المصالحة الفلسطينية آن أوانها لكنها لم تأتِ بعد
تاريخ النشر: 10th, August 2024 GMT
أعلنت السلطة الفلسطينية الحداد على إسماعيل هنية، قائد حركة حماس ورئيس الوزراء الفلسطيني السابق، ونكّست الأعلام. ولا يزال المشهد تحت اختبار مبكر لما بعد الحدث، فيما إذا كانت المصالحة التي وُقّعَ آخرُ اتفاقاتها في الصين ستجد طريقها إلى الحياة، أم ستبقى كسابقاتها صورةً تذكارية لمصافحة الخصوم.
مرة أخرى، يُولّدُ السياق الفلسطيني ظروفًا كافية لمنح الجميع فرصة أخلاقية ووطنية جديدة من أجل الوحدة.
مع ذلك، فإن الفرص المتكررة في توفير أرضية مشتركة للوحدة ما تلبث أن تتلاشى بعد العودة إلى بيئات الاستقطاب والشروط السياسية الناجمة عن افتراقاتٍ، بات من الصعب تَقبُّل فكرة أنها أقوى من الظروف الحالية، التي تضع الجميع تحت سكّين الاحتلال.
أفق تحقق المصالحةيرتبط أفق تحقيق المصالحة الفلسطينية بقناعات الأطراف أولًا، ليس فقط بأهمية المصالحة، ولكن أيضًا بحجم التحديات الوجودية التي تواجه كلًّا منهم:
فمن جهة حماس، تمثل الحرب الحالية على قطاع غزة، التي تهدف إلى القضاء عليها كتنظيم مسلح، أحد أخطر التهديدات في مسيرتها. فلم تتعرض حماس لحملة استئصال بهذه الشراسة طوال مسيرتها، بل إن حركة التحرر الفلسطينية بأكملها لم تقف أمام مثل هذه المواجهة الوجودية في تاريخها. وفي ظل تعثر الإجابة عن سؤال "اليوم التالي"، فإن حماس معنيةٌ بشكل كبير بتحقيق وحدة وطنية تقدم نفسها على أنها الإجابة الطبيعية للمرحلة. أما بالنسبة لفتح التي تقود السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، فلا يبدو التحدي أقل خطورة. فالسلطة برمتها باتت هدفًا للتصفية من قبل نتنياهو ويمينه المتطرف. فلا معنى للسلطة الناتجة عن اتفاق سياسي يُصرُّ طرفه الآخر على منع تطوره إلى دولة. هذا ما صوّت عليه الكنيست الإسرائيلي قبل أسابيع، بتعهده بعدم قيام دولة فلسطينية غرب نهر الأردن. فمؤسسة الاحتلال بأكملها تقف ضد فكرة الكيانية الفلسطينية بأي مستوى، حتى في ظل التعاون الأمني القائم. فهذه النوايا تنبع من فكرة الاستعمار الاستيطاني بالإلغاء، وعدم الاعتراف بوجود الفلسطينيين كجماعة وطنية. وقد ظهر هذا بوضوح في رفض نتنياهو الحاسم فكرةَ تولي السلطة إدارةَ غزة بعد الحرب. أين تقف جهود المصالحة؟من هنا، فإن تعطل مسار المصالحة واتفاقاتها المختلفة يعود إلى حالة شعورية بالأمن الزائف والمؤقت لدى أطرافها، أو أحدهما، وتوقع انفراجات سياسية تعزز موقف طرف وتضعف موقف الآخر. تقف كل جهود المصالحة عند حدود القناعة بإمكانية الاحتكار المنفرد للمشهد، وفي العجز عن تشكيل قناعات الشراكة الوطنية إلا في حدود البلاغة الخطابية.
