في دمشق الذي خرج منه إلى حريته ديسمبر عام 1996، وبالرغم من أن السجن في سوريا سرق من عمره 16 عامًا و14 يومًا، كما يعدها بالتمام والكمال، إلا أنه لا يعتقد بأن تجربته تنتمي إلى الأسوأ والأقسى بين تجارب السوريين كسجناء، وهو يحلم بتحويل السجن السوري إلى متحف للعبرة والتوبة، توبتنا كلنا، كما يقول.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني