شكل وبنية الاقتصاد الوطني بالمرحلة القادمة خلال ورشة حوارية في هيئة الاستثمار السورية
تاريخ النشر: 31st, May 2024 GMT
دمشق-سانا
أقامت وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية اليوم ورشة عمل حوارية في هيئة الاستثمار السورية بمشاركة وزارتي المالية والشؤون الاجتماعية والعمل ومصرف سورية المركزي وهيئة التخطيط والتعاون الدولي تحت عنوان “السياسات الاقتصادية الراهنة.. الواقع والتحديات والآفاق المستقبلية”.
وبحث المشاركون في ورشة العمل المقترحات والرؤى والأفكار لتحقيق التنمية في القطاع الاقتصادي وتحديد شكل وبنية الاقتصاد الوطني في المرحلة القادمة.
وأشار وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية الدكتور محمد سامر الخليل إلى أن المشهد الاقتصادي في سورية ينطوي على جملة من التعقيدات والمشكلات المتراكمة، لأسباب عديدة، بعضها يعود إلى خلل في بنية الاقتصاد السوري.
وهذا الخلل البنيوي عمره أكبر من عمر الحرب الأخيرة على سورية والأزمات التي رافقتها منذ عام 2011.
وأوضح أنّ معالجة التعقيدات التي تشوب المشهد الاقتصادي لا يمكن أن تتم من خلال الإجراءات والقرارات، إذ إنّ ذلك لن يكون مجدياً ما لم يتم الانطلاق من رسم السياسات، مؤكداً أنه من غير الطبيعي ومن غير المنطقي أن نستمر بالرؤى نقسها التي أنتجت بعض السياسات غير المجدية.
واستعرض الوزير الخليل السياسات التجارية قبل الحرب وخلالها ولغاية الآن مبيناً أنه خلال الثمانينيات من العقد المنصرم عانت سورية من حصار اقتصادي خانق، لم يكن بالمقدور التعامل معه والخروج منه دون إجراء تغيير في الفكر السياساتي على صعيد فسح المجال للقطاع الخاص بشكل أكبر لممارسة العمل التجاري الخارجي.
وتطرق الوزير إلى فترة الحرب ولاسيما عام 2012، حيث تضررت البنية التحتية والخدمية بشكل كبير وممنهج، ومع خروج الكثير من المناطق السورية عن السيطرة، ولاسيما تلك التي تتواجد فيها ثرواتنا النفطية وغلتنا الغذائية، ومع انخفاض عدد السياح بشكل كبير، وتراجع الإنتاج والتصدير، وبالتالي تراجع مصادر تأمين موارد الدولة من القطع، كان لا بدّ من انتهاج سياسة تجارية تقشفية ومنضبطة ومتوازنة.
وفي إطار الحديث عن السياسات المستقبلية أشار الخليل إلى السياسات العامة التي رسمتها وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية لتسير عليها، ومنها سياسة التجارة الخارجية التي تمزج بين الحرية والتقييد لضمان التأثير على مستوى الإنتاج والعمل بما يحقق معدلات نمو حقيقية قابلة للاستمرار وتصحيح الميزان التجاري لجهة زيادة القدرة التصديرية بما يؤمن إمكانية تمويل المستوردات المحفزة للنمو وأهمها مستلزمات الإنتاج الصناعي والزراعي، وزيادة فرص العمل. بالإضافة إلى سياسة تنمية الصادرات، والسياسة الاستثمارية القائمة على التنويع الاقتصادي وتعزيز دور القطاع الخاص في التنمية.
وفي كلمته أكد وزير المالية الدكتور كنان ياغي أن الضرورة أصبحت ملحة حالياً للوصول إلى مقاربة مختلفة للاقتصاد تتضمن تحديد دور الدولة في كل القطاعات سواء في الزراعة أو الصناعة أو الطاقة أو الخدمات وغيرها وشكل النظام الاقتصادي القادم وماهية دور القطاع الخاص في شكل وبنية هذا الاقتصاد.