المشهد الحالي لا يضع طرفَي المصالحة في كِفة واحدة بأي حال من الأحوال، وليس المقام هنا لتقييم انحيازات كل طرف للمصلحة والحقوق الوطنية. لكنّ الفلسطينيين كانوا معنيين دائمًا بمقاربة معتدلة تجمع بين عقلانية السياسة والتزامات التحرر الوطني. فقد كانت جهود الوحدة الوطنية دائمًا تقف عند حدود من يريد أن يصبح دولة قبل أن يتحرر، أو من يريد أن يحرر بالمواجهة الصفرية.
هذه المقاربات لم تكن مطلقة طوال الوقت، خاصةً فيما يتعلق بقناعات المعسكر الثاني. فقد وفرت الانتخابات التشريعية عام 2006 فرصةً نادرة لمقاربةٍ وسطية تسعى للتحرر كطريق للدولة. وانخراط حماس في السلطة مثّل اقترابًا نوعيًا باتجاه خط الوسط، استمر طوال الفترات اللاحقة التي اختبرت فيها الحركة إكراهات الحكم والسياسة في غزة. والمفارقة أن الانقسام الفلسطيني بدأ منذ لحظة الاقتراب تلك، حيث بات عنوان المصالحة الفلسطينية، بما يعنيه من وحدة على أسس وطنية، المسعى الفلسطيني الأكبر، ولا يزال.
هل يشهد اتفاق الصين خطوات عملية؟لقد بدا "إعلان بكين"، الذي ظهر كنصٍ أكثر جودة مقارنةً بغيره من النصوص السابقة، متأثرًا بهذه الأجواء والشعور العام بالخطر. مع ذلك، لا يبدو اتفاق بكين وقد حصل على شروط كافية، ليتحول إلى واقع. وهذا قد يرتبط بالظروف الفلسطينية وما تنتجه من مواقف وقناعات لدى أطراف المصالحة، وبين موقع الصين ذاته من هذا الملف.
رغم أن الصين دولة عظمى وعضو دائم في مجلس الأمن الدولي، فإنها لا تمتلك أوراق الملف الفلسطيني. وفي الوقت الذي فشلت فيه اتفاقات أُنجزت في دول إقليمية محورية، فإن الرهان على اتفاق الصين قد يبدو تفاؤلًا مفرطًا. ينبغي في هذا الصدد تحليل دوافع الصين للانخراط في الملف الفلسطيني في هذا الظرف الحرج.
تسعى الصين للانخراط في ملف الحرب في غزة دون المساس بمبدأ عدم التدخل، الذي تستند له سياستها الخارجية في الشرق الأوسط. مثل هذا الانخراط يستدعي بالضرورة نسج سياسة اتصال بأطراف الصراع، خاصةً مع حركة حماس. وكي لا يُقرأ هذا الاتصال كدعم لحماس وما قامت به في 7 أكتوبر/تشرين الأول، اختارت بكين ملف المصالحة بوابةً لدبلوماسيتها. والسؤال هنا: لماذا ترغب الصين بالانخراط أصلًا؟
منذ تدخل الحوثيين في الحرب، تأثرت طرق إمداد الطاقة والتجارة الصينية، حيث يمر من باب المندب 60% من صادرات الصين لأوروبا. وبما أن الصين باتت الشريك التجاري الأكبر مع دول الخليج، وتحصل على حوالي 50% من وارداتها النفطية من دول مجلس التعاون الخليجي، فإن اتساع رقعة الصراع واحتمالاته يشكل قلقًا إستراتيجيًا للصين، وخطرًا محتملًا على إمدادات اقتصادية حيوية.
كانت الصين قد علقت حركة ناقلات الحاويات من وإلى إسرائيل منذ بداية هذا العام؛ نتيجة التوتر في مضيق باب المندب. بمعنى آخر، فإن المصالحة مطلوبةٌ كبوابة لانخراط الصين مع حماس تحديدًا، وليست هدفًا بحد ذاتها.
وقد تكفي هذه الخلفية للإجابة عن سؤال الأفق المتوقع والخطوات العملية لتنفيذ اتفاق بكين، دون أن يقلل هذا التفسير من الجهد المبذول والنوايا الصينية الحسنة، التي، في أقل تقدير، أظهرت رغبة في إنهاء الانقسام الفلسطيني، الذي قد يبقى محكومًا بديناميات الشعور الزائف بالاطمئنان لدى السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات
إقرأ أيضاً:
كيف أشعل شي ثورة الكهرباء في الصين ؟
ترجمة - قاسم مكي
عندما تولي شي جينبينج قيادة الحزب الشيوعي الصيني في أواخر عام 2012 حدد بسرعة نقطة ضعف في الأمن القومي لبلاده، كانت الصين قد تخطت لتوِّها اليابان لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم وتتحول بسرعة إلى القوة العظمى المسلحة نوويا والمنافِسة الرئيسية للولايات المتحدة، لكنها بسكانها الذين بلغ عددهم 1.4 بليون نسمة كانت تعتمد بشدة على البلدان الأجنبية في الحصول على موارد الطاقة.
ارتفع معدل اعتماد الصين على واردات النفط والفحم الحجري إلى مستويات قياسية، وجعلها ذلك عُرضة لانقطاعات محتملة في الإمدادات عبر "نقاط الاختناق" في ممرات التجارة بداية من المناطق المتنازع حولها في مضيق تايوان وإلى بحر الصين الجنوبي ومضيق ملقة والمحيط الهندي.
اليوم ومع الاضطراب الذي يتعرض له العالم من حرب ترامب التجارية تختلف نظرة الحزب الشيوعي الصيني كثيرا، فالصين في سبيلها إلى أن تصبح أول "دولة كهربائية" في العالم بحصة متزايدة من الطاقة التي تحصل عليها من الكهرباء وباقتصاد تحركه باطراد التقنيات النظيفة، هذا الوضع يحميها من آثار فك ارتباطها بالتجارة العالمية وتصاعد التوترات الجيوسياسية مع الولايات المتحدة.
الصين لا تتقدم بسرعة نحو الاكتفاء الذاتي في الطاقة من موارد محلية آمنة فقط بل تبسط أيضا نفوذا كبيرا في أسواق الموارد والمواد التي ترتكز عليها تقنيات المستقبل.
يقول أندرو جيلهولم رئيس تحليل شؤون الصين بالشركة الاستشارية كونترول ريسكْس: "لم يشعر أي بلد بقلق حقيقي تجاه أمن الطاقة أو سلاسل التوريد الخاصة بالتسلح والصناعات الحساسة والغذاء لاعتقاد كل أحد أن هذه المخاوف اختفت مع نهاية الحرب الباردة، لكن الصين كانت تتحسب لذلك منذ سنوات".
الثورات الصناعية السابقة قادتها بريطانيا أولا ثم الولايات المتحدة بما في ذلك ما يسمي عصر المعلومات مؤخرا جدا، لكن الصين هي التي تقود الآن أحدث ثورة تقنية عالمية في الكهرباء والطاقة المتجددة، حسبما يقول المحللون في مركز أبحاث الطاقة الأمريكي "آر أم آي" ومجموعات الأبحاث المستقلة الأخرى.
بالضبط كما يحرك النفط والغاز اقتصاد الدولة النفطية كذلك تساهم تقنيات الطاقة النظيفة بقدر كبير في نمو الصين، وهذا وضع ترحب به بكين على نحو خاص في سياق تباطؤ الاقتصاد، فقطاعات الطاقة النظيفة شكلت نسبة قياسية تبلغ 10% من الناتج المحلي الإجمالي للصين وكانت وراء تحقيق 25% من نموها في العام الماضي، وفقا للإحصاءات الحكومية الرسمية التي حللها مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف في هيلسنكي.
بخلاف أمن الطاقة، ستلعب الكَهْرَبَة (إشاعة استخدام الكهرباء - المترجم) دورا حاسما في جهود معالجة التغير المناخي، ويُقصد بالكهربة تحديدا استبدال التقنيات والعمليات المعتمدة على الوقود الأحفوري بالبدائل التي تُدار بواسطة الكهرباء.
يقول اللورد أدير تيرنر رئيس لجنة تحولات الطاقة وهي تحالف شركات عالمية تركز على الحياد الكربوني: نحن لا نرى سبيلا يقود إلى اقتصاد الحياد الكربوني إلا عبر "الكهربة" واسعة النطاق، ويقول أيضا: الكهرباء أكثر كفاءة إلى حد بعيد في عدد من الاستخدامات، خصوصا في النقل البري والتدفئة المنزلية.
تظل الصين أكبر منتج لغاز الاحتباس الحراري في العالم وبلغت انبعاثات قطاع الطاقة بها مستوى قياسيا جديدا في العام الماضي بسبب ارتفاع استهلاك الفحم الحجري، لكن إنجازاتها في مجال إشاعة الكهرباء يعني أنها ستحقق تقدما كبيرا في خفض الانبعاثات إذا بدأت في الخفض التدريجي لاستخدام الفحم الحجري والذي لا يزال الوقود المهيمن في مزيج الكهرباء لديها على الرغم من ازدياد الإضافات في الطاقة التوليدية للموارد المتجددة.
ثورة الكهرباء صدر أول أمر مباشر من الزعيم الصيني شي "لتثوير" نظام الطاقة في الصين في منتصف 2014 وبعد عامين من قيادته، وحسب وسائل الإعلام الحكومية وقتها أبلغ شي قادة الصين في مجموعة عمل اقتصادية رئيسية للحزب الشيوعي أن نظام الطاقة الصيني يعاني من "تخلف تقني" وعلى الصين تعزيز نظام طاقتها.
ارتكزت الرحلة التي تحولت بها الصين إلى مركز اقتصادي على النفط والفحم الحجري، فقد شكل طلبها أكثر من نصف نمو الطلب العالمي على النفط لعقود عديدة، مع ذلك وحتى قبل عقد كان معدل "كهربة" الصين أكبر من معدلاته في أوروبا والولايات المتحدة، ومنذ ذلك الوقت استقرت حصة الكهرباء من الاستهلاك النهائي للطاقة في هذه الاقتصادات المنافسة عند حوالي 22% في حين إنها ارتفعت في الصين إلى 30%.
تقول ماري كلير برسبوا أستاذة سياسات الطاقة بجامعة ساسيكس: "تكرس بلدان غربية عديدة الكثير من الوقت والاهتمام للتخلص من الكربون في توليد الكهرباء لكنها تتخلف في نظام الكهربة الأوسع نطاقا". وتضيف: "لقد ثبت أن بكين يمكنها بسهولة استيفاء المطلوبات الرئيسية للكهربة كالتعديلات الهيكلية في السوق وتغيير سلوك المستهلك والتدخلات في قرارات الشراء الخاصة".
تعكس إنجازات الصين سياسات متتالية تهدف إلى الوفاء بدعوة "شي" إلى تحقيق ثورة في الطاقة، فقد ضخت بكين بلايين الدولارات في قطاع التقنية النظيفة للمطوِّرين في القطاعين الحكومي والخاص وما يساوي تقريبا خمسة أضعاف الإنفاق في الولايات المتحدة و15 ضعفا في اليابان.
دشن ذلك مرحلة جديدة شهدت نموا سريعا للشركات التي تتولى تصنيع توربينات الرياح وألواح الطاقة الشمسية والبطاريات وتلك التي تطور
مشروعات الطاقة الخضراء وسرَّعَت من وتيرة "كهربة" أسطول السيارات والشاحنات والقطارات والسفن والمصانع في الصين.
أوضح تجلِّ لهذا النمو يتمثل في ازدهار السيارات الكهربائية في الصين، ففي هذا العام ستصل مبيعات السيارات الكهربائية المحلية (بما في ذلك السيارات الكهربائية والهجين) إلى حوالي 12.5 مليون سيارة أو أكثر من ضعف مبيعاتها في عام 2022، وستكون هذه أول مرة تتفوق فيها مبيعات السيارات الكهربائية على مبيعات سيارات الاحتراق الداخلي في سوق رئيسية للسيارات.
عزز الانطلاق في مسار الكهربة التوسع السريع في شبكة السكك الحديدية الحديثة، فحسب البيانات الرسمية سجلت سكك حديد الصين أكثر من 4 بلايين رحلة راكب في العام الماضي وهذا رقم قياسي في ارتفاعه.
تغطي شبكة السكك الحديدية عالية السرعة 45 ألف كيلومتر أو خمسة أضعاف حجمها في بلدان الاتحاد الأوروبي، ومن المتوقع أن تتوسع إلى 60 ألف كيلومتر بحلول عام 2030، كما تتوقع مجموعة السكك الحديدية الحكومية هذا العام إكمال مشروعات استثمارية في البنية التحتية لسكك الحديد بتكلفة تزيد على 80 بليون دولار.
لكن ربما الركيزة المركزية لخطط "كهربة" الصين هي خطتها التي تمتد لعقود وتستهدف ترقية وتوسيع شبكة الكهرباء، فمن المتوقع أن تنفق الصين ما يصل إلى 800 بليون دولار بحلول عام 2030 لتحديث عتاد وبرمجيات الشبكة.
الإنفاق على البنية التحتية للكهرباء في بلدان عديدة يتتبع خطى النمو الاقتصادي، لكن كين ليو رئيس أبحاث الموارد المتجددة والطاقة ببنك يو بي إس يتوقع ارتفاع إجمالي الإنفاق الرأسمالي على شبكة الكهرباء بنسبة 10% هذا العام، وسيستمر الصرف على الشبكة بمعدل نمو سنوي مركَّب يبلغ حوالي 5% حتى عام 2030، وهذا معدل أسرع كثيرا من النمو الاقتصادي المتوقع "بسبب الاتجاه إلى الكهربة"، حسبما يقول.
يبلغ هذا الإنفاق المخطط على شبكة الكهرباء 100 بليون رينمينبي (13.8 بليون دولار) هذا العام و110 بلايين رينمينبي في السنوات التالية، ومن المتوقع تخصيص جزء كبير منه لخطوط الكهرباء فائقة الجهد، حسب بنك يو بي أس، لدى الصين أكثر من 40 خطا من هذا النوع وهو ما يعني أن الكهرباء المنتجة من أشعة الشمس والرياح في صحرائي شينجيانغ وغانسو في الغرب يمكن نقلها إلى مراكز الصناعات في جنوب وشرق الصين حيث تتركّز الحاجة إليها.
الصين بهذه الاستثمارات الحكومية طويلة الأجل في شبكة الكهرباء في سبيلها إلى توليد 50% من إمدادها الكهربائي من موارد طاقة منخفضة الكربون بما في ذلك أنظمة التوليد المائي والكهروضوئي وتوربينات الرياح والطاقة النووية وتخزين البطاريات بحلول عام 2028، وبعد 10سنوات لاحقا ستكون طاقة توليد الكهرباء من الرياح وأشعة الشمس في طريقها إلى بلوغ نقطة تحول تاريخية تتجاوز بها توليد الكهرباء من الفحم الحجري لأول مرة.
تقنيات وسياسات جديدة
شكَّل التوجه نحو "الكهربة" سياسة الصين الصناعية حيث تنفق مجموعة قليلة من شركات كهرباء الطاقة الشمسية الرائدة هناك بلايين الدولارات كل عام في البحث والتطوير، ويشمل هذا المسعى تحولا من البوليسيلكون اللازم لإنتاج ألواح الخلايا الضوئية والتي تهيمن الصين على 80% من سوقها إلى مواد جديدة يمكن أن تشكل اختراقا تقنيا مثل خلايا البيروفسكايت الكهروضوئية، وهي أنحف بنحو 20 مرة من البوليسيلكون.
على نحو مماثل، في مجال التوليد بالرياح تتنافس حفنة من الشركات الصينية لإنتاج توربينات أكبر حجما بتكلفة أقل، ففي سبتمبر الماضي أعلنت مجموعة مينغ يانغ ويند باوار ومقرها غواندونغ عن أكبر توربينة رياح بحرية في العالم بطاقة توليد تبلغ 20 ميجاواطا قرب منتجع جزيرة هاينان أو ما يساوي ضعف إنتاج أكبر توربينات طورها المهندسون الأوروبيون والأمريكيون قبل 10 سنوات فقط، وبعد شهر لاحقا ذكرت شركة دونغ فانغ اليكتريك في تشنغدو أنها صنعت توربينة أكبر في فوجيان جنوب شرق الصين.
قلَّص هذا التنافس تكلفة مشروعات الرياح البحرية عند احتسابها بالدولار لكل ميجاوات/ساعة من 95 دولارا في عام 2020 إلى 55 دولارا في العام الماضي، وهو ما يعني تكلفة إنتاج أقل مقارنة بالفحم التقليدي، حسبما توضح بيانات وود مكنزي الاستشارية.
الحكاية شبيهة مع تخزين الطاقة الكهربائية، فأكبر مجموعتين لإنتاج البطاريات في الصين وهما كاتل وبي واي دي تموِّل كل منهما بحوالي 5% من إيراداتها السنوية (50 بليونا و100 بليون دولار على التوالي في العام الماضي) جهودَ تحقيق تحسينات تدريجية في أحدث المواد والعمليات الكيمائية والتصنيعية إلى جانب الأبحاث التأسيسية، وأدت مكاسبهما التقنية إلى جانب منافع التوسع في اقتصاديات الحجم الكبير إلى تخفيضات حادة في تكلفة بطاريات الليثيوم لكل من السيارات الكهربائية وتخزين البطاريات.
إلى ذلك، يجري دعم هذه السياسات الناجحة بإقامة نظام يرتكز على السوق لنقل الكهرباء عبر أقاليم الصين، وفي تحرك يشكل نقطة تحول قررت بكين إخضاع مشروعات الطاقة المتجددة الجديدة لأسعار السوق اعتبارا من شهر يونيو هذا العام، ومن المتوقع أن يكون هنالك بعض التأثير السلبي في الأجل القصير لهذه السياسة على بعض المشروعات الكبيرة لطاقة الشمس والرياح والبطاريات مع تضمين الأسعار الجديدة في حسابات خطط الاستثمار، لكن استحداث أسواق الكهرباء التنافسية (بمعني وضع كهرباء الوقود الأحفوري والموارد المتجددة في تنافس سعري مباشر) يُنظر إليه كخطوة ضرورية في الخفض التدريجي للكهرباء التي يتم توليدها بواسطة الفحم الحجري والغاز خلال العقود القادمة.
موقف الصين تجاه الوقود الأحفوري غير واضح بشكل قاطع، فمن جهة هنالك مؤشرات بأنها على وشك بلوغ الذروة في الطلب على النفط بعد تراجع الواردات في العام الماضي لأول مرة منذ عقود باستثناء فترة الجائحة، لقد ذكر المحللون بالوكالة الدولية للطاقة أن الاستخدامات التي تنطوي على حرق الوقود الأحفوري في الصين استقرت مع احتمال "محدود جدا" لنموّها في المستقبل، وهذا اتجاه مدفوع إلى حد كبير بواسطة تبني السيارات الكهربائية في قطاع النقل وتحول الصين التدريجي من الصناعة التحويلية إلى النمو الأكثر ارتكازا على الخدمات.
لكن في العام نفسه بدأت الصين بناء محطات كهرباء تستخدم الفحم الحجري يزيد عددها عن تلك التي شيدتها سنويا خلال عقد، وفقا لمنظمة جلوبال أنيرجي