الثورة نت:
2025-07-09@01:05:59 GMT

حين تعوض السياسة فشل الحرب

تاريخ النشر: 5th, June 2024 GMT

 

 

لا أخفي قلقًا من سيناريوهات ما بعد العدوان على غزة، رغم أنني أتمنى أن تطوى اليوم قبل الغد صفحة تلك الملحمة الفلسطينية التي أبهرت واستحقّت احترام وتعاطف الكثيرين. ذلك أن بعض سيناريوهات ما بعد الحرب تحاول بطرق شتى أن تحقق من خلال السياسة ما فشلت الحرب في بلوغه من أهداف.
صحيح أن الاحتيال والخديعة من خصائص الحركة الصهيونية منذ برزت في نهاية القرن التاسع عشر، التي بشّر بها تيودور هرتزل آنذاك في كتابه الشهير: «الدولة اليهودية».

إلا أن ذلك الأسلوب المخادع والمراوغ صار من لوازم كل خطوات تأسيس وبناء الدولة العبرية منذ 1948 مرورًا بكافة المساعي التي بذلت بدعوى تحقيق السلام، وكان من أبرزها المعاهدة التي أبرمها الرئيس أنور السادات مع إسرائيل في 1978، واتفاقيات أوسلو التي تمّت مع منظمة التحرير عام 1993، التي ندم ياسر عرفات على المضي فيها، معترفًا بأنها كانت خطأ وقع فيه.
لكني أزعم أن التاريخ الذي مرّ منذ تأسيس إسرائيل في كفة، والتاريخ الذي بدأ في 7 أكتوبر 2023 في كفة أخرى مختلفة تمامًا، شكلًا وموضوعًا.
يسوغ لنا ذلك أن نقول إن ثمة فرقًا جوهريًا بين تجربة الاحتلال طوال 76 عامًا وبين ما حدث بعد «طوفان الأقصى»، وبعد نحو ثمانية أشهر من القتال، إذ أدركت إسرائيل أن المشروع الصهيوني يواجه خطرًا حقيقيًا يهدّد وجوده. وذلك ليس كلامي وحدي، لأنّ الإشارة إلى هذه الخلاصة وردت في كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تعليقه على قرار محكمة العدل الدولية بوقف الحرب في رفح، إذ نقلت عنه وكالات الأنباء قوله: «من يطالب دولة إسرائيل بوقف الحرب فإنه يطالبها بإنهاء وجودها نفسها، وهو ما لن نوافق عليه».
وتلك رسالة ردّدها بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية وعضو الكنيست عن البيت اليهودي اليميني المتطرف، إذ تخلى الرجل عن الغرور والانتفاخ الكاذب وصرح بأنّ الاستجابة لقرار المحكمة الدولية تعد إيذانًا بنهاية المشروع الصهيوني. وليس ذلك فقط تعبيرًا عن فزعه من القرار، وإنما هو تعبير عن إدراكه لأصداء الزلزال الذي لاحظه في أعقاب عملية “طوفان الأقصى”، وأصدائها القوية التي ما زالت تتردد في أرجاء العالم حتى الآن.
لا غرابة في التشاؤم الذي عبّر عنه الوزير الإسرائيلي وهو ما لامسته من مقالة سابقة بعنوان: «أن تصبح إسرائيل تاريخًا»، أشرت فيها إلى علامات أفول المشروع الصهيوني بعدما انفضح أمرُه أمام العالم خلال حرب الإبادة على غزة، حين توالت شهادات الخبراء الإسرائيليين وغيرهم التي اعترفت بهزيمة الجيش الذي لا يقهر عسكريًا وأمنيًا واستخباراتيًا، إضافة إلى تدهور سمعتها الاقتصادية والأخلاقية وضلوعها في جرائم الإبادة، وغيرها من انتهاكات القانون الدوليّ، والقانون الدولي الإنساني.
وهي ذات التفاعلات التي دفعت ثلاث دول أوروبية: (إسبانيا، وأيرلندا والنرويج) إلى اعترافها بدولة فلسطين، الأمر الذي يساهم في عزلة إسرائيل دوليًا ويعزز تراجع الرأي العالمي إزاءها. في الوقت ذاته ارتفعت أسهم فلسطين: القضية والمقاومة والشعب الصامد والصابر. وكان للإدارة الأمريكية نصيبها من الفضيحة بعدما انكشف أمام العالم حجم التواطؤ والتأييد الذي تقدمه إلى إسرائيل، لتتجاوز الشراكة بينهما إلى التبنّي والسعي المستمرّ لتمكين إسرائيل من مواصلة القتل والتهجير، والتستّر على جرائم الإبادة.
حين دخلت الحرب شهرها الثامن ظهرت عوامل جديدة في المشهد. إذ ثبت أن إسرائيل لم تحقق شيئًا من أهدافها الاستراتيجية.