وتحدث الوزير ياغي عن الاختلال الهيكلي الكبير بين بندي الإيرادات والنفقات في الموازنة العامة للدولة خلال سنوات الحرب على سورية في ظل تراجع كتلة الإيرادات كنتيجة مباشرة لخروج إيرادات النفط والثروة المعدنية من الحجم الكلي لهذه الإيرادات.
ولفت الوزير ياغي إلى أن كل ما سبق أدى إلى تغيير في سياسات وزارة المالية لإعادة التوازن للإيرادات في الموازنة العامة للدولة بينما ما زال هناك عبء كبير في الإنفاق نتيجة ظروف الحرب والحصار الاقتصادي على سورية وارتفاع معدلات التضخم، مبيناً أن الوزارة قامت بتخفيض معدلات الضريبة على كل الشرائح بعد إجراء لقاءات مكثفة مع الاتحادات والنقابات والحرفيين مقابل زيادة الالتزام بالتحصيل الضريبي وتطبيق الربط الإلكتروني للفواتير المصدرة.
وبيّن وزير المالية أن عدد مكتومي القيد الضريبي هائل والالتزام ما زال نسبياً وليس كاملاً في مسألة التحصيل الضريبي ولاسيما في الضريبة على الدخل، مؤكداً مضي الوزارة في عملية التحول بالنظام الضريبي إلى نظام شفاف واضح يقوم على الضريبة على القيمة المضافة والضريبة الموحدة على الدخل ومن المتوقع البدء بذلك مطلع العام القادم وسيكون له أثر واضح على الإيرادات العامة.
وفي كلمته لفت وزير الشؤون الاجتماعية والعمل لؤي المنجد إلى أهمية الحوار الوطني بين كل المكونات لوضع قواعد جديدة ورسم سياسات اقتصادية تؤدي إلى إيجاد حل متكامل وبناء للضائقة المعيشية، مشيراً إلى أن النقاش يجب أن يكون أساساً للمشاركة الاقتصادية من قبل القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية.
وطرح الوزير المنجد عدداً من التساؤلات خلال الورشة الحوارية حول مدى فعالية القطاع الثالث متمثلاً بـ “الجمعيات الأهلية والغرف والاتحادات والنقابات وغيرها” في المساهمة بالاقتصاد الوطني، مبيناً أنه لا يمكن تحقيق أي استدامة في البرامج الاجتماعية بمعزل عن العمل، مشيراً إلى أهمية الورشة في الارتقاء بالحوار تحضيراً لاتخاذ القرارات الاقتصادية.
من جهته أوضح حاكم مصرف سورية المركزي الدكتور محمد عصام هزيمة أن المركزي يعمل وفقاً للدور المنوط به على ثلاثة محاور رئيسية هي سعر صرف الليرة السورية والتضخم وانعكاس هذين المحورين على أسعار المواد والسلع وسلط الضوء على العوامل التي أدت إلى انخفاض الواردات من القطع الأجنبي خلال سنوات الحرب.
وأشار الدكتور هزيمة إلى أن المركزي مستمر في سياساته الهادفة للحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي بما يسهم في تحقيق أهداف السياسة الاقتصادية الكلية وبناء سياسة نقدية فاعلة ومؤثرة تستهدف الحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة السورية ومعدل تضخم منخفض ومستقر وتسهم في توفير البيئة الملائمة للاستثمار ودعم النمو الاقتصادي إلى جانب تبني استخدام أدوات الدفع الإلكتروني كأداة حيوية لتحقيق الأهداف قصيرة وطويلة الأجل.
ولفت الدكتور هزيمة إلى أن المركزي ومنذ بدء الحرب على سورية لم يقم من خلال سياسته النقدية بإلغاء أي أداة مصرفية أو مالية وحتى الاعتمادات والكفالات المالية ما زال معمولاً بها وكل ذلك بهدف تحريك الاقتصاد وتحقيق النمو المنشود، وفيما يتعلق بالسياسات أوضح أن المركزي يتوجه نحو توحيد نشرات أسعار الصرف كيلا يبقى هناك فروق بين سعر صرف الليرة في النشرة الرسمية ونشرة السوق ونشرة الحوالات، مؤكداً أن ذلك من أهم أهداف المركزي.
رئيس هيئة التخطيط والتعاون الدولي الدكتور فادي سلطي الخليل أوضح أنه خلال فترة الحرب لم تعد السياسات الاقتصادية معلنة بل أصبحت إجرائية تعمل على الاستجابة الآنية لمفرزات الحرب وتسخير السياستين المالية والنقدية للتعامل مع مشكلات محددة مثل نقص الموارد ومواجهة اتساع الاحتياجات وتدهور سعر الصرف وما تبعه من ضعف القوة الشرائية وارتفاع الأسعار ومعدلات الفقر، مشيراً إلى أنه في عام 2017 بدأ التفكير بإطلاق سياسات أو مسارات تنموية من خلال السياسات الاقتصادية وإعداد خطة وطنية للخروج بشكل تدريجي من مفرزات الحرب إلى مرحلة التعافي والانتعاش.
وبيّن الدكتور الخليل أن هناك معاناة من الفجوة بين السياسات المخططة والمنفذة وضعف التيقن من مدى كفاية وملائمة السياسات التي تم تبنيها وعدم إمكانية التنفيذ وغياب منظومة الرصد والتقييم، مشيراً إلى أهمية استخدام سياسات وأدوات تقود إلى تخصيص الموارد وإعادة توزيع الدخل وتوجيه النشاط الاقتصادي من خلال تحديد الدور المعياري والموضوعي للدولة وتحقيق التشارك المجتمعي مع القطاعين العام والخاص والمجتمع الأهلي.
وأدار الورشة الدكتور عامر خربوطلي مدير غرفة تجارة دمشق الذي أشار إلى أهمية مثل هذه الورشات في توسيع دائرة الحوار والخروج بمخرجات وأفكار حول توصيف وتشخيص حقيقي للواقع الاقتصادي ووضع تصور لاقتصاد قوي ومتجدد، لافتاً إلى أنه لا معنى للسياسات الاقتصادية إذا لم تحقق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة وزيادة في مستويات الناتج المحلي وبالتالي تحسين مستوى الدخل.
وتركزت مداخلات الحضور والمشاركين حول كيفية اتخاذ القرار الاقتصادي وتجديد القوانين والتشريعات الناظمة لتتناسب مع روح العصر مع إجراء تقييم ومراجعة للقرارات المتخذة وتحقيق استقرار بين الأجور والأسعار وتقييد الاستيراد وضرورة إدارة الاقتصاد بالتخطيط وليس بالمقترحات.
كما تطرق المشاركون إلى ضرورة ربط العلاقة بين الاقتصاد والسكان والعلاقة بين الدولة والمجتمع ودعم القطاع التصديري والمصدرين وإعادة هيكلة الدعم وتوحيد الفكر والأهداف وتحديد السياسات ودعم قطاع الأعمال ودعم الفئات الهشة.
وأشار المشاركون إلى ضرورة توضيح هوية الاقتصاد السوري وتحسين مناخ الاستثمار واتباع سياسة الحماية الاجتماعية والتركيز على المشاريع الصغيرة والمتوسطة لأنها الركيزة الأساسية لعملية التعافي الاقتصادي، مشددين على ضرورة إعطاء الأولوية للإنتاج في قطاعات الزراعة والصناعة.
وطرح بعض المشاركين ضرورة تبني سياسات اقتصادية ترضي توقعات المواطنين وتعزز الثقة بين المجتمع وهذه السياسات وإعادة الإنتاج المحلي بقوة ونشر الأرقام والإحصائيات الدقيقة للقطاعات المعنية، مقترحين إمكانية عقد مؤتمر على مستوى أشمل يضم جهات مختلفة ذات صلة ومناقشة الأفكار والطروحات والتفكير بحلول مفيدة وناجعة على المستوى الاقتصادي.
وفي رده على المداخلات أشار الوزير الخليل إلى أن دعم القطاع العام في مطارح جديدة في قطاعات ليس لها جدوى اقتصادية يؤثر بشكل سلبي على الاقتصاد الوطني وهذا الأمر في غير محله الاقتصادي، كما أن الدعم للمواد بأشكاله الحالية أصبح غير مجدٍ، حيث يرهق كاهل الدولة ويستنزفها ولا يستفيد منه المواطن بشكل حقيقي، داعياً جميع المشاركين بالورشة إلى موافاة الوزارة بأوراق عمل تتضمن المقترحات لتحقيق التنمية الاقتصادية المطلوبة لمناقشتها على مستوى اللجنة الاقتصادية الحكومية.
من جانبه أوضح الوزير ياغي ضرورة إعادة النظر في شكل الدعم وأساليبه ومستحقيه وهل سيتم الانتقال من دعم السلعة إلى دعم المواطن بشكل مباشر، مبيناً أنه بعد كل تراجع في مستوى المعيشة نتيجة محدودية الرواتب والأجور كان يتم زيادة الدعم الحكومي للمشتقات النفطية والدقيق التمويني، معرباً عن أمله بالوصول إلى مخرجات ومقترحات بناءة بنهاية الورشة الحوارية.
من جهته أكد الوزير المنجد ضرورة المضي في التشاركية بالحوار لإعداد أوراق عمل مرجعية مصوغة على مستوى رسم السياسات، داعياً الحاضرين في هذه الجلسة الحوارية إلى المشاركة مع فريق الحوار في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل للوصول إلى تحقيق الأهداف التنموية المنشودة.
بدوره لفت الدكتور هزيمة إلى العقوبات المفروضة على القطاع المصرفي والتي تمنع سورية حتى من فتح اعتمادات لاستيراد المواد الطبية الدوائية والغذائية ونبه إلى خطورة الطروحات الاقتصادية النظرية غير المبنية على الظروف الواقعية في ظل نقص العناصر المكونة لتحقيق التوازن الاقتصادي والاجتماعي، مؤكداً أن أي طرح يتعلق بالسياسات المالية والاقتصادية يجب أن ينطلق من المعطيات في الواقع الحالي.
رئيس هيئة التخطيط والتعاون الدولي أوضح أنه يجب الانطلاق من واقع الاقتصاد السوري وتشخيصه بشكل واضح لإيجاد الحلول للمشاكل والانطلاق من مفاهيم جديدة من خارج الصندوق من خلال تحفيز النمو الاقتصادي بالموارد الموجودة، وفيما يتعلق بموضوع الدعم أوضح وجوب وضع خطة آمنة للخروج من مفهوم الدعم السابق كفكر إيديولوجي لكل فئات المجتمع.
وفي تصريح للإعلاميين أكد الوزير الخليل أن الجلسة الحوارية انتهجت خطة عمل اعتمدت على ما خطه السيد الرئيس بشار الأسد في اجتماع اللجنة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي وحديثه في الجانب الاقتصادي الهام، حيث تطرقت إلى الكثير من المحاور والأفكار والطروحات حول السياسات الاقتصادية بشكل علمي ومنهجي وواقعي.
وأشار الخليل إلى وجود مجموعة من المشكلات الاقتصادية في سورية منذ ما قبل الحرب وقد زادت الحرب من آثارها السلبية ولم تستطع السياسات القائمة معالجة المشكلات القائمة أو التخفيف منها بل عمقتها، لذا أصبح من الضرورة مراجعة هذه السياسات وتقييمها وتقويمها كما ينبغي أيضاً مراجعة دور الدولة في الحياة الاقتصادية ودور القطاع الخاص.
شارك بالجلسة الحوارية خبراء اقتصاديون وباحثون وأكاديميون في الاقتصاد وعلم الاجتماع ورؤساء اتحادات غرف الصناعة والتجارة والزراعة وعدد من فعاليات قطاع الأعمال ونخبة من الإعلاميين الاقتصاديين.
وسيم العدوي – منار ديب
المصدر: الوكالة العربية السورية للأنباء
كلمات دلالية: السیاسات الاقتصادیة الاقتصاد الوطنی القطاع الخاص الخلیل إلى أن المرکزی على سوریة على مستوى إلى أهمیة من خلال إلى أن
إقرأ أيضاً:
اتفاقية الشراكة الاقتصادية العُمانية - الهندية تعيد رسم ملامح الاقتصاد العماني
بالنظر إلى التطورات المتسارعة في المشهد الاقتصادي الإقليمي والدولي، تبدو اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين سلطنة عُمان وجمهورية الهند خطوة تحمل طابعًا استراتيجيًا واسع التأثير، ليس فقط من حيث تعزيز التبادل التجاري، بل من حيث إعادة صياغة الدور الاقتصادي لسلطنة عمان على مدى السنوات المقبلة. فالمؤشرات الأولية القائمة اليوم تُظهر أن التعاون بين البلدين آخذ في النمو بوتيرة ثابتة، حيث بلغ حجم التجارة الثنائية خلال العام المالي 2024-2025 ما يقارب 10.61 مليار دولار، وهو رقم يعكس علاقة اقتصادية راسخة قابلة للتوسع بمجرد تفعيل الاتفاقية المرتقبة. ويأتي ذلك في وقت تتطلع فيه سلطنة عُمان إلى اقتصاد أكثر تنوعًا، وأكثر قدرة على المنافسة، وأكثر انفتاحًا على الأسواق الآسيوية والعالمية.
وإذا ما نظرنا إلى طبيعة العلاقة الاقتصادية بين البلدين، فإن الموقع الجغرافي الاستراتيجي لعُمان يمنحها نقطة قوة محورية. فالموانئ العُمانية مثل صلالة والدقم وصحار لا تُعد بوابات بحرية عادية، بل منصات إقليمية ذات قدرة عالية على خدمة التجارة الدولية وربط آسيا بأفريقيا والخليج وأوروبا. وفي حال اكتملت اتفاقية CEPA، فإن هذه الموانئ لن تكون مجرد نقاط عبور للسلع العُمانية أو الهندية، وإنما محاور لوجستية تجذب الاستثمارات الصناعية والخدمية، وتدعم حركة إعادة التصدير، وتُسهم في بناء منظومة اقتصادية تُضاعف القيمة المضافة داخل سلطنة عُمان. ومن شأن هذه المنظومة أن تُعيد تشكيل قطاعات واسعة تتعلق بالنقل والتخزين والخدمات اللوجستية والصناعات التحويلية، الأمر الذي ينعكس على توسيع فرص العمل وتحسين نوعية الأنشطة الاقتصادية.
ومع أن الاتفاقية تفتح آفاقًا واسعة أمام التجارة في الاتجاهين، إلا أن الجانب الأكثر أهمية لسلطنة عمان يكمن في تعزيز الصناعات المحلية. إذ تستهدف عُمان ضمن رؤيتها 2040 بناء اقتصاد متنوع قائم على الصناعة والتكنولوجيا والخدمات المتقدمة، وليس اقتصادًا يعتمد على سلعة واحدة. ومع الحصول على نفاذ تفضيلي إلى سوق تتجاوز قوامها 1.4 مليار نسمة، فإن مجالات مثل البتروكيماويات، الفولاذ، الألمنيوم، الأسمنت، الرخام، المنتجات الزراعية، والمنتجات التقليدية العُمانية يمكن أن تشهد توسعًا نوعيًا في صادراتها. هذه الأسواق الضخمة لا تستوعب المنتجات فحسب، بل تحفّز أيضًا الصناعات المحلية على رفع مستويات الجودة، وتحسين سلاسل الإنتاج، وزيادة الطاقة التشغيلية، وإيجاد مساحات أكبر للشركات الصغيرة والمتوسطة التي تطمح إلى التصدير.
ومن زاوية مستقبلية، يمكن اعتماد سيناريويهن لتقدير أثر الاتفاقية على حجم التجارة الثنائية: سيناريو متحفظ يفترض نموًا سنويًا بمتوسط 8%، وسيناريو تفاؤلي يفترض نمواً بمتوسط 12%، وذلك مقارنة بمعدل النمو الطبيعي للتجارة الذي يدور حول 3%. وبناء على هذه الحسابات، يمكن أن يرتفع حجم التجارة الثنائية من 10.6 مليار دولار اليوم إلى ما يقارب 15.6 مليار دولار خلال خمس سنوات في السيناريو المتحفظ، وإلى ما يتجاوز 18.7 مليار دولار في السيناريو المتفائل. ومع استمرار النمو لعشر سنوات، يمكن أن يصل الحجم التجاري بين البلدين إلى نحو 23 مليار دولار في السيناريو المتحفظ، فيما قد يصل إلى قرابة 33 مليار دولار في السيناريو التفاؤلي. وهذه القفزات المحتملة لا تأتي فقط من زيادة حجم المبادلات التقليدية، بل من توسع في الصناعات التحويلية، والاستثمار في خطوط إنتاج جديدة تستهدف السوقين معًا.
ومن شأن هذه التحولات أن تُعيد تشكيل الاقتصاد العُماني ليصبح أكثر مرونة في مواجهة التقلبات العالمية، وأكثر قدرة على النمو الذاتي من خلال الإنتاج المحلي والصناعات الوطنية. ومع ازدياد النشاط اللوجستي، وتوسع المناطق الحرة، وتجدد الاستثمارات الصناعية، سيكون لعُمان موقع جديد على خارطة التجارة العالمية، موقع يعكس قدرتها على استغلال مواردها الجغرافية والبشرية والاقتصادية لبناء اقتصاد متنوع ومستدام. وإذا ما وُظفت هذه الفرص بالشكل الصحيح - عبر التخطيط، وإدارة الموارد بكفاءة، وتطوير التشريعات، وتحفيز الكفاءات الوطنية - فإن السنوات العشر المقبلة قد تشهد تحولًا جذريًا في شكل الاقتصاد العُماني وحجمه.
بينما تتعمق سلطنة عُمان في توسيع شراكاتها الدولية، تمثّل اتفاقية التجارة الحرة مع الهند نقطة تحول قادرة على إطلاق موجة جديدة من النشاط الاقتصادي الذي يترابط فيه التصنيع بالتجارة، ويُكمل فيه الاستثمار اللوجستيات، ويتقاطع فيه النمو الصناعي مع توسع أسواق التصدير. فالعلاقة مع الهند ليست علاقة تجارية عابرة، بل علاقة راسخة تستند إلى تاريخ طويل من التبادل والتداخل الاقتصادي والثقافي، ما يجعل الاتفاقية القادمة امتدادًا طبيعيًا لمسار مشترك يتطور باستمرار. ويُتوقع أن تشكل الاتفاقية حافزًا لعدد من القطاعات التي كانت تتطلع إلى الوصول إلى أسواق أكبر، وفي مقدمتها القطاعات الصناعية التحويلية التي تعتمد على المواد الأولية المتوفرة في سلطنة عُمان، وتستهدف خلق قيمة مضافة قبل التصدير.
ويأتي ذلك في وقت تشهد فيه المنطقة تحولات جيو-اقتصادية عميقة تتجه فيها دول عديدة إلى تعزيز الاندماج الإقليمي والانفتاح على آسيا، ما يجعل توقيع الاتفاقية مع الهند خطوة تجسد فهمًا استراتيجيًا لموازين القوى الاقتصادية الجديدة. فالهند اليوم واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، وضمن أكبر خمس اقتصادات عالمية من حيث الناتج المحلي الإجمالي؛ وبالتالي، فإن تأسيس شراكة اقتصادية شاملة معها يضع عُمان ضمن شبكة اقتصادية صاعدة ستعيد تشكيل مسارات التجارة خلال العقود المقبلة. ومن خلال هذه الشبكة، يمكن لسلطنة عمان أن تعمّق دورها كمركز إقليمي للتجارة والخدمات الصناعية، وأن تستفيد من الطلب الهائل في الهند على المواد الخام والمنتجات الصناعية والسلع الاستهلاكية.
وإذا ما نظرنا إلى تأثير الاتفاقية على الشركات الصغيرة والمتوسطة في عُمان، سنجد أن CEPA قد تكون فرصة تاريخية لهذه الفئة من الشركات لتوسيع آفاق أعمالها. فالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة تشكل جزءًا أساسيًا من هيكل الاقتصاد الوطني، وتحتاج إلى بيئة تجارية تدعم منتجاتها وتمكنها من الوصول إلى أسواق جديدة. ومع تيسير الإجراءات الجمركية، وتخفيض الرسوم، وتسهيل النفاذ إلى الأسواق، يمكن لهذه الشركات أن تجد في السوق الهندية منفذًا واسعًا لتسويق منتجاتها، سواء في قطاعات الأغذية، أو المنسوجات، أو المنتجات العطرية، أو الصناعات التقليدية. وهذه النقلة يمكن أن تُسهم في خلق ثقافة تصدير أقوى، وترسيخ روح المبادرة، وتعزيز الابتكار داخل الشركات العمانية.
أما على مستوى الأمن الغذائي، فإن الهند ـ باعتبارها قوة زراعية ضخمة ـ يمكن أن تكون شريكًا استراتيجيًا لسلطنة عمان في تلبية الاحتياجات الغذائية المتزايدة. ومع تسهيل الاستيراد عبر CEPA، يمكن لعُمان أن تؤمن سلة غذائية متنوعة بأسعار تنافسية، ما يرفع من مستوى الاستقرار الغذائي ويعزز من قدرة السوق المحلي على مواجهة تقلبات الأسعار العالمية. وفي المقابل، يمكن للمنتجات العمانية الفريدة - مثل التمور واللبان ومنتجات الرخام - أن تجد طريقها إلى منافذ البيع الهندية بطريقة أكثر سلاسة، وهو ما يشكل مكسبًا اقتصاديًا وثقافيًا في آن واحد. ومع توسع المبادلات التجارية وتحسن كفاءة سلاسل الإمداد، ستصبح عُمان مركزًا لوجستيًا أكثر جاذبية للشركات العالمية التي تبحث عن نقطة ارتكاز بين آسيا وأفريقيا والخليج. ويمثل هذا التحول فرصة كبيرة للقطاع الخاص العماني الذي يمكنه استثمار هذا الموقع عبر إنشاء مراكز تخزين وتوزيع حديثة، وتطوير شبكات نقل، وإطلاق خدمات لوجستية متقدمة تدعم التجارة العابرة للقارات. وهذا التحسين في أداء الموانئ والمناطق الحرة سيؤدي إلى دوران اقتصادي أسرع داخل سلطنة عمان، ويُعزّز إيرادات الدولة من الأنشطة المرتبطة بالنقل والموانئ والجمارك والخدمات المساندة.
وفي ضوء هذه المعطيات المتداخلة، ومع ما تحمله المؤشرات الاقتصادية من دلالات واضحة على اقتراب مرحلة جديدة في العلاقات العمانية الهندية، تبدو سلطنة عمان أمام منعطف تاريخي يمكن أن يغيّر مسار اقتصادها خلال العقد المقبل. فكل الأرقام، وكل التوجهات، وكل السيناريوهات المستقبلية تشير إلى أن تفعيل اتفاقية CEPA لن يكون مجرد حدث اقتصادي عابر، بل نقطة انطلاق نحو دورة نمو أكثر نضجًا وجرأة وتنوعًا. ومن المتوقع، إذا ما سارت الأمور وفق الإيقاع الذي ترسمه اليوم المعطيات، أن تتضاعف التجارة الثنائية خلال سنوات قليلة، وأن تتجاوز حاجز 20 مليار دولار في منتصف العقد القادم، وربما تقترب من 30 مليار دولار خلال عشر سنوات، في حال استفادت سلطنة عمان إلى أقصى حد من مزايا التموضع الجغرافي والتكامل الصناعي مع الهند.
ولا تقف التوقعات عند حدود التجارة وحدها، بل تمتد إلى الصناعات التحويلية التي يُرجّح أن تشهد توسعًا ملحوظًا، خاصة تلك المعتمدة على المعادن والبتروكيماويات والمواد البنائية، إلى جانب فرص متنامية في الصناعات الخضراء والطاقة المتجددة والتكنولوجيا الصناعية. ومع بروز الموانئ العُمانية كمراكز توزيع إقليمية، يتوقع أن تتسارع حركة الاستثمار في المناطق الحرة والمناطق الاقتصادية الخاصة، بما يعيد تشكيل الخريطة اللوجستية في المنطقة، ويجعل من سلطنة عمان محطة رئيسية في سلاسل الإمداد بين آسيا والخليج وأفريقيا.
وعلى مستوى سوق العمل، تشير التقديرات المستقبلية إلى إمكانية خلق الوظائف النوعية التي يمكن أن تمنح الشباب العُماني فرصًا غير مسبوقة للاندماج في قطاعات صناعية وتقنية جديدة، وترفع من مستوى المهارات الوطنية، وتدعم مسار التوطين في القطاع الخاص. ومع اتساع رقعة التصنيع والتصدير، ستنشأ احتياجات موازية في قطاع الخدمات والتعليم والتقنية، ما ينتج دورة اقتصادية متكاملة ترفد بعضها بعضًا، وتُرسي قواعد نمو متواصل ومستقر.
أما على المدى الطويل، فإن تفعيل الاتفاقية قد يمهد لمرحلة يصبح فيها الاقتصاد العُماني أكثر قدرة على مواجهة التقلبات العالمية، وأكثر استعدادًا لاستيعاب التحولات التقنية والبيئية والاقتصادية. ومع استمرار التنويع، وتوسّع الصادرات، وتعاظم دور سلطنة عمان كمركز لوجستي محوري، يمكن لعُمان أن تنتقل من موقع المنافس الإقليمي إلى موقع اللاعب الفاعل في التجارة الدولية. وقد نشهد خلال عشر سنوات اقتصادصا عمانيًا متجددًا، واسع القاعدة الإنتاجية، متصلًا بشبكات التجارة العالمية، ومتقدمًا بخطى ثابتة نحو تحقيق رؤية عُمان 2040 بوصفها رؤية طموحة لاقتصاد مرن، مبتكر، ومستدام.
من الناحية النوعية، يشير هذا النمو إلى زيادة الصادرات غير النفطية، حيث من المتوقع أن تستفيد قطاعات مثل البتروكيماويات، الفولاذ، الألومنيوم، الأسمنت، الرخام، اللبان، والتمور من تحسن سلاسل التوريد وفتح الأسواق الهندية. النمو في هذه القطاعات، الذي بدأ يظهر بالفعل في بيانات 2025، يعكس قدرة الاقتصاد العُماني على تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط. عمليا، إذا ارتفعت الصادرات غير النفطية بمعدل يتراوح بين 6% و12% سنويا نتيجة النفاذ إلى السوق الهندي وتحسين اللوجستيات، فإن هذا سيترجم إلى زيادة ملموسة في حصيلة التبادل التجاري الكلي.
تحقيق السيناريو التفاؤلي يتطلب مجموعة من العوامل التمكينية، أبرزها تسريع عمليات التصديق والتوقيع والتنفيذ للاتفاقية مع وضع آلية متابعة مشتركة لضمان تطبيق بنود التفضيل الجمركي وإزالة العوائق الإجرائية. كما يشمل تطوير البنية التحتية اللوجستية للموانئ والمناطق الحرة ومرافق التخزين والتبريد وطرق الربط الداخلي لالتقاط الطلب المتزايد.
كذلك، تعد الحوافز الاستثمارية للقطاعات ذات القيمة المضافة وبرامج التدريب الفنيّة من العناصر الأساسية لضمان استدامة النمو الصناعي. إضافة إلى ذلك، فإن إقامة تحالفات تجارية وشراكات تسويقية مع موزعين هنود يسهم في تسهيل النفاذ إلى الأسواق الهندية على مستوى المدن والمناطق، بينما تتيح حزم الدعم للصادرات الصغيرة والمتوسطة وصول المنتجات العُمانية إلى رفوف السوق الهندي بفعالية وجودة تنافسية.
بشكل عام، تشير هذه التقديرات إلى أن تفعيل CEPA يشكل فرصة استراتيجية لعُمان لتعزيز التجارة الثنائية، تنويع الاقتصاد، جذب الاستثمارات، وخلق فرص عمل واسعة، ما يسهم في تعزيز النمو الاقتصادي المستدام وتقليل الاعتماد على النفط، مع تعزيز قدرة سلطنة عمان على تأدية دور متنامٍ في التجارة الإقليمية والدولية.