خلال القرنين الماضيين، كان الإسلام هو الهوية الثقافة التي تم التلاعب بها من قبل الأنجلوسكسونيين، وبشكل رئيسي من قبل البريطانيين، ثم الأمريكيين، لأغراض جيوسياسية؛ فبسبب تنافسهم مع روسيا خلال القرن التاسع عشر على الهيمنة العالمية، استخدم البريطانيون الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الفارسية والخانية الأفغانية كحاجز بين منطقة سيطرتهم في الهند والمحيط الهندي من ناحية وروسيا من ناحية أخرى، من أجل منع روسيا من التوجه جنوباً نحو المحيط الهندي والهند.


وقد اعتمد البريطانيون هذه الاستراتيجية خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين كجزء من خطتهم لدق إسفين بين الروس من جهة والعالم العربي الإسلامي من جهة أخرى.
الاستراتيجية الأمريكية خلال الحرب الباردة
بعد الحرب العالمية الثانية، نظرت الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط كجزء من استراتيجيتها المتكاملة لعزل وحصار الاتحاد السوفياتي وكتلة الدول الاشتراكية، في محاولة منها لمنع هذه الكتلة الأوراسية الضخمة من الوصول إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، وكذلك إلى المحيط الهندي وطرق التجارة البحرية.
والجدير ذكره أن الشرق الأوسط، الممتد من شواطئ المحيط الأطلسي في الغرب إلى حدود الصين في الشرق، كان يخدم الاستراتيجية الأمريكية القائمة أيضاً على منع أوروبا من الوصول إلى أفريقيا أو أداء دور مستقل عن الولايات المتحدة في الساحة الدولية.
ولهذا الغرض، استخدمت الولايات المتحدة الإسلام السياسي الراديكالي المعروف بالحركات التكفيرية كأداة في استراتيجيتها لشن حرب القوة الناعمة ضد أوروبا، وأيضاً روسيا، عبر محاولة التأثير في السكان المسلمين في القوقاز وآسيا الوسطى اللتين كانتا تحت الحكم السوفياتي.
لذلك، كان هذا جزءاً من استراتيجية واشنطن لتقويض الاستقرار في الاتحاد السوفياتي من خلال بطنها الرخو المتمثل بآسيا الوسطى، كجزء من محاولتها للانتصار في الحرب الباردة، وهو ما فعلته في النهاية.
ومن الجدير بالذكر أنَّ هذا الإسلام الراديكالي التكفيري استخدمته الولايات المتحدة أيضاً لمواجهة الأحزاب التقدمية القومية واليسارية في جميع أنحاء العالم العربي التي كانت مناهضة للإمبريالية. ولهذا الغرض، نرى أن الأمريكيين استخدموا الحركات التكفيرية ضد الأنظمة العربية التقدمية مثل مصر عبد الناصر خلال الستينيات أو سوريا الأسد خلال السبعينيات والثمانينيات، أو العراق، أو النظام الاشتراكي العلماني في الجزائر في تسعينيات القرن الماضي.
إضافة إلى ذلك، عادت الولايات المتحدة أيضاً إلى هذه الاستراتيجية المبنية على تعاليم الحكم الاستعماري البريطاني الذي كان أول من رعى الحركات التكفيرية في مصر وسوريا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي كجزء من استراتيجيتها لتعزيز نفوذها ضد القوميين واليساريين، وأيضاً ضد حزب الوفد ذي الشعبية الكبيرة في مصر خلال العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي.
كذلك، فهي دعمت جماعات صنفت على أنها إسلام سياسي في سوريا خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي في مواجهة سلطات الانتداب الفرنسي في سوريا من جهة أخرى، وأدى ذلك إلى خلق نسخة أنجلوسكسونية من الحركات الإسلامية، وهي تلك التي ستتخذ طابعاً تكفيرياً، وستشكل وفقاً لبنية تتناسب مع المصالح والأجندة الجيوسياسية لبريطانيا العظمى، ومن ثم الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
الاستراتيجية الأمريكية بعد الحرب الباردة
بعد انتهاء الحرب الباردة، أرادت الولايات المتحدة السيطرة على منطقة الشرق الأوسط الممتدة من شواطئ المحيط الأطلسي غرباً وصولاً إلى حدود الصين شرقاً، وذلك من أجل السيطرة على المنطقة التي تتقاطع بها الطرق الدولية الكبرى البرية والبحرية، وهذا يخدم الاجندة الأمريكية، فعبر السيطرة على المنطقة التي تتقاطع فيها طرق التجارة العالمية، يمكن للولايات المتحدة السيطرة على التجارة الدولية، وبالتالي فإن هذا يخدم استراتيجيتها القاضية بالهيمنة على العالم.