وظهرت الشقوق داخل مجتمعها، وتطوّرت مظاهرات أهالي الأسرى الذين ظلوا يطالبون بعقد هدنة مع حماس تطلق سراح أسراهم لديها، ثم أضافوا مؤخرًا مطالبات باستقالة الحكومة وانتخاب رئيس جديد لها. وفي هذه الأجواء ظهرت سيناريوهات ما بعد الحرب، خصوصًا ما رشح منها في الولايات المتحدة التي تقف في مربع الانحياز الصريح لإسرائيل.
التطوّر الآخر الهام؛ أن الدور الأمريكي تراجع بصورة نسبية، فرغم أنها لا تزال القوة الكبرى والأعظم عسكريًا، فإن وزنها الاستراتيجي ضعف بدوره بصورة ملحوظة. آية ذلك أنها لم تستطعْ أن تكبح جماح المحاكم الدولية التي تمرّدت وأصدرت أحكامًا كشفت عن عدم رغبة المحافل القانونية الدولية للأمم المتحدة بالاستمرار في منح إسرائيل حصانة مفتوحة الأجل، ولم تستطعْ واشنطن بكل ما تملكه من نفوذ أن تمنعها من ذلك.
كما أنها عجزت عن ممارسة ضغوطها لمنع جنوب أفريقيا من اتهام إسرائيل بممارسة الإبادة بحق الفلسطينيين في غزة، فضلًا عن فشلها في أن تحول دون تمرّد بعض دول أمريكا اللاتينية والتنديد بالعدوان الإسرائيلي، أحدثها إعلان المكسيك طلب الانضمام رسميًا إلى جنوب أفريقيا في الدعوى التي تنظر أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل بانتهاك المعاهدة الدولية لمنع الإبادة.
ومن مصادفات الأقدار أن الجسر العائم الذي قامت واشنطن ببنائه بتكلفة 320 مليون دولار بدعوى إدخال المساعدات إلى القطاع انهارت أجزاء منه بعد مضي أسبوع من تشغيله، مما كان تعبيرًا عن هشاشة الدور الأمريكي، وركاكة التعامل مع معطيات الواقع الفلسطينيّ على الأرض.
من نماذج السيناريوهات التي أعنيها ما نشرته مجلة «بوليتيكو» الأمريكية ذات السمعة الرصينة التي نسبت معلوماتها إلى أربعة مسؤولين في إدارة الرئيس بايدن. وهناك أفكار أخرى قريبة تحدّث عنها تقرير لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى المؤيد للسياسات الإسرائيلية، ومقترحات ثالثة أعدّتها جماعة بحثية تسمى تحالف فاندنبرج الذي يتكوّن بدوره من عدد من مؤيدي إسرائيل.
ربما كان كافيًا لاستبعاد أمثال تلك الأطروحات بسرعة أن ندرك أنها خارجة من المطبخ الأمريكي الذي هو بمثابة الشريك والكفيل للدولة الإسرائيلية، وذلك لا يمنع من إبداء عدة الملاحظات الأخرى التي تنبّه إلى بعض العوامل المثيرة للقلق.
ذلك أن أغلب الأفكار المطروحة تحرص على التمكين الإسرائيلي وضمان سيطرتها على الأوضاع الأمنية بدعوى الحيلولة دون تكرار ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ولتحقيق ذلك يسمح بعودة أعداد من الفلسطينيين بشروط معينة. ويتوازى ذلك مع تنشيط عملية الإعمار واستمرار التمويل. ويشرف على الإدارة المدنية مستشار أمريكي له مقر خارج غزة. إذ يقترح له أن يقيم في منطقة قريبة في سيناء أو عمّان، فريقه فقط هو الذي سيبقى داخل القطاع. أما الأمن والاستقرار فتتولاه قوة أممية تشترك فيها قوات تمثل ثلاث دول عربية «حليفة»، هي: مصر والمغرب والإمارات. وتضم إلى هذه القوة بعض عناصر سلطة التنسيق الأمني في رام الله.
وهذه النقطة الأخيرة لها خطورتها؛ لأنها بمثابة توريط غير مسبوق للدول العربية الحليفة في مهمة التنسيق الأمني سيئ السمعة، وهو ما يفتح الباب لاشتباك هذه القوة مع عناصر المقاومة الفلسطينية، على نحو يفتح الباب لاحتمال نشوب حرب عربية – عربية.
إزاء ذلك خطر لي شبح اتفاق أوسلو الذي أخذت فيه الدولة العبرية الكثير من المنظمة، وخرج الفلسطينيون بالسلطة الوطنية وبوعد الحكم الذاتي الذي يمهد للدولة المستقلة والذي لم يتحقق منه شيء طوال أكثر من 30 عامًا. وبذلك حقّقت إسرائيل مرادها وأكل الفلسطينيون الهواء. وهو ما ينبهنا إلى تحديات اللحظة الراهنة التي تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن “طوفان الأقصى” كان ولا يزال هو الحلّ. ليس اليوم فقط، ولكن غدًا أيضًا.
مفكر إسلامي

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

في إيران.. هجوم إسرائيل دمّر ما تبقّى من ثقة بالغرب

جلب وقف إطلاق النار الهشّ صمتًا مؤقتًا بعد أن باتت أصوات الانفجارات في سماء طهران مشهدًا مألوفًا. وُلدتُ عام 1988 قبل عام واحد من نهاية الحرب الإيرانية - العراقية. جيلي نشأ على قناعة بأن الحرب أمر من الماضي، واحتمال مستحيل، حتى جاء صيف هذا العام.

لـمدة 12 يومًا عشنا في العاصمة تحت وابل من الضربات الإسرائيلية، وما شهدناه غيّرنا إلى الأبد؛ فهناك جيران قُتلوا، ومبانٍ دُمرت، وقلق عميق محفور في وجوه الناس لا ينتهي.

من المريح أن نتحدث عن «الشعب الإيراني» ككتلة موحّدة، لكن الواقع أكثر تعقيدًا. كغيره من المجتمعات؛ الإيرانيون يحملون آراء متباينة. في الأيام الأولى للقتال كان هناك من رأى في استهداف قوة أجنبية لقيادات الحرس الثوري المكروه أمرًا يستحق الترحيب على الأقل في البداية. آخرون -رغم معارضتهم للنظام- شعروا بالغضب من فكرة الغزو الخارجي. بعض المتشددين رأوا في هذه الحرب مهمة دينية يجب خوضها حتى النهاية، فيما اختار البعض الآخر أن يبقى بلا رد فعل.

لكن مع تصاعد الضربات، وزيادة أعداد الضحايا المدنيين؛ بدأت الفجوات الاجتماعية تضيق. ظهرت كلمة «الوطن» في أحاديث الجميع، واكتسبت الوطنية طابعًا جديدًا. مشاهد التضامن باتت شائعة، وإن كان بقاؤها محل تساؤل؛ فملاك عقارات ألغوا الإيجارات تضامنًا، وسكان خارج طهران فتحوا بيوتهم للنازحين، ولم تُسجَّل حالات تهافت على المتاجر، أو فوضى، أو عمليات إجلاء مذعورة.

في رأيي؛ كان للموقف الأوروبي من العدوان الإسرائيلي دور محوري في هذا التحول. فقد وقفت فرنسا وألمانيا وبريطانيا إلى جانب إسرائيل متذرعةً بالحجج المعتادة، وهي برنامج إيران النووي، ودعمها للإرهاب. كل ذلك بينما كان الرئيس الأمريكي يرسم على منصته «تروث سوشيال» صورة وردية لإيران «ما بعد الحرب».

لكننا -نحن أبناء الشرق الأوسط- نعرف الحقيقة. صور الدمار الجديد في غزة لا تغيب عن شاشاتنا، وذاكرتنا مليئة بما حدث في ليبيا وسوريا، والعراق، وعودة طالبان في أفغانستان. لم تكن تلك حروبًا من أجل الديمقراطية. لم تُزرع فيها بذور الأمل.

كان من المفترض أن تدرك هذه القوى حقيقة العدوان الإسرائيلي العاري تمامًا كما أدانت بحق الغزو الروسي لأوكرانيا. وكان يجب لهذا الهجوم الوحشي المتعمد غير المبرر أن يُقابل بإدانة صاخبة، وغضب عارم من انتهاك ميثاق الأمم المتحدة. لكن شيئًا من ذلك لم يحدث.

كان الصمت صاعقًا. كأنه يهمس لنا بأن الأرواح الإيرانية أقل قيمة. هذا بالنسبة لكثير منّا هو الدرس الأبرز من دعم الغرب لإسرائيل. الحرب شُنّت على إيران، لكن تبريرها جاء من نفس المنطق القديم، وهو العنصرية. تجاهل أولئك القادرين على التدخل لهجة الإعلام الباردة حين يتحدث عن ضحايا غير بيض، والاستهانة الدائمة بمعاناة الآخرين، والنظرة الاستعلائية للهجمات التي تقع خارج «المدار الغربي». بل إن المستشار الألماني قالها بصراحة: «هذا العمل القذر تقوم به إسرائيل نيابةً عنّا جميعًا».

كثير من الإيرانيين غاضبون من هذا الظلم. إلى حد أن فكرة امتلاك سلاح نووي التي كانت حتى وقت قريب حكرًا على أطراف متطرفة بدأت تلقى صدى لدى عامة الناس. كما كتب أحدهم على منصة «إكس»: لا أحد يبدو قلقًا بشأن حقوق الإنسان في كوريا الشمالية، في إشارة إلى أن الرؤوس النووية ربما تكون الرادع الوحيد الفعّال في هذا العالم.

الثقة في التزام إسرائيل بوقف إطلاق النار ستكون سذاجة. هذا كيان معروف بنقض الاتفاقات دون مساءلة. ما يعني أن سيف ديموقليس لا يزال مرفوعًا فوق طهران، حتى وإن تلاشى صوت الانفجارات.

(سيف ديموقليس: تعبير مجازي مستمد من أسطورة إغريقية يرمز إلى الخطر المعلّق دائمًا فوق الرأس). قد يبدو من بعيد أن هذه المدينة -التي يسكنها أكثر من 10 ملايين شخص- قد استعادت حركتها المعتادة. لكن القلق ما زال يخيم على الأجواء، ويزداد سوءًا في ظل غياب أي وسيط موثوق قادر على إنهاء الحرب.

بالنسبة لكثيرين هنا؛ فإن انخراط الغرب بشكل مباشر أو ضمني أو حتى علني في هذا الصراع يجرده من أهليته كوسيط نزيه.

من موقعي أستطيع القول: إن انعدام الثقة تجاه أوروبا يزداد تجذرًا. سترمم المباني، وستُصلَح البنى الأساسية، لكن ما قد يكون تضرر إلى غير رجعة، وربما بلا إمكانية للإصلاح، هو الأساس الأخلاقي الذي بُنيت عليه الصورة الذاتية لأوروبا المتمثل في ازدواجية المعايير، والنفاق، وغياب العدالة، والذهنية الاستعمارية التي لم تمت، بل ما زالت تعيش بيننا، وتلقي بظلها على صورة أوروبا، لا في أعين الإيرانيين فقط، بل لدى كثيرين في دول الجنوب العالمي.

إنها أوقات قاسية.

لا أعلم إن كانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية ستنجو من هذا المنعطف، أو توقع على اتفاق، أو تستمر في مسارها الحالي. ما أعلمه يقينًا هو أن من سيحكم إيران في المستقبل لن ينسى ما حدث.

حسين حمديه حاصل على دكتوراه مزدوجة في الجغرافيا والأنثروبولوجيا من جامعة هومبولت في برلين، وكلية كينغز في لندن.

يقيم حاليًا في طهران، حيث يعمل باحثًا اجتماعيًا.

مقالات مشابهة

  • في إيران.. هجوم إسرائيل دمّر ما تبقّى من ثقة بالغرب
  • بريطانيا ستتخذ إجراءات إضافية ضد إسرائيل إذا استمرت الحرب على غزة
  • الصفدي يؤكد ضرورة وقف إسرائيل كل الخطوات اللاشرعية التي تقوض حل الدولتين
  • “حشد” تطالب الأمم المتحدة و”الجنائية الدولية” بإصدار مذكرات توقيف بحق مجرمي الحرب “الإسرائيليين”
  • كجوك: نتطلع إلى دور أكبر لـ «البريكس» فى إيجاد حلول مبتكرة لأزمة الديون.. نواب: نقلة نوعية لمساندة الاقتصادات الناشئة..ونواة مهمة في تغيير السياسة الدولية
  • التقدم والاشتراكية يحذر من تداعيات الأوضاع الدولية التي باتت تتسم بالتوتر والاضطراب
  • الأولى منذ وقف إطلاق النار مع إيران.. ما الأهداف الحوثية التي ضربتها إسرائيل؟
  • نهى نبيل: لا أشترى بحقيبة أو خاتم وكرامة الناس لا تعوض بالمال .. فيديو
  • رائحة الجثث.. إليكم الأسباب التي دفعت جنديا إسرائيليا للانتحار
  • شاهد.. مظاهرات عالمية تطالب بوقف الإبادة في غزة