تأملات
كمال الهِدي
. ونحن في خضم هذه المآسي اليومية والمعاناة التي تفوق طاقة البشر نطالع ونُتابع مقالات وفيديوهات ورسائل صوتية مليئة بالتفاؤل والرغبات في عودة بلدنا أقوى، وحتى على المستوى الشخصي تجد من يجزمون بأن ما هدمته الحرب من بناء تعبوا عليه عقوداً طويلة سوف يعيدونه بكل عزيمة وتصميم.
. التفاؤل مطلوب قطعاً في الحياة، والأمل في بكرة أساس فكرتها، لكن ما نقرأه ونسمعه في هذا السودان لا أجد له تسمية سوى (بيع الوهم) و( خداع الذات).
. فمن واقع ما نعيشه أستطيع الجزم بأننا لن نقدر على إعادة بناء ولو كشك ليمون مما هُدم وخُرب.
. ليس لضعف الكفاءة، ولا لعدم المعرفة حاشا لله، ولكن لأننا أمة تعيش حالة انفصام.
. فشعب ينقسم أفراده بين الحرب والسلام، ويعجز عن فهم المؤآمرات التي يحيكها ضده من حكموه بالحديد والنار لأكثر من ثلاثة عقود بالرغم من اعتراف بعضهم وكشف النقاب عن دسائسهم وخيانتهم للوطن وأهله وسرقاتهم ونهبهم وسفالتهم لا أظنه سيقوى على البناء.
. شعب تلهج ألسنة بعض إعلامييه ومثقفيه بالشكر لمن يسرقونه وينهبون موارده ويخربون اقتصاده لمجرد أن بعض هؤلاء اللصوص المخربين يدعمون أندية كرة قدم، أو يتبرعون بحفنة من الدولارات المسروقة لمشروع هنا أو هناك لن يقوى على البناء، فالبناء عمل شاق يتطلب وعياً قبل أن يحتاج للمجهود البدني أو المال.
. شعب يشيد بعض مستنيريه بشخصيات هلامية وأشباه رجال جبناء مثل الإنصرافي ويسمونه ب (الظاهرة) التي تستوجب الدراسة يحتاج لمن يعيد بنائه نفسياً وذهنياً قبل أن يفكر في إعادة بناء وطنه الذي خربه الأوغاد.
. فالبناء لا يتم برفع الشعارات البراقة، ولا بمتابعة لايفات بعض (الصعاليق) الذين صاروا نجوماً في هذا الزمن الأغبر.
. شعب يلهث بعض رجاله وراء آية آفرو، ويتبادل أفراده لايفات ندى القلعة، ويقرأ لأم وضاح والإعيسر ومزمل وضياء والهندي، ويتبادل ألمع مثقفيه- بحماس منقطع النظير- تسجيلات محمد لطيف بالرغم من تقلب كل من سبق ذكرهم في المواقف على مدى سنوات خلت لن تكون مشكلته هي إعادة بناء ما تهدم، بل ستتمثل في: كيف يتعافى هذا الشعب ذهنياً ونفسياً لكي يكون جاهزاً لمرحلة البناء الصعبة!
. فالبناء والتعمير يتطلبان واقعية واعترافاً بما وصلنا له، ونحن أبعد ما نكون عن الواقعية.
. منذ سنوات عديدة كنت كلما كتبت نقداً لإدارات الهلال المتعاقبة أو نبهت لمواطن خلل لا تحصى ولا تعد سواءً في مجال الرياضة، السياسة أو الإقتصاد تسمع عبارات من شاكلة " إنت مافي شيء عاجبك"! وكأنك إفتريت علي أحد أو أتيت بالنشاز، فالطبيعي كان ألا يعجبنا ما كنا نراه، ولو كان ذلك يعجب لما وصلنا لكل هذا الدمار والخراب الذي نعيشه الآن.
. لكن لأن المواطن تعود أن يجد في الإعلام ما يخدره ويطيب خاطره من أجل أن ترتفع نجومية من يكتبون وتزداد شعبيتهم، لأن الناس تعودوا على ذلك بدا لهم كل ناقد جاد إما حاسداً أو من فئة من لا يعجبهم العجب أو الصيام في رجب.
. ولأننا شعب عاطفي سهل الإنقياد ولا يتطلب صرفه عن قضيته الأساسية كبير عناء كنت تجد بعض الإعلاميين يصرون على تغيير المدرب أو شطب عدد من اللاعبين مع كل فشل للهلال مثلاً مع إن المشكلة كانت ولا تزال في الإداريين الذين يأتون بهؤلاء المدربين واللاعبين سواءً في الهلال أو المريخ.
. لكن كلما كتبت ذلك منذ عشرات السنين كنت تواجه بإفتراضات أنك ضد الكاردينال، أو تكره صلاح إدريس، أو الوالي، أو تحقد على السوباط والعليقي.
. ولك أن تسحب هذا النموذج الكروي على بقية مجالات حياتنا عزيزي المواطن لكي تعرف المشكلة وين.
. لا يمكنك أن تبني قبل أن تواجه الواقع والحقائق كما هي دون تجميل ودون تخطيط وقراءة جيدة.
. عن نفسي مثلاً لم أقرر الخروج من السودان قبل سنوات طويلة إلا بعد أن تأكدت من أن البلد تسير نحو الهاوية، وأن العيش فيها يتطلب صفات لا أملكها وإن حاولت اقناع نفسي بأن كل شيء سوف ينصلح سأخادع نفسي.
. وحين رزقت في غربتي – بحمد الله - بالأولاد خططت لأن يتعلموا بطريقة تتيح لهم إيجاد البديل إن ساءت أمور الوطن أكثر – وهو ما كنت أتوقعه.
. وحين صممت قبل الحرب بأشهر قليلة على بيع قطعة أرض بمنطقة كافوري عارضني من تهمهم مصلحتي وطالبوني بألا أتعجل لكنني صممت على بيعها لأنني كنت أرى ما لم يرونه حينها.
. وبحمد الله تخرج ابني الأكبر بنجاح قبل أسابيع قليلة وقضى بيننا إجازة قصيرة قبل أن يغادر قبل أيام لمقر عمله الذي سيبدأ فيه حياة جديدة نسأل الله أن يوفقه فيها.
. وقد لا تصدقون أن هذا الإبن الذي أحدثكم عنه تغرب عنا – نحن المغربين أصلاً- في عمر مبكر، وعندما رافقته لبولندا لكي ألحقه بالجامعة كان على أن أوقع لهم تعهداً لأنه كان دون الثامنة عشرة وقتها.
. ولك أن تتخيل عزيزي المواطن فكرة أن تفارق ابنك وهو في تلك السن، ليكمل دراسته قبل أن يفارقك مجدداً للعمل.
. يعني كلها غربة في غربة ووجع وألم، لكنه قطعاً أقل بكثير من وجع وألم من فقدوا فلذات أكبادهم أو تقطعت بهم السبل وشُردوا من ديارهم.
. لكن يظل المتسبب في كل أوجاعنا بمختلف مستوياتها واحد، وبعضنا للأسف يغضون الطرف عن هذه الحقيقة.
. أشرت في السطور أعلاه لبعض تجربتي الشخصية للتذكير بانه لا يجوز لكتاب أو لايفاتيه فروا بجلدهم مع أسرهم من هذه الحرب أن يحرضوا غيرهم على القتال ففي ذلك أنانية وجبن وسفالة لا أجد لها نظيراً.
. إن فقدت الإحساس بمعاناة غيرك فعلى الأقل (نقط الناس بسكاتك) بدل هذا التحريض.
. والأشد أسفاً ملاحظة أن قادة الجيش أنفسهم أرسلوا أولادهم لمواصلة تعليمهم في الخارج بينما نجدهم يطالبون بكل بجاحة أولاد الناس بالقتال، ولا يزال هناك من يصدق ويتحمس لإرسال فلذة كبده للمحرقة، بل ويصف المناهضين للحرب بالخونة والعملاء.
. لكل ما تقدم عندما أقرأ لإعلامي يعد الناس بسودان أكثر قوة أو يطالبهم بالعودة لأرض الوطن لبناء وحراسة منازلهم وأملاكهم (التي نُهبت) أتحسر علي حالنا.
. فكيف نريد أن نبني وطناً في المستقبل ونحن نعجز في الحاضر عن مجرد إتخاذ موقف موحد ضد الحرب التي قضت على الأخضر واليابس فيه!
. أليس فيما يُكتب ويُقال بيعاً للوهم وتخديراً سيسألنا رب العباد عنه إن مضينا في هذا الخط!!
. عار على أي كاتب لا يصدق مع نفسه أن ينكب على الكي بورد ليكتب للناس، فكيف لصاحب الباب المخلع أن يصلح أبواب غيره!
kamalalhidai@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: قبل أن
إقرأ أيضاً:
سلطان باشا الأطرش.. الزعيم الدرزي الذي واجه الاحتلال
أوائل مارس/آذار الماضي، قال الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط إن "الذين وحدوا سوريا أيام سلطان باشا الأطرش لن يستجيبوا لدعوات نتنياهو.. إسرائيل تريد استخدام الطوائف والمذاهب لمصلحتها وتفتيت المنطقة".
يأخذنا هذا التصريح إلى الوراء قبل قرن من الزمان، وتحديدا عام 1925 حين انطلقت شرارة الثورة السورية الكبرى من جبل العرب -معقل الدروز– بقيادة سلطان باشا الأطرش حينئذ في مواجهة حامية وقاسية أمام المحتل الفرنسي.
بدأت شرارتها من السويداء، لكنها سرعان ما امتدت إلى دمشق وحماة ودير الزور وحلب، وجمّعت تحت جناحها كبار القادة الوطنيين السوريين يومئذ، مثل الشهبندر والقاوقجي وهنانو والعلي وغيرهم ممن وقفوا -مع اختلاف توجهاتهم السياسية والفكرية والطائفية- في صف واحد ضد الاحتلال الفرنسي الذي عامل الجميع بعنجهية واضحة هدفت إلى تقسيم البلاد على أسس من الجهوية والطائفية.
فمن سلطان باشا الأطرش؟ وكيف نهض بقيادة الثورة السورية الكبرى جنوبي البلاد؟ وما الذي ميز مواقفه السياسية بعد خروج المحتل الفرنسي وحتى وفاته؟
ولد سلطان باشا الأطرش عام 1888 في قرية القريّا بمحافظة السويداء جنوب سوريا، ونشأ في كنف عائلة الأطرش الدرزية الشهيرة، إذ كان والده ذوقان الأطرش زعيما محليا ومؤسس المشيخة الطرشانية بها منذ عام 1869.
إعلانخدم سلطان الأطرش في صفوف الجيش العثماني خلال حروب الأناضول وحملات البلقان، حيث نال لقب "باشا" من السلطات العثمانية تقديرا لأدائه العسكري، ومع نهاية الحرب العالمية الأولى عاد إلى بلاد الشام وقد تشكّل لديه وعي سياسي واضح برفض الاحتلالين الفرنسي والبريطاني، فانخرط في الحركة الوطنية العربية الناشئة وقتها، ووطد صلاته بالعاصمة دمشق، مما جعل قريته "القريا" ملاذا للمناضلين ومعقلا للثوار في الجنوب السوري.
وكان الأطرش أول من رفع علم الثورة العربية الكبرى التي كان يقودها الأمير فيصل بن الحسين فوق أرض الشام، حيث رفعه على منزله بالقريا قبل دخول جيش الملك فيصل، وشارك في دخول دمشق عام 1918، حيث رفع العلم العربي فوق دار الحكومة بساحة المرجة، الأمر الذي نال إثره لقب "باشا" مجددا من الملك فيصل الأول تقديرا لشجاعته في صفوف الجيش العربي.
ومع ترسيم الحدود وتفكيك بلاد الشام إلى كيانات سياسية متعددة، عرضت عليه سلطات الانتداب الفرنسي تولي إدارة منطقة جبل الدروز بصفته الزعيم الأبرز للطائفة الدرزية، غير أنه رفض العرض رفضا قاطعا، متمسكا بمبادئ الوحدة العربية ورافضا مشروع التقسيم.
وقد أثر عنه قوله: "إن نصيب سوريا البائسة أضعف الحصص، إذ قطّعت إربا إربا، وحكمت حكما استعماريا محضا جعل السوريين يترحمون على زمن الأتراك، ويأسفون على ما كان منهم نحوهم"، في رسالة له نقلها حسن أمين البعيني في كتابه "سلطان باشا الأطرش والثورة السورية الكبرى".
في صيف عام 1920 ومع اقتراب القوات الفرنسية القادمة من لبنان إلى دمشق لاحتلالها، أعدّ سلطان باشا الأطرش قوة كبيرة من الفرسان لمؤازرة الجيش العربي بقيادة وزير الدفاع يوسف العظمة في معركة ميسلون، وانطلق باتجاه الجنوب الدمشقي حتى وصل إلى بلدة براق، لكن الأنباء التي تلقاها هناك عن هزيمة الجيش العربي واستشهاد العظمة أوقفت تحرّكه، وعمّقت شعوره بفداحة الخسارة الوطنية.
إعلانولم يكتف الأطرش بالحزن، بل واصل رفضه الصريح للانتداب الفرنسي ومعارضته القاطعة لفكرة إقامة دولة درزية منفصلة عام 1921، معتبرا أن هذا المشروع يناقض تطلعات الوحدة والاستقلال العربي.
وفي إطار سعيه للحفاظ على حلم الدولة العربية، أوفد الأطرش أحد رفاقه -وهو حمد البربور- برسالة شفهية عاجلة إلى الملك فيصل الأول، الذي كان يستعد لمغادرة فلسطين عبر الطراد البريطاني في ميناء حيفا، وتضمنت الرسالة دعوة للملك إلى القدوم إلى جبل العرب في السويداء، ليواصل النضال من هناك ويقيم الدولة العربية المنشودة.
غير أن جواب فيصل جاء حاسما ومؤلما: "قل لسلطان، لقد فات الأوان"، في إشارة إلى أن لحظة الفعل قد ضاعت. وقد ظلّ هذا الردّ عالقا في وجدان الأطرش، ليقول بعد ذلك بأسى: "مات الفيصل"، تعبيرا عن نهاية حلم الدولة العربية الموحّدة.
في محاولة لعزل جبل العرب عن محيطه الوطني، أرسل الجنرال غورو القائد العام الفرنسي الكولونيل كاترو عام 1921 للتفاوض مع زعماء الدروز، إذ أبرمت معاهدة قضت بإنشاء وحدة إدارية خاصة للجبل مستقلة عن دولة دمشق، يعين لها حاكم ومجلس تمثيلي منتخبان، مقابل اعتراف الدروز بالانتداب الفرنسي، وعيِّن سليم الأطرش حاكما للجبل بموجب هذا الاتفاق.
بيد أن العلاقة مع الفرنسيين سرعان ما توترت، خاصة بعد اعتقال الفرنسيين أدهم خنجر أحد كبار مقاومي الجنوب اللبناني عام 1922 خلال توجهه إلى سلطان الأطرش برسالة، واتهامه بمحاولة اغتيال الجنرال غورو.
وقد حاول سلطان الأطرش التدخل لإطلاق سراحه، لكن الفرنسيين نقلوه إلى بيروت وأعدموه هناك في مايو/أيار 1923، مما أثار موجة غضب شديدة في صفوف أهالي الجبل.
وردّا على العمليات التي شنها الأطرش ضد قوات الانتداب، أقدمت فرنسا على تدمير منزله في القريا، مما دفعه إلى قيادة حرب عصابات استمرت لعام كامل قبل أن يلجأ إلى الأردن ويضطر لاحقا لتسليم نفسه للفرنسيين عام 1923 بوساطة بريطانية في إطار هدنة مؤقتة.
إعلانوحسبما يذكر محمد طربية في كتابه "تاريخ ومؤرخون"، فإن الأوضاع لم تهدأ، فبعد وفاة سليم الأطرش مسموما في دمشق عام 1924، خالف الفرنسيون اتفاقهم السابق وعيّنوا الكابتن كاربييه حاكما للجبل، ليمارس سياسة قمعية ضد الأهالي تضمنت السخرة والاعتقالات والتفرقة الاجتماعية، وتأليب الفلاحين ضد العائلات الكبرى، وعلى رأسها آل الأطرش.
وقد فجّرت هذه السياسات القمعية الغضب الشعبي، ليتحول إلى مظاهرات حاشدة في السويداء أسهمت في تسريع اندلاع الثورة السورية الكبرى.
تراكمت الانتهاكات الفرنسية بحق أهالي جبل العرب على يد الكابتن كاربييه، ما دفع الدروز إلى إرسال وفد رسمي إلى بيروت في 6 يونيو/حزيران 1925، مطالبين المفوض السامي موريس بول ساراي باستبداله بحاكم درزي.
وقد وثّق السياسي السوري عبد الرحمن الشهبندر -وهو العقل المدبر للثورة السورية الكبرى- في مذكراته سلسلة من الممارسات المهينة التي ارتكبها كاربييه ورجاله من الاعتقالات التعسفية والضرب دون محاكمة، إلى فرض الغرامات والإهانات العلنية لأعيان الجبل في السويداء، بل حتى ضرب قائمقام صلخد فهد بك الأطرش دون تحقيق.
وكان رفض ساراي استقبال الوفد، وتهديده لهم بالنفي إلى تدمر هي القشة التي قصمت ظهر العلاقة بين الأهالي والسلطة الفرنسية، ومهدت لانطلاق الثورة السورية الكبرى، فقد دعا سلطان باشا الأطرش إلى اجتماع موسع في السويداء، تزامن مع مظاهرات غاضبة اجتاحت القرى والمدن، وبدأ التنسيق الفعلي مع الزعماء السياسيين في دمشق، وفي مقدمتهم الدكتور الشهبندر.
أدرك الشهبندر أن البلاد على أعتاب انتفاضة واسعة، فتحرك لتوسيع رقعة الكفاح المسلح؛ ساعيا إلى إشعال الثورة في مختلف أقاليم سوريا لتشتيت الجهد العسكري الفرنسي، وبدأ بتكثيف اتصالاته مع وجهاء المدن، محرضا على العمل المسلح، ومشجعا على رفض الاحتلال.
إعلانومن أبرز خطواته في هذا السياق؛ التواصل مع الزعيم إبراهيم هنانو الذي كان قد بادر بمقاومة الفرنسيين منذ عام 1920 في شمال البلاد، واستمر النشاط الثوري في تلك المنطقة حتى أبريل/ نيسان 1926، حيث شكّلت معركة تل عمار في ربيع 1925 واحدة من أبرز المواجهات المسلحة وأواخر معارك الثورة في الشمال، ضمن خطة وطنية هدفت إلى تحرير سوريا وتحقيق وحدتها واستقلالها الكامل.
في إطار توسيع نطاق الثورة السورية الكبرى، نسّق الدكتور عبد الرحمن الشهبندر مع وجهاء المناطق السورية لنقل شرارتها إلى الشرق والشمال، وكما يذكر المؤرخ ستيفن لونغريغ في كتابه "تاريخ سوريا ولبنان تحت الانتداب" فقد أعلن هؤلاء الثوار من السويداء عن حكومة وطنية سورية جامعة وذلك "من قِبل زعماء العشائر الدروز والوطنيين النازحين من المدن معا، وكان ذلك بمثابة تقارب فعّال بين دمشق والسويداء، وكانت تلك ظاهرة جديدة تاريخيا، وقد أعطت الثورة طابعها".
وردا على ذلك شنّت الطائرات الفرنسية قصفا عنيفا دمّر القرى وقتل المدنيين، ما أدى إلى محاكمة الثوار في حلب، في تلك الأثناء تواصل الشهبندر مع فوزي القاوقجي الذي أعلن الثورة في حماة، احتجاجا على سياسة الفرنسيين القمعية وتقسيم البلاد، وحقق انتصارات ميدانية في البادية، ما دفع قيادة الثورة إلى منحه صلاحيات أوسع في منطقة الغوطة.
وكما يرصد حسن أمين البعيني في كتابه السابق، ففي الجبل كشف سلطان باشا الأطرش عن مؤامرة فرنسية لنفي الزعماء المحليين إلى تدمر والحسكة، ما عجّل بإعلانه الثورة في 21 يوليو/ تموز 1925 عبر بيان تاريخي دعا فيه السوريين إلى مقاومة الاحتلال، حيث بدأت العمليات الثورية بحرق دار المفوضية في صلخد، وتمكن من الانتصار في معركة الكفر، تلتها معركة المزرعة التي كبدت القوات الفرنسية خسائر فادحة، وأجبرت باريس على إرسال حملة عسكرية ضخمة بقيادة الجنرال ميشو.
ومع تزايد زخم الثورة تواصل حزب الشعب مع سلطان الأطرش للتنسيق بشأن توسيع الانتفاضة نحو دمشق، لكن خطة الهجوم فشلت بسبب ضعف الحشد، وبدلا من ذلك توجّه الثوار إلى التصدي للحملة الفرنسية في المسيفرة، حيث ألحقوا خسائر كبيرة بالعدو قبل انسحابهم تحت نيران الطائرات.
إعلانكما ساهمت ثورة حماة بقيادة القاوقجي في تخفيف الضغط عن السويداء، ما اضطر الفرنسيين للانسحاب منها مؤقتا، وسط اتساع رقعة المواجهة الوطنية ضد الانتداب الفرنسي في مختلف مناطق سوريا.
امتدت الثورة السورية الكبرى إلى غوطة دمشق بقيادة المجاهد حسن الخراط، واندلعت معارك شرسة أبرزها "معركة الزور الأولى" في المليحة، تبعتها انتفاضة داخل العاصمة دمشق في أكتوبر/تشرين الأول 1925 حيث سيطر الثوار لأيام على أحياء الشاغور والميدان، وقد ردّت فرنسا بقصف مدفعي عنيف من القلعة، أسفر عن تدمير مئات المنازل.
كما تكررت الاشتباكات لاحقا في معارك الزور الثانية، ويلدا، والنبك، وفي الجنوب توسعت العمليات الثورية من جبل العرب إلى حاصبيا وراشيا، واحتل الثوار القلعة بعد معركة ضارية، لكنهم سرعان ما دخلوا مرحلة استنزاف بسبب نقص السلاح والمؤن.
وأمام هذا الضعف وقلة السلاح اضطر ثوار الجنوب بقيادة سلطان باشا الأطرش إلى النزوح نحو الأردن وشمال الجزيرة العربية، وقد أصدر الفرنسيون حكم إعدام بحق سلطان باشا الأطرش، الأمر الذي اضطره للبقاء في المنفى حتى عودته مع رفاقه عام 1937 بعد العفو الفرنسي الذي أعقب توقيع معاهدة 1936 التي نصت على استقلال سوريا، وخروجها من دائرة الانتداب الفرنسية، ليستقبل الأطرش لدى عودته استقبال الأبطال في دمشق.
وكما يقول محمد نذير سنان في كتابه "لماذا سوريا" ففي مرحلة ما بعد الاستقلال، وعندما سئل سلطان باشا الأطرش من قبل صحفية ألمانية عن إمكانية تلخيص بطولات الثورة، فأجاب قائلا: "لا يوجد على هذه الأرض حجر إلا وقلّبته حوافر خيلنا، ولا حفنة تراب إلا وسقيت بدمائنا"، مشيرا إلى أن لكل مجاهد عشرات القصص من البطولة والفداء.
إعلانوفي روايته للأحداث، يذكر الأطرش في مذكراته "أحداث الثورة السورية الكبرى"، أن الثوار من الجبل والغوطة تمكنوا من فك أسر عدد كبير من المدنيين من أهالي الجولان الذين كانت المليشيات الموالية للفرنسيين قد اقتادوهم إلى منطقة موحلة تعرف بـ"نقعة جمرا"، وأعاد هذا المشهد المأساوي الحماسة إلى قلوب الثوار، الذين استبسلوا في القتال.
ويصف الأطرش مشهدا مؤلما لأطفال ونساء غارقين في الوحل، وجروح ملوثة بالطين، وأمٍّ قتلت برصاص الفرنسيين بينما كان طفلها يرضع منها، فحمل أحد أقربائها الطفل وهو يصيح: "يرضع حليبا ممزوجا بالدم"، في نداء يهزّ الضمائر ويجسد معاناة المدنيين من جرائم الاحتلال وقتئذ.
لم يتوقف نضال سلطان الأطرش بانتهاء الثورة السورية الكبرى، بل استمر في الدفاع عن السيادة الوطنية خلال مراحل متعددة من تاريخ سوريا الحديث، ففي عام 1945 وقبل الجلاء الفرنسي بعام، أدى دورا حاسما في طرد القوات الفرنسية من جبل العرب، حين قاد الأمير حسن الأطرش أبناء المنطقة لمحاصرة المراكز الفرنسية وطردها، مما جعل السويداء من أولى المدن السورية المحررة.
في المقابل، ردّت فرنسا على هذا التمرد بقصف دموي استهدف دمشق والسويداء وعددا من المناطق في 29 مايو/أيار، في ما اعتبر بداية النهاية للوجود الفرنسي في سوريا.
وبعد خروج المحتل الفرنسي، كان سلطان الأطرش من أوائل من دعوا عام 1948 إلى تشكيل جيش عربي موحد لتحرير فلسطين.
وبفضل تشجيعه تطوع المئات من أبناء الجبل، وسقط منهم نحو 80 شابا في ميادين القتال في فلسطين، كما يروي في مذكراته التي صححها وقدّم لها ابنه منصور، والمنشورة عام 2008.
وخلال حكم أديب الشيشكلي، واجه الأطرش تضييقا بسبب موقفه الرافض للدكتاتورية، مما اضطره إلى مغادرة البلاد نحو الأردن مطلع عام 1954 على خلفية تصاعد الاحتجاجات الطلابية والاعتقالات التي طالت ابنه منصور الأطرش، وأدت إلى اشتباك مسلح قصف فيه الشيشكلي جبل العرب كما يذكر محمد علوان في كتابه "مشكلات الشرق الأوسط"، وبعد سقوط الشيشكلي عاد الأطرش إلى البلاد.
إعلانوبعد الانقلاب العسكري في ديسمبر/كانون الأول 1966 بقيادة صلاح جديد وحافظ الأسد، واعتقال عدد من الضباط والسياسيين الدروز وتصفية آخرين، على رأسهم سليم حاطوم الذي فشل في انقلابه على حافظ وجديد، وجّه سلطان باشا الأطرش برقية شديدة اللهجة إلى القيادة الجديدة، محذرا من عواقب هذه السياسة.
وقد جاء فيها: "أولادنا في السجون مضربون نحملكم مسؤولية النتائج، لقد اعتاد الجبل -ولا يزال- أن يقوم بالثورات.. نقتصر مبدئيا على التفاوض"، وذلك بحسب ما جاء في تقرير لجريدة النهار اللبنانية آنذاك.
في ما بعد كرّس الأطرش سنواته الأخيرة للعمل الاجتماعي والتنموي في جبل العرب، مبتعدا عن المناصب السياسية رغم العروض التي قدمت له بعد الاستقلال، متمسكا بدوره الرمزي بوصفه قائدا حرا، وقد نال احترام الجميع، وظل على ذلك حتى وفاته في مارس/آذار 1982.