ولهذا الغرض، لم تكن واشنطن تريد السيطرة على هذه المنطقة فحسب، بل حاولت أيضاً الترويج لنوع معين من الإسلاموفوبيا هذه المرة كجزء من خطتها لخلق أسطورة معينة مفادها أن هناك تهديداً قادماً من الإسلام ضد الحداثة وضد الحضارات الأخرى المجاورة لها، مثل أوروبا الكاثوليكية والبروتستانتية، وروسيا الأرثوذكسية، والصين الكونفوشيوسية، والهند الهندوسية، وأفريقيا المسيحية جنوب الصحراء الكبرى، من أجل تعزيز استراتيجيتها التي تهدف إلى دق إسفين بين أوروبا وشمال البحر الأبيض المتوسط من جهة، وأفريقيا وجنوب البحر الأبيض المتوسط في الجانب الآخر، وهذا ما نستشفه من كتاب صامويل هنتنغتون حول صراع الحضارات، وكتابات برنارد لويس المعادية للإسلام والمحذرة من عنف متأصل في الدين الإسلامي.
استخدام الإسلاموفوبيا ضد أوروبا
كان من شأن هذا أن يخدم غرض الولايات المتحدة المتمثل في عزل أوروبا عن الوصول إلى أفريقيا، بحيث تضطر أوروبا إلى الحصول على موافقة واشنطن من أجل الحفاظ على نفوذها في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
إضافة إلى ذلك، أرادت الولايات المتحدة استخدام الشرق الأوسط كجزء من استراتيجيتها لتحويل انتباه الأوروبيين الغربيين من أفريقيا إلى أوروبا نفسها، وكان هذا هو السبب الذي دفع الولايات المتحدة إلى الترويج لأجندة أدت إلى حرب أهلية في يوغوسلافيا السابقة باستخدام الإسلاميين المتطرفين في الحرب ضد صربيا ويوغوسلافيا، والتي أدت في النهاية إلى تفكك يوغوسلافيا إلى دول مختلفة، وإنشاء البوسنة والهرسك تحت الحماية الأمريكية.
والجدير ذكره أن منطقة البلقان ينظر إليها جيوسياسياً على أنها امتداد للشرق الأوسط بحكم خضوعها للحكم العثماني 6 قرون. بعد ذلك، روجت الولايات المتحدة حركة انفصالية في كوسوفو عبر إثارة النعرات بين المسلمين الألبان والأورثوذوكس الصرب لبناء قاعدة عسكرية في كوسوفو هي الأكبر للولايات المتحدة في أوروبا، وذلك للانطلاق بسياسات تهدد الاستقرار في أوروبا من جهة، وفي حوض البحر الأسود من جهة أخرى.
وكان هذا يشكل جزءاً من استراتيجيتها لخلق رهاب الإسلام في أوروبا والتأثير في الاستقرار الأوروبي وأوروبا، وهذا يعني أن أوروبا سوف تعتمد على الولايات المتحدة في ضمان أمنها بما يحرمها من فرص أن تكون مستقلة سياسياً عن واشنطن.
استخدام الإسلاموفوبيا ضد روسيا
إضافة إلى ذلك، استخدمت الولايات المتحدة الإسلاموفوبيا كجزء من استراتيجيتها لخلق شرخ بين مسلمي القوقاز وآسيا الوسطى من جهة والسكان الأرثوذكس الروس من جهة أخرى، وذلك لتحويل هاتين المنطقتين إلى قواعد لزعزعة الاستقرار، وتقسيم روسيا إلى العديد من الدول الصغيرة التي سيكون من السهل السيطرة عليها من قبل الولايات المتحدة، وهذا يفسر سبب دعم الولايات المتحدة للحركة الانفصالية في الشيشان التي تسببت في حرب الشيشان الأولى في مطلع التسعينيات والحرب الشيشانية الثانية في العقد الأول من القرن العشرين.
تم احتواء هذه الحركة الانفصالية من قبل الروس، ليس باستخدام القوة فحسب، ولكن أيضاً من خلال مد اليد نحو الإسلام والسكان المسلمين تحت حكم الرئيس فلاديمير بوتين، ومن خلال الترويج لبعض جماعة الإخوان المسلمين الأرثوذكسية في القوقاز وآسيا الوسطى.
أداة ضد الصين والهند
كما حاول الأمريكيون استخدام الإسلام الراديكالي والإسلاموفوبيا لدق إسفين بين الشرق الأوسط من جهة والصين من جهة أخرى، من خلال الترويج للإسلام الراديكالي ليصبح جوهر الحركة الانفصالية في شمال غربي الصين في منطقة شينجيانغ، كجزء من استراتيجية واشنطن المتمثلة في خلق عدم الاستقرار داخل الصين ومحاصرتها بمجموعة من المناطق غير المستقرة والأزمات في استراتيجية على شكل حرف C يعرفها الصينيون.
إضافة إلى ذلك، خلقوا أزمة في ميانمار بين البوذيين والسكان المسلمين كجزء من الاستراتيجية الأمريكية لخلق عدم الاستقرار، ليس في ميانمار فحسب من أجل منع وصول الصين إلى المحيط الهندي، ولكن أيضاً في منطقة يونان الصينية في جنوب شرقي الصين، كجزء من استراتيجية الولايات المتحدة الرامية إلى تقويض السيادة الصينية وزعزعة الاستقرار في منطقة التبت التي تحدها منطقة يونان من الشرق ومنطقة شينجيانج من الغرب.
وأخيراً، أنشأت الولايات المتحدة نوعاً من رعاية القومية الهندوسية في الهند التي يمثلها حزب بهاراتيا جاناتا الذي يقود أجندة معادية للإسلام، إلى جانب الرعاية التاريخية التي تقدمها الولايات المتحدة للمتطرفين التكفيريين في أفغانستان وباكستان والهند نفسها، كجزء من الأجندة الأمريكية لدق إسفين بين الهند من جهة، والعالم العربي الإسلامي من جهة أخرى.
واللافت أن الأمريكيين يحاولون تعزيز الإسلاموفوبيا من خلال دعم ورعاية تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام داعش وجماعة بوكو حرام والجماعات الإرهابية الأخرى التي ترفع راية أيديولوجية متطرفة في دول جنوب الصحراء الكبرى، وذلك في إطار المساعي لدق إسفين بين شمال أفريقيا ذي الغالبية العربية المسلمة ومنطقة جنوب الصحراء الأفريقية ذات الغالبية الأفريقية المسيحية.
كل هذا يندرج في سياق المحاولة الأمريكية لدق إسفين بين العالم العربي الإسلامي من جهة، والحضارات المجاورة مثل الكاثوليك والبروتستانت الأوروبيين، والأرثوذكسية الروسية، والصينية الكونفوشيوسية، والهنود الهندوس، والأفارقة المسيحيين، من جهة أخرى، وهذا يخدم الاستراتيجية الأمريكية، ليس في خلق التوتر والصدع بين الشرق الأوسط فحسب من جهة، وهذه الحضارات أو المناطق من جهة أخرى، ولكن يشكل أيضاً جزءاً من استراتيجية جعل منطقة الشرق الأوسط معتمدة فقط في علاقاتها على الولايات المتحدة، ما يسهل سيطرة واشنطن عليها، وبالتالي ترك الولايات المتحدة السيد الوحيد على طرق التجارة الدولية التي من شأنها أن تخدم هدفها النهائي في البقاء مهيمنة على العالم.
التلاعب بالحضارة الإسلامية
وهكذا نرى أن بريطانيا والولايات المتحدة حاولتا طوال القرنين التاسع عشر والعشرين التلاعب بالحضارة والهوية الثقافية الإسلامية عبر خلق حركات تكفيرية تشكل أدوات لسياساتها.
وطوال فترة الحرب الباردة، قامت الولايات المتحدة باستخدام الإسلاميين المتطرفين المتمثلين بالحركات التكفيرية في حربها ضد الحضارات والكتل الأخرى التي تعتبرها خطراً على هيمنتها العالمية، وعلى رأسها الكتلة الاشتراكية.
وبعد انتهاء الحرب الباردة، استخدمت واشنطن الحركات الراديكالية التكفيرية كذريعة لاحتلال أفغانستان في العام 2002، ثم نشر قواعدها في عدد كبير من بلدان الشرق الأوسط، بحجة مكافحة الإرهاب من أجل السيطرة على الشرق الأوسط ودق إسفين بينه وبين الحضارات الأخرى.
وقد كان أفضل رد لمواجهة هذه الاستراتيجية بقيادة الروس الذين أصبحوا على دراية بهذه الاستراتيجية الأمريكية، والذين كانوا أول من مدوا أيديهم نحو بناء جسر مع العالم العربي الإسلامي من خلال بناء علاقات جيدة بشكل رئيسي مع السكان المسلمين في القوقاز وآسيا الوسطى، ومن خلال بناء علاقات جيدة مع الدول العربية الإسلامية في الشرق الأوسط مثل الجزائر ومصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وإيران.
ويبدو أن الصين تسير على الدرب نفسه عبر ضم الدول آنفة الذكر إلى منظمة بريكس للتعاون الاقتصادي، والتي تشكل منصة برعاية روسية وصينية للعلاقات الاقتصادية والسياسية بديلة من العلاقات الدولية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة والغرب.
أستاذ تاريخ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

استراتيجية الأمن القومي 2025 الأمريكية تعيد تشكيل نظرة واشنطن للعالم

تُعدّ استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025 إحدى أكثر الوثائق تأثيرا في رسم ملامح السياسة الدولية خلال العقد المقبل، إذ لا تكتفي بتحديد التهديدات التقليدية، بل تقدّم رؤية أعمق تعكس تحوّلا أيديولوجيا في الطريقة التي ترى بها الولايات المتحدة موقعها في العالم. فوفق تحليلات مؤسسات بحثية بارزة مثل معهد بروكينغز ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، فإن الوثيقة تمثل انتقالا من "إدارة النظام الدولي" إلى "التنافس على تشكيله"، في لحظة عالمية يغلب عليها الاضطراب وتراجع اليقين. هذا الانتقال من "الإدارة" إلى "التشكيل" هو جوهر التحول الاستراتيجي؛ إنه اعتراف بأن العصر أحادي القطب قد انتهى، وأن واشنطن تسعى لفرض نموذجها وقيمها في مواجهة نماذج بديلة.

الصين من "منافس استراتيجي" إلى "خصم حضاري شامل"

تضع الاستراتيجية الجديدة الصين في صدارة التهديدات، مستخدمة مصطلحا لافتا هو "الخصم الحضاري الشامل" هذا التوصيف يعكس قناعة أمريكية بأن بكين لا تسعى فقط إلى التفوق الاقتصادي والعسكري، بل تهدف إلى إعادة صياغة النظام العالمي وفق نموذج حكمها المركزي ونسختها الخاصة من الحداثة.

وبحسب مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، فإن هذه هي المرة الأولى التي  تنظر فيها واشنطن إلى الصين باعتبارها قوة نظامية تريد تشكيل قواعد اللعبة الدولية بدلا من التكيّف معها. ولذلك تنتقل المنافسة بين الطرفين إلى مجالات استراتيجية تشمل التكنولوجيا المتقدمة، وسلاسل التوريد، والذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، وتأثير المؤسسات الدولية. استخدام مصطلح "الحضاري" يعمق الانقسام الأيديولوجي، مما يرفع المنافسة لتكون صراعا وجوديا بين نموذجين متنافسين يمتد ليشمل المؤسسات الثقافية والتعليمية.

تضع الاستراتيجية الجديدة الصين في صدارة التهديدات، مستخدمة مصطلحا لافتا هو "الخصم الحضاري الشامل" هذا التوصيف يعكس قناعة أمريكية بأن بكين لا تسعى فقط إلى التفوق الاقتصادي والعسكري، بل تهدف إلى إعادة صياغة النظام العالمي وفق نموذج حكمها المركزي ونسختها الخاصة من الحداثة. روسيا تهديد يمكن احتواؤه لا منافسته

على الرغم من استمرار الحرب في أوكرانيا، تتعامل الاستراتيجية الأمريكية مع روسيا بوصفها تهديدا "حادّا ومباشرا" لأمن أوروبا، لكنها ليست منافسا شموليا للنظام الدولي كما هي الصين. وتتبنى واشنطن مقاربة "إدارة الصراع"  مع موسكو، في محاولة للحفاظ على تركيزها الاستراتيجي على آسيا.

ويرى خبراء في "تشاتام هاوس" أن هذا التحوّل قد تكون له انعكاسات مباشرة على الأمن الأوروبي، حيث يُخشى أن يؤدي إلى تقليص انخراط الولايات المتحدة تدريجيا في القارة، ما يدفع الأوروبيين إلى تطوير مفهوم "الاستقلال الاستراتيجي"  بشكل أسرع، مهما كانت العقبات السياسية والاقتصادية. هذا التمييز يكرس "الانتقائية الاستراتيجية" الأمريكية، حيث تُعتبر روسيا تحديا تكتيكيا ومؤقتا يجب "إدارته" لتجنب تشتيت الانتباه عن محور التنافس الحاسم في آسيا.

أوروبا الحليف المتوتر والعاجز عن حماية هويته

لا تخفي الاستراتيجية لهجتها النقدية تجاه أوروبا، التي تتهمها بأنها تعاني "تآكلا حضاريا" نتيجة التحولات الديموغرافية والضغوط الاجتماعية الناتجة عن الهجرة والثقافات المتعددة. وترى الوثيقة أن هذه العوامل أضعفت قدرة أوروبا على حماية نموذجها الليبرالي.

وقد أثار هذا القسم جدلا واسعا، حيث اعتبر "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية" أن واشنطن أصبحت تنظر إلى أوروبا بوصفها الحلقة الأضعف في النظام الغربي. وتبدو هذه الرؤية إشارة مباشرة إلى الأوروبيين بأنهم مطالبون بتقليل اعتمادهم الأمني على الولايات المتحدة، خاصة في ظل التحولات المتسارعة في موازين القوى العالمية. هذا القسم يؤكد أن الولايات المتحدة تستعد لـ "تقاسم العبء" بشكل أكثر صرامة، ويربط الأمن بالهوية، مما يظهر قلقا أميركيا عميقا يتجاوز القدرات العسكرية وصولا إلى تماسك النموذج الغربي نفسه.

تحالفات جديدة قائمة على الهوية والقيم

تتبنى الاستراتيجية الجديدة مبدأ "التحالفات المعيارية"، حيث تمنح الولايات المتحدة الأولوية للتعاون مع الدول التي تشترك معها في الهوية الحضارية والقيم السياسية، أكثر من تلك التي تتقاطع معها في المصالح وحدها. ويرى مركز "بروكينغز" أن هذا التحوّل قد يعمّق الانقسام الدولي، لأنه يعيد اصطفاف الدول وفق اعتبارات أيديولوجية وثقافية، بدلا من المنطق البراغماتي الذي حكم العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب الباردة. هذا التحول يمثل عودة إلى الاصطفافات الأيديولوجية والثقافية، مما قد يعمّق الانقسام بين المعسكرات الدولية، على حساب العلاقات القائمة على المصالح المادية وحدها.

عالم متعدد الأقطاب.. ومع ذلك مضطرب

توضح الاستراتيجية أن العالم يتجه نحو تعددية قطبية مضطربة، حيث تزداد القوى المؤثرة وتتناقص القدرة الأمريكية على ضبط الإيقاع العالمي. وتبرز آسيا كالمسرح الرئيس للتنافس، مدفوعة بصعود الصين والهند وتوسع تأثيرهما في الاقتصاد والتكنولوجيا.

لا تخفي الاستراتيجية لهجتها النقدية تجاه أوروبا، التي تتهمها بأنها تعاني "تآكلا حضاريا" نتيجة التحولات الديموغرافية والضغوط الاجتماعية الناتجة عن الهجرة والثقافات المتعددة. وترى الوثيقة أن هذه العوامل أضعفت قدرة أوروبا على حماية نموذجها الليبرالي. وتؤكد الوثيقة أن التكنولوجيا ـ وخاصة الذكاء الاصطناعي، والبنى التحتية الرقمية، والأنظمة ذاتية التشغيل، وحروب الفضاء والفضاء السيبراني ـ ستكون الميدان الرئيس للصراع القادم. وفي هذه البيئة، تدخل أوروبا مرحلة من الشكوك العميقة حول مستقبل الضمانات الأمريكية، بينما تتزايد الدعوات لإنشاء منظومة دفاعية أوروبية أكثر استقلالا.

ويرى "تشاتام هاوس" أن العقد المقبل سيشهد تحالفات مرنة وصراعات طويلة وتنافسا أعمق بين النماذج الحضارية، في عالم تتداخل فيه القوة العسكرية مع التكنولوجيا والقيم في آن واحد. النقطة الجوهرية هنا هي أن "من يملك التكنولوجيا، يملك مفاتيح المستقبل". هذا يرفع من قيمة "التنافس التكنولوجي" ليصبح مساويا في الأهمية للتنافس العسكري والجيوسياسي.

بداية عصر جديد من التنافس الشامل.. واستشراف لمستقبل مضطرب

تكشف استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025 أن الولايات المتحدة ترى نفسها في قلب صراع طويل على هوية النظام الدولي. فالصين خصم حضاري شامل، وروسيا تهديد يمكن ضبطه، وأوروبا حليف يحتاج إلى إعادة تأهيل، بينما تتحول التكنولوجيا إلى الركيزة المركزية للقوة في القرن الحادي والعشرين.

وتشير هذه الرؤية إلى أن الولايات المتحدة تتجه إلى تركيز جهودها على آسيا، باعتبارها محور التنافس الحاسم. وهذا سيقود على الأرجح إلى تراجع نسبي للدور الأميركي في أوروبا والشرق الأوسط، ما قد يخلق فراغات استراتيجية لن تستطيع القوى المتوسطة ملأها بسهولة.

أما على المدى البعيد، فإن العالم يبدو أنه متجه نحو نظام متعدد الأقطاب لكنه عالي التوتر، حيث تتداخل المنافسة في ثلاثة مجالات رئيسية: التكنولوجيا الفائقة، والموارد الاستراتيجية، والتحالفات القائمة على الهوية الثقافية والقيم.

وإذا لم تُطوَّر آليات دولية لإدارة هذا التنافس، فإن العالم قد يدخل مرحلة "اللاسلم واللاحرب المستدامة"  التي يتوقعها العديد من الباحثين في الأمن الدولي مرحلة لا تشهد حروبا كبرى، لكنها لا تعرف سلاما مستقرا كذلك.

إن هذه الاستراتيجية، في جوهرها، ليست وثيقة أمنية فحسب، بل خريطة للعالم القادم: عالم تتقاطع فيه الجغرافيا مع التكنولوجيا، ويتنافس فيه المنطق الحضاري مع المصالح الاقتصادية، وتعود فيه القوة إلى معناها الأكثر تعقيدا: من يملك التكنولوجيا، يملك مفاتيح المستقبل.

السيناريو المستقبلي المتوقع هو نظام عالمي غير مستقر، حيث تكون المنافسة المستمرة هي القاعدة الجديدة، بدلا من السلام المستدام.

مقالات مشابهة

  • الشرق الأوسط بعد أوهام الردع.. حين تُدار الحروب بدل أن تُمنع
  • لوفيغارو: استخبارات الدانمارك تضع واشنطن ضمن تهديدات الأمن الأوروبي لأول مرة
  • مجموعة أممية تطالب بالإفراج عن ناقلة النفط التي احتجزتها الولايات المتحدة في الكاريبي
  • غارديان: دونالد ترامب يسعى إلى تغيير الأنظمة في أوروبا
  • نيوزويك: 3 مؤشرات على حرب وشيكة بين الولايات المتحدة وفنزويلا
  • تأهيل إسرائيل لعضوية الشرق الأوسط
  • فورين بوليسي: 3 دروس تعلمتها الصين من الولايات المتحدة
  • إجلاء عشرات آلاف السكان جراء فيضانات في الولايات المتحدة وكندا
  • استراتيجية الأمن القومي 2025 الأمريكية تعيد تشكيل نظرة واشنطن للعالم
  • رويترز: الولايات المتحدة تستعد لاعتراض السفن التي تنقل النفط الفنزويلي