يمانيون | تقرير
شهدت ساحة المواجهة في قطاع غزة خلال الساعات الماضية واحدة من أعقد الضربات النوعية التي نفذتها المقاومة الفلسطينية ضد قوات الاحتلال الصهيوني، وذلك عبر كمين محكم في محيط بلدة بيت حانون شمال القطاع، أسفر عن مقتل وإصابة عدد كبير من جنود العدو، وسط ارتباك شديد في صفوف قوات الإنقاذ وتخبط في القيادة الميدانية الصهيونية.

الكمين لم يكن مجرد عملية عسكرية ناجحة فحسب، بل مثّل تحولاً استراتيجياً عميقاً، أكد أن العقيدة البرية التي يعتمدها العدو في محاولاته لاجتياح قطاع غزة، لم تعد قابلة للتنفيذ دون تكلفة بشرية ومعنوية باهظة.

المقاومة، بما راكمته من خبرات وقدرات تفجيرية واستطلاعية، استطاعت أن تحوّل جنود العدو من “صيادين” كما كانوا يدّعون، إلى “صيد سهل” في كمائنها المحكمة، التي باتت تلتهم القوات الصهيونية الواحدة تلو الأخرى.

حرب استنزاف مفتوحة… ومعادلات جديدة
منذ انطلاقة معركة “الطوفان المقدس”، رفعت المقاومة من وتيرة العمليات المعقدة في عمق التماس والاشتباك، ونجحت في إدارة حرب استنزاف طويلة المدى، تقوم على إرهاق العدو نفسيًا وعسكريًا، وتشويش قراره السياسي والعسكري على حد سواء.

وفي كمين بيت حانون الأخير، استُخدمت عبوات ناسفة بقدرات تفجيرية عالية، أربكت تحركات العدو، وأفشلت محاولات الإنقاذ، حتى أن بعض وحدات الإسناد سقطت هي الأخرى في دائرة النيران.

وأمام هذا المشهد، لم تجد القيادات الصهيونية العسكرية ما تقوله سوى الاعتراف بالهزيمة الجزئية، وتقديم التعازي المتكررة لعائلات جديدة دخلت دائرة “الصدمة والفقد”.

صدمة في الإعلام الصهيوني.. من صيادين إلى صيد
أحد المحللين العسكريين الصهاينة عبّر بمرارة في تقرير بثته القناة 13 العبرية عن عمق الإخفاق قائلاً: “نحن أمام صباح صعب جداً، فهم يستخدمون عبوات بمستوى عالٍ جداً من القدرة التفجيرية. قلبي مع العائلات الجديدة التي انضمت إلى دائرة القتلى… لقد تحوّلنا من صيادين إلى صيد. نحن نمكث في غزة وهم يخططون للعمل ضدنا، يكمنون لقوات الإنقاذ، والجيش يحاول إنقاذ جنوده بأي ثمن… لكن لا أعلم إلى أين تقودنا هذه العمليات، ولماذا يحصل كل هذا؟”

هذه الكلمات، وإن جاءت في لحظة انفعال، إلا أنها تكشف حجم التصدع النفسي الذي أصاب الصفوف الخلفية للمؤسسة العسكرية الصهيونية، وأعاد إلى الأذهان سيناريوهات فشل مماثلة جرت في حرب تموز 2006 مع حزب الله في جنوب لبنان وفي معارك غزة السابقة، لكنها اليوم أكثر تعقيداً وخطورة.

نيتنياهو في واشنطن.. أزمة سياسية تتزامن مع الفشل الميداني
وفي الوقت الذي كانت فيه الدماء الصهيونية تسيل في بيت حانون، كان رئيس حكومة العدو بنيامين نيتنياهو يجري زيارة رسمية إلى واشنطن، يُقال إنها تهدف إلى تنسيق موقف سياسي جديد بشأن غزة، ومناقشة تسوية طويلة المدى تحت مظلة “وساطة أمريكية”. غير أن تزامن الكمين مع الزيارة حوّلها إلى مادة للسخرية والتساؤلات داخل الإعلام الصهيوني والدوائر السياسية.

في تقرير بثّته القناة 13 العبرية، علّق أحد المحللين السياسيين الصهاينة على اللقاء بين نيتنياهو وترامب قائلاً: “نيتنياهو جمع الكثير من التطلعات من قبل ترامب وويتكوف حول السلامة، لكن عندما نتكلم بالخلاصة: هل يمكن أن يقدّموا شيئاً فعلياً؟ لقد كانوا حذرين جداً، وتجنبوا الغوص في تفاصيل المفاوضات، حتى إن وصلت لمراحلها الأخيرة. فقد كنا في أوضاع شبيهة من قبل، وطالما لم نصل إلى خواتيم حقيقية، فلا يوجد شيء. وهذا تكرّر مراراً في السابق.”

المعارضة الصهيونية: أوقفوا النزيف… وتفاوضوا
الفشل الميداني لم يمرّ بهدوء داخل الكيان، فقد خرجت العديد من الأصوات، خاصة من داخل ما يُسمى بـ”المعارضة الصهيونية”، تطالب نيتنياهو بالإسراع في التوصل إلى اتفاق مع حركة حماس، يوقف ما وصفوه بـ”النزيف اليومي” الذي يتعرض له الجيش في قطاع غزة.

ودعت هذه الأوساط إلى الدخول في مفاوضات جدية بشأن استعادة الجنود الأسرى لدى المقاومة، بعد أن بات واضحًا أن الحسم العسكري لن يحقق أي إنجاز يُذكر.

وفي هذا السياق، نشرت صحيفة “يديعوت أحرنوت” العبرية افتتاحية حملت عنوان “الجنود يُقتلون… والقيادة تائهة”، جاء فيها:”لقد باتت التكلفة اليومية للحرب أعلى من أي وقت مضى. على الحكومة أن تتحلى بالشجاعة، وتقرّ بأن الوقت قد حان لحلول واقعية، لا أوهام انتصار مستحيل.”

المقاومة تصوغ معادلة الردع الجديدة
ما جرى في بيت حانون ليس مجرد ضربة أمنية، بل هو عنوان لفصل جديد من المعركة. المقاومة الفلسطينية أثبتت أنها قادرة على تعطيل الاستراتيجية البرية للعدو، وتحويل أي تحرك بري إلى مقبرة للجنود والضباط.

وفي المقابل، يعيش الكيان أزمة قرار حقيقية، تتجلى في تردد القيادة، وانقسام النخب، وانهيار المعنويات داخل المجتمع الصهيوني.

ومع تزايد القتلى وتوسع العمليات النوعية للمقاومة، يقترب العدو من مرحلة اللاعودة، حيث لا تهدئة تلوح في الأفق، ولا حسم يبدو ممكناً، ولا ثقة بقيادته السياسية والعسكرية، التي لم تُنتج سوى الدماء والخيبات. أما المقاومة، فقد دخلت مرحلة ترسيم المعادلات الكبرى… وعلى العدو أن يستعد للأسوأ.

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: بیت حانون

إقرأ أيضاً:

حين يكون المفاوضُ مقاوما!

التفاوضُ مسألة أزلية أبدية، وجُدت منذ خلق اللهُ عز وجل الإنسانَ، وستبقى طالما بقي في الأرض بشرٌ يتصارعون ويتعاركون حتى يصلوا لمرحلةٍ يجدون أنه لا بد من الجلوس إلى طاولة المفاوضات لحل مشاكلهم.

منذ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين اختلف العرب حول طريقة التعامل مع الاحتلال، منهم من قال "لنجلس مع إسرائيل ونسمع ما تقول"، ومنهم من رفض مطلقا على أساس أن الجلوس مع المحتل يعني ضمنيا الاعتراف به وبشرعيته.

في حالتنا الفلسطينية، وقع بعضنا في فخ المفاوضات بعدما وافق على رمي أوراق القوة في سلة المهملات، ودخل ميدان التفاوض عاريا بدونها، وخاض مع الاحتلال جولات كثيرة من المفاوضات استمرت لعقود دون أي نتيجة مفيدة؛ لأن عدونا ماكرٌ ومماطلٌ ومخادعٌ، وليس له مثيل في تلك الصفات، يرفض البنود التي كان يطرحها هو، ويتم الاتفاق عليها، ثم يتهرب من تنفيذها ويماطل ويضع شروطا جديدة حتى ينفذ شروطا قديمة.

لقد ظن هذا البعض أن أمريكا يمكنها لعب دور الوسيط النزيه، أو أن الأنظمة العربية قد تُضحى بمصالحها مقابل خدمة فلسطين، ليتفاجأ هذا البعض بأن المفاوضات ليست إلا فخا نُصب بعناية لإسقاط البندقية والثائر والثورة.

وكانت فلسفة الاحتلال في التفاوض هي أن يضع شروطه، وما على الطرف الثاني إلا التوقيع دون الحق في إبداء الرأي أو الاعتراض، وإلا فالويل والثبور وعظائم الأمور.

حتى وصل الحال إلى أن كان المفاوض الفلسطيني مقاوما، لم يرمِ سلاحه في سلة المهملات، لم يعترف بعدوه، بل دخل ميدان التفاوض وهو يضع سلاحه على كتفه، وحقده على عدوه في قلبه، وأهدافه واضحة لا يخاف من أي تهديد، لا يعطي ردا سريعا أو فرديا، بل يتأنى في الرد ويشاور الجميع، ويؤكد أن ثمة قضايا غير قابلة للنقاش أو التفاوض مثل السلاح الذي هو حق لأي شعب يدافع عن نفسه في وجه الاحتلال.

خاض المفاوض المقاوم جولات عديدة وعنيدة؛ حاول العدو خلالها فرض شروطه التي تطالب المفاوض المقاوم بالتنازل، لكنه قابلها بالثبات والصمود والحنكة السياسية، قال "لا مانع من التفاوض" لكن "لنا رأي ويجب أن تسمعوه، نحن لا نوقع على بياض".

إن خير ما يدلل على ما سبق هو جولة المفاوضات التي تقودها المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والتي بدأها الاحتلال بفرض شروطه والمطالبة بتسليم الأسرى والسلاح دون شروط أو قيود، لكن المفاوض المقاوم قابل الشروط بالثبات على الأهداف والمرونة في الوسائل، وأخضع الشروط للتغيير بما يحقق مطالب المقاومة.

في مقترح ترامب الأخير والذي جاء في 21 بندا، تبنى ترامب الرؤية الإسرائيلية لإنهاء العدوان، وكأنه الناطق باسم الحكومة الإسرائيلية، وكان المقترح مُصمم ليجعل حماس ترفضه، فالشروط مجحفة جدا وتدمر القضية الفلسطينية، ولا خيار أمام المقاومة إلا "إما الرفض وإما الاستسلام"، لكن المفاوض المقاوم نجح في الخروج من مأزق ترامب وقلب السحر على الساحر، وصار نتنياهو هو المأزوم، ونجحت حماس في كسب معركة التفاوض عالميا، لأنها تعاملت معه وفق معطيات دينية أن العدو ماكر ومخادع، ويتلاعب بنصوص أي وثيقة، واستفادت من تجارب التفاوض بين العدو ومن سبقها من الأطراف العربية والفلسطينية بأن التسامح مع العدو مرة يفتح شهيته للمزيد.

حين يكون المفاوض مقاوما، يعني أن الحقوق لن تضيع، وأن المبادئ دونها الدماء والرقاب، وأن كل كلمة مكتوبة تُقرأ على أكثر من وجه لاكتشاف رائحة الغدر منها، وأنه يتم التمييز بين المفاهيم والمصطلحات، فكل كلمة لها معنى ومغزى، ويُدرك ما يرغب الاحتلال بأخذه أولا وما يؤجله العدو، ويعلم كيف يخاطب العالم بلغة لا استجداء فيها ولا ضعف، ولسان حاله يقول: "اطلبوا حوائجكم بعزة الأنفس"، ويعلم أن دماء الشهداء يجب أن يكون لها ثمن يليق بها وليست مجالا للمساومة أو البيع.

يبقى القول واجبا أن المفاوض المقاوم نجح في تأسيس مدرسة تفاوضية لا تمانع التفاوض من حيث المبدأ، لا تعترف بعدوها، وتمنع التفريط بالحقوق والثوابت، ولا يسيل لعابها أمام الإغراءات والوعود المزيفة، ولا يضرها من خذلها ولا من عاداها.

استمر المفاوض المقاوم في مسيرته حتى كتب الله ما كتب في وقف العدوان في تشرين الأول/ أكتوبر 2025، بعد عامين من الإبادة الجماعية، وأقنع العالم بعدالة القضية الفلسطينية..

مقالات مشابهة

  • شرم الشيخ.. مدينة السلام التي تحتضن الأمل من جديد
  • مصر.. ما الهدية التي قدمها وفد النادي الأهلي إلى حسن شحاتة في المستشفى؟
  • غزة.. أسطورة الصمود التي كسرت هيبة الاحتلال وأعادت للحق صوته
  • حين يكون المفاوضُ مقاوما!
  • ناشط مغربي: اتفاق غزة ثمرة صمود المقاومة والجبهة اليمنية التي أربكت العدو الصهيوني
  • المدن التي دمرتها الحروب حول العالم.. غزة في المقدمة
  • باكستان تعلن مقتل 30 مسلحا شاركوا في كمين ضد الجيش
  • قيادي في حركة “الجهاد”:المقاومة انتصرت العدو الصهيوني فشل في تحقيق أهدافه
  • أجهزة التنفس التي جعلت إسرائيل حيّة إلى اليوم
  • شاب ينصب كمينًا لعمه ويتخلص منه داخل سيارته في طنطا.. تفاصيل