أوروبا المُتطرفة نحو اليمين
تاريخ النشر: 7th, July 2024 GMT
حاتم الطائي:
◄ تحولات سياسية حادة تشهدها منظومة الحُكم في أكبر تكتل إقليمي عالمي
◄ تحالف الصهيونية العالمية مع اليمين المُتطرف يستهدف تصفية القضية الفلسطينية
◄ أوروبا باتت أشبه بحقل ألغام حيث تنتشرُ قنابل اليمين المتطرف في كل بلد تقريبا
خلال الأسابيع القليلة المُنصرمة، شهدت القارة الأوروبية تحوّلات جذرية على المستوى السياسي، بعد صعود أحزاب يمينية مُتطرفة واستحواذها على عددٍ كبير من مقاعد البرلمان الأوروبي، وقبل ذلك تفوُّقها السابق خلال السنوات القليلة الماضية داخل البلدان الأوروبية، واعتلاء شخصيات وأحزاب يمينية سُدة الحكم في هذه الدول، منها إيطاليا وإسبانيا والمجر، وفيما يبدو أن دولًا مثل فرنسا وبولندا وهولندا والنمسا والبرتغال تمضي في طريقها نحو أنظمة حُكم يمينية مُتطرفة، بعد عقود من حُكم أحزاب اليسار والوسط ويسار الوسط.
هذه التحوّلات السياسية الحادَّة في منظومة الحُكم في أكبر تكتل إقليمي عالمي، توضِّح أن أوروبا مُقبِلة على مستقبل يشوبه الغموض في كثير من جوانبه، وبالتبَعِيَّة قد يواجه العالم تحديات ومخاطر غير مسبوقة، لا سيما على المستوى الأمني والعسكري والاقتصادي، وكذلك السياسي.
وقبل الخوض في تحليل مُسبِّبات صعود اليمين المُتطرف والنتائج المُحتمل حدوثها، ينبغي الوقوف عند نقطة بالغة الأهمية؛ بل هي عنصر الحسم والفهم العميق لقضية صعود هذا التيار السياسي المُتطرف، ألّا وهي قضيتنا الأولى: فلسطين؛ إذ لا ريب أنَّ الصعود السياسي للأحزاب اليمينية المُتطرفة مدعوم بصيغة أو أخرى من الصهيونية العالمية، الرامية لتحقيق مآرب وغايات سياسية واقتصادية. هذه الصهيونية تُمارِس في الوقت الراهن حربَ إبادة شاملة ضد الشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزة؛ بل وفي كامل التراب الفلسطيني، دعمًا وتنفيذًا للمُخطَّط الساعي لطرد الشعب الفلسطيني من أرضه، وتوطين اليهود المُغتصبِين. ومن المفارقات أن نجد هذا التحالف المتين بين الصهيونية العالمية واليمين المُتطرف، على الرغم من أنَّ هذا الأخير يُمثل امتدادًا- بصورة أو أخرى- للتيارات الفاشية والنازية التي نُسِب إليها ارتكاب "المحرقة"، غير أنَّ المصالح الآنية والعلاقات المشبُوهة بين الجانبين، مَهّدت الطريق إلى هذا التحالف.
غير أن هذا التحالُف بين الصهيونية واليمين المُتطرف ليس وليد اليوم؛ بل له جذور تاريخية؛ إذ إنَّ قادة الصهيونية والنازية وقَّعُوا اتفاقيةً في ثلاثينيات القرن الماضي خلال حُكم أدولف هتلر، الذي مَوَّل عمليات ترحيل اليهود "الترانسفير" إلى أرض فلسطين لبناء وطن لهم، من خلال اغتصاب الأرض الفلسطينية.
وهذه المصالح تكمُن أولًا في: رغبة إسرائيل في تفكيك الاتحاد الأوروبي الذي يُعد واحداً من أكبر الداعمين الغربيين لحل الدولتين، خاصةً وأن اليمين المُتطرف لا يؤمن باستمرارية الاتحاد الأوروبي، وينزع بشدة نحو المصالح القومية بينما لا يُعير أي اهتمام تجاه "المنظومة الأوروبية الجامعة"، ويسعى إلى تكرار "البريكست" البريطاني في عدة دول. ورغم الموقف الأوروبي الضعيف ضد جرائم الحرب والإبادة الجماعية في فلسطين، إلّا أنَّ هذا الموقف يُؤيِّد- حتى الآن في ظل النخبة الحاكمة حاليًا- حلّ الدولتين، وضرورة وقف إطلاق النَّار في غزة، وذلك ليس بالضرورة إيمانًا بالحق الفلسطيني ودفاعًا عن حقوق الإنسان، بقدر ما هو رغبة أصيلة في نزع فتيل اشتعال حرب إقليمية كُبرى قد تكون إيران طرفًا فيها، بما يُهدد مسارات الملاحة الدولية والاقتصاد العالمي، ورُبما يُنذر بحرب عالمية!
ثانيًا: علاقة إسرائيل والصهيونية العالمية باليمين المُتطرف في أوروبا، معاداة اليمين المُتطرف للمسلمين والأجانب بشكل عام، وتأييده لطرد الفلسطينيين خارج أراضيهم؛ إذ يُعيدون طرح مُخطط طردهم إلى دول الجوار، وهو المُخطَّط الذي لم يُكتب له النجاح حتى الآن.
ثالثًا: النفوذ التقليدي للحركة الصهيونية واللوبي اليهودي في أنحاء عدة من العالم، وخاصة في أوروبا وأمريكا، واستغلال الأحزاب اليمينية المُتطرفة لهذا الكُتلة التصويتية وقدرة اللوبي اليهودي على الدعم وتمويل الحملات الانتخابية، ومن ثم احتياج هذه الأحزاب لهذا النوع من الدعم المالي السخي، لبلوغ أهدافها والسيطرة على الحُكم.
إذن نحن أمام تحالف مصالح مُتباينة لكنها تتفق على أهداف مُتطرفة، تسعى لإقصاء الآخر، وفرض سياسات مُتطرفة وعنصرية لا تخدم سوى المصالح الأنانية بغض النظر عن حجم الضرر الذي قد يلحق بالآخرين.
وصعود اليمين المتطرف لم يُشكِّل مفاجأة سياسية فعليّة، لكن التخوّف الأساسي، تَمَثَّل في حجم الصعود، ونسبة الاستحواذ على مقاعد البرلمان الأوروبي، وحتى مقاعد المجالس الانتخابية الوطنية في كل دولة؛ إذ لم يكن يُتوَقّع على نطاق واسع أن تفوز هذه الأحزاب بعدد مقاعد يمنحها فرصة الاستحواذ على السلطة أو بناء تيار أغلبية داخل البرلمان. ومصطلحات مثل: الحريات ونبذ التطرف ورفض العنصرية والإقصاء السياسي والحكم الرشيد ومبادئ التضامن والديمقراطية والعدالة الدولية، ستغدو جزءًا من الماضي، مع تزايد سطوة اليمن المتطرف على أوروبا.
صعود التيارات اليمينية المُتطرفة في أنحاء أوروبا، كان آخرها عودة حزب العمال البريطاني بعد غياب 15 عامًا عن السُلطة، فعلى الرغم من أنَّ "العمّال" تاريخيًا ينتمي إلى يسار الوسط، لكن النزعة القومية تعالت بشدة منذ عهد رئيس الوزراء الأسبق توني بلير- المُلطخّة يداه بدماء العرب والمسلمين في العراق وغيرها- قاد الحزب نحو اليمين المُتطرف، وانحاز إلى الحركة الصهيونية العالمية، بعد طرد زعيمه التاريخي جيرمي كوربين المؤيد للحق الفلسطيني، بتهمة "مُعاداة السامية" نظرًا لتعاطفه الصريح مع القضية الفلسطينية، ورفضه الجريء للممارسات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني.
ومن الواضح أن صعود اليمين المتطرف نابعٌ من عوامل مختلفة، لكن أبرزها: فُقدان المواطن الأوروبي الثقة في السياسيين والقادة الذين فشلوا في خفض معدلات البطالة، وأخفقوا في تحقيق استقرار اجتماعي أفضل، علاوة على تعدُّد الأزمات الداخلية والخارجية، وخاصةً الهجرة غير الشرعية التي باتت تؤرق أوروبا، وأصبحت في مرمى نيران النقد الشديد للسياسات التي أدّت إلى زيادة معدلاتها. كما إن الحرب في أوكرانيا وتأثر اقتصادات أوروبا بتداعياتها، ومعاناة المواطن في هذه الدول من النتائج المترتبة عليها، وفي مقدمتها التضخم وتراجع القوة الشرائية، وهو ما يُشير إلى أن معظم الدوافع التي تسببت في صعود اليمين المتطرف ناتجة عن سياسات داخلية أثرت بالسلب على معيشة المواطن، فلم يجد بُدًا إلّا أن يتجه نحو هذا التطرف علّه يجد ضالته!
وزيادة النزعة القومية وتنامي قوة التيار اليميني المُتشدِّد، يمثلان عاملين رئيسين يُهددان مُستقبل الاتحاد الأوروبي، فقد أضحت أوروبا أشبه بحقل ألغام تنتشرُ القنابل السياسية في كل بلد تقريبًا، وقد تنفجر في أي لحظة! فرغم أن أحزاب اليمين المُتطرف ليست على قلب رجلٍ واحدٍ، ومُنقسمة فيما بينها حسب درجة الشعبوية والنزعة القومية لديها. ومن المفارقات أن أوروبا- التي نجحت في بناء أقوى اتحاد مُشكِّلًا ثالث أكبر قوة اقتصادية في العالم بعد أمريكا والصين- نجدها الآن تُواجه خطرَ التفكك والانحلال نتيجة للسياسات الشعبوية. ومِثل هذه السياسات لا تقوم على أي أساس علمي سياسي أو اقتصادي أو حتى اجتماعي؛ بل هي استجابة عمياء لمطالب الدهماء ورغبة في دغدغة مشاعر المواطنين العاديين، الذين ملّوا من سياسات الحكومات المتعاقبة خلال العقدين الماضيين، على أقل تقدير.
والسياسيات اليمينية المُتطرفة تُهدِّد الأقلِّيات في أوروبا، وقد يتطور الأمر إلى ما لا يُحمد عُقباه؛ سواءً في صورة صراعات داخلية واستقطاب سياسي حاد، أو حشد انتخابي مُتطرف في كل موسم انتخابي، أو قد ينتهي الحال بصراع عنيف تُستخدم فيه أسلحة، وتندلع على إثره حروبٌ أهلية بين المُتطرفين الذين يؤمنون بتفوّق الجنس الأوروبي والعرق الأبيض على غيره من الأجناس والأعراق، وعلى رأسهم المهاجرون.
ويبقى القول.. إنَّ ما يجري من تطورات في أنحاء الاتحاد الأوروبي قد يُفضي إلى تصدُّعات تاريخية في البُنية الأوروبية، ويُهدد بقاء هذا التكتل الإقليمي بعد عدة عقود من "الاتحاد"، خاصةً مع دخول اللوبي اليهودي والحركة الصهيونية العالمية على الخط، ودعمها الكبير للتيار اليميني المُتطرف، الذي كان عدو الأمس لليهود، لكن أصبح اليوم حليفًا مُهمًا، لأنه يُساهم في دعم حرب الإبادة في غزة، ويدعم تحقيق المُخطّط اليهودي الساعي إلى طرد الفلسطينيين من أرضهم. لذلك وفي المقابل، نترقب- وكثيرون معنا- مواقف أوروبا تحت قيادة المُتطرفين إزاء قضايا عدة؛ وهي: الحرب في أوكرانيا، والعلاقات مع أمريكا والصين، وأخيرًا والأهم بالنسبة لنا الأوضاع في الشرق الأوسط، وتحديدًا حرب الإبادة في غزة.
فهل يكون صعود اليمين المُتطرف في أوروبا مُقدِّمة لما حدث في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية؟ أم أنَّ الأمر لا يعدو كونه فقّاعات من المصالح الانتخابية ستتلاشى تدريجيًا بعد الوصول إلى الحُكم، تمامًا كما حدث مع تيار المُحافظين الذين قادوا بريطانيا نحو "البريكست" وكانت النتيجة "صفر كبير"!!
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: الصهیونیة العالمیة الاتحاد الأوروبی الیمین المتطرف فی أوروبا تطرف فی م تطرف
إقرأ أيضاً:
لماذا أصبح العالم الإسلامي مركز جهود الوساطة وحل النزاعات؟
عندما كان زعماء العالم يجتمعون من أجل إحلال السلام في تسعينيات القرن الماضي، كانت وجهاتهم جنيف أو أوسلو. أما اليوم، فغالبًا ما يستقلون طائراتهم إلى الدوحة أو إسطنبول.
لقد كانت أوروبا، لعقود طويلة، مركزًا عالميًا لحل النزاعات. فقد لعبت دول مثل سويسرا والنرويج، بالاستفادة من حيادها والتزامها بالدبلوماسية، دورًا محوريًا في الوساطة بين الأطراف المتنازعة في صراعات دولية متعددة.
فقد قدّمت سويسرا عبر ما يُعرف بـ"المساعي الحميدة" خدمات تسهيل التفاوض في العديد من الملفات، من دعم عمليات السلام في سوريا وموزمبيق، إلى استضافة كيانات فاعلة في ساحة الوساطة، مثل "مركز الحوار الإنساني" الشهير عالميًا.
أما النرويج، فقد كانت مساهماتها لا تقل أهمية، إذ شاركت في اتفاقيات أوسلو، كما أدت دورًا بارزًا في عملية السلام في كولومبيا، مؤكدة بذلك التزامها العميق بتحقيق الانسجام العالمي.
غير أن مركز الثقل في هذا المجال شهد تحولًا لافتًا في السنوات الأخيرة، حيث انتقل من أوروبا إلى العالم الإسلامي، لا سيما من خلال بروز دولتي قطر وتركيا كقوتين محوريتين تسعيان لإيجاد حلول لبعض من أكثر النزاعات استعصاء في العالم.
ولعل الدور التركي في الحرب الروسية-الأوكرانية يُعد مثالًا كلاسيكيًا على هذا التحول. ففي يوليو/ تموز 2022، وبتعاون مع الأمم المتحدة، توسطت تركيا لإبرام "مبادرة البحر الأسود للحبوب" بين روسيا وأوكرانيا، ما سمح بتصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود بأمان.
وقد ساعد هذا الاتفاق في استقرار أسواق الغذاء العالمية، إذ تم تصدير أكثر من 32 مليون طن متري من الأغذية إلى الأسواق الدولية، ذهب جزء كبير منها إلى الدول النامية، قبل أن تنسحب روسيا من المبادرة في يوليو/ تموز 2023.
ومؤخرًا، أعلن كل من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن استعدادهما لإجراء جولة من المحادثات في تركيا، في محاولة للتوصل إلى وقف إطلاق نار، وإنهاء حرب أودت بحياة الآلاف، وشرّدت الملايين. ويشير ترحيب الطرفين باستضافة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لهذه المحادثات إلى سعي أنقرة للحفاظ على علاقات متوازنة مع الشرق والغرب، دون أن ترغمها التحالفات على الانحياز لطرف دون آخر.
إعلانأما قطر، فجهودها الدبلوماسية المتعددة تُسلط مزيدًا من الضوء على تنامي تأثير العالم الإسلامي في ساحة الوساطة الدولية. فرغم تعدادها السكاني الصغير نسبيًا، فقد أدت قطر دورًا بارزًا في تسهيل الحوار بين أطراف متصارعة، واستمرت في ذلك على مدى نحو عقدين من الزمن. ولعل كثيرًا من نجاحاتها لم تحظَ بعناوين بارزة في الصحف، لكنها انخرطت بهدوء وفاعلية في الوساطة في نزاعات السودان، وتشاد، واليمن، بما يعكس التزامها العميق باستقرار المنطقة.
كما اضطلعت قطر بدور جوهري في محاولة التوصل إلى هدنة في غزة، بالشراكة مع حلفائها في الولايات المتحدة ومصر. وعلى الرغم من الانتكاسات المتكررة، والإحباط المتزايد الذي أعربت عنه قطر إزاء استمرار الخلافات بين الأطراف، فإنها واصلت استضافة المحادثات بين الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس.
ويعكس توجه جهود السلام العالمي نحو العالم الإسلامي تحوّلًا أوسع في الجغرافيا السياسية، إذ لدى دول الخليج – على وجه الخصوص – من القوة المالية ما يعزز نفوذها السياسي. وقد تجلّى هذا التحول مؤخرًا عندما قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن تكون أول زيارة خارجية له في ولايته الثانية إلى الخليج، متجاوزًا حلفاءه الأوروبيين والأميركيين الشماليين، بل وحتى الإسرائيليين.
إن انخراط العالم الإسلامي في جهود السلام يجب أن يُرحّب به لا أن يُخشى منه.
فالكثير من النزاعات المعاصرة تقع في أو تؤثر على مناطق ذات أغلبية مسلمة. ومن هنا، فإن وجود وسطاء يفهمون الخصوصيات الثقافية والدينية والاجتماعية لهذه المجتمعات يُعد أمرًا لا يقدّر بثمن. إذ إن مخاطبة المسلمين المتحاربين من خلال لغة ثقافية ودينية مشتركة، قد تُحدث فرقًا حاسمًا بين استمرار النزاع أو تحقيق السلام.
بل إن مبادئ السلام والمصالحة متجذّرة بعمق في تعاليم الإسلام. فكلمة "إسلام" ذاتها مشتقة من "سلام".
ولا شك أن كثيرًا من زعماء العالم يسعون إلى تحقيق السلام كوسيلة لترسيخ إرثهم الشخصي، وهو هدف جدير بالسعي إليه. ويمكن القول إن شخصيات مثل الرئيس أردوغان وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، المعروفين بالتزامهما الديني، لا يريان في السعي إلى السلام مجرد مهمة دبلوماسية، بل مسؤولية أخلاقية ودينية أيضًا.
وسيُبادر بعض المنتقدين، لا سيما في الحكومات الغربية، إلى الإشارة إلى مآخذ حقوقية في الدول التي أصبحت تنشط في ساحة الوساطة العالمية. لكنّ هذه المآخذ ليست حكرًا على العالم الإسلامي؛ فالدول الغربية نفسها لطالما قامت بوساطة السلام وهي تتعامل مع انتقادات حقوقية، بل وفي أحيان كثيرة كانت منخرطة في تدخلات خارجية مثيرة للجدل.
فالحقيقة أن الدبلوماسية الدولية نادرًا ما يمارسها "القديسون". ما يهم هو ما إذا كانت الدول قادرة على تجاوز مصالحها الضيقة عندما تتطلب الظروف مواقف سامية. وفي حالات مثل وساطة قطر في غزة، أو دور تركيا في تسهيل صادرات الحبوب أثناء الحرب، فإن هذه الجهود كان لها أثر إنساني ملموس وقابل للقياس. وهذا، لا شك، مقياس مهم.
ويجب أن أكون واضحًا: لا أقول بسذاجة إن دوافع العالم الإسلامي للمشاركة في جهود السلام هي مبرأة عن كل مصلحة خاصة. لكن لا ينبغي لنا أيضًا أن نخدع أنفسنا ونظن أن الوساطة في النزاعات لا تكون نبيلة إلا عندما تكون أوروبا هي الطرف الفاعل.
إعلانإن من الضروري النظر إلى هذا التطور لا بوصفه تهديدًا لإرث أوروبا الدبلوماسي، بل كتطور مكمّل له. إذ إن الوساطة في النزاعات ليست مشروعًا رخيصًا، فهي تتطلب موارد لاستضافة وفود متعددة، كما تستلزم استثمارًا كبيرًا في الوقت، ورأس المال السياسي، والطاقة، والموارد المالية والبشرية، لتيسير الحوار بين الأطراف المتنازعة.
وفي الوقت الذي تواجه فيه دول أوروبا تحديات اقتصادية وتحولات سياسية، فإن دخول العالم الإسلامي إلى ساحة الوساطة يقدّم زوايا نظر جديدة، ويضيف أيضًا مصادر تمويل حقيقية.
وفي ظل هذا التوازن الجديد في قوى الدبلوماسية العالمية، يبدو أن العالم الإسلامي لم يعد مستعدًا لأن يكون مجرد ضحية سلبية للنزاعات، بل يسعى جديًا إلى أن يكون وسيطًا فاعلًا في تحقيق السلام.
وفي عالم يتزايد فيه الانقسام ويتراجع فيه الإيمان بالقوى التقليدية، تتبوأ دول مثل قطر وتركيا أدوارًا جديدة، نتائجها، في كثير من الحالات، تخدم أهدافًا إنسانية ذات أثر ملموس خلال فترات التفاوض. فهي تجلب معها فهمًا عميقًا للثقافة، وروابط إقليمية متينة، ورأسمالًا سياسيًا وماليًا يُترجم إلى التزامات فعلية.
وهذا لا يشكّل تهديدًا لإرث أوروبا في صنع السلام، ولا هو محاولة للسطو على دورها، بل يُعد توسعة ضرورية ومرحّبًا بها في أدوات العالم لبناء السلام. فإذا كان السلام هو هدفنا المشترك، فينبغي لنا أن نرحب بكل مساهمة مخلصة، أيًا كان مصدرها، ما دامت تُقرّبنا من تحقيقه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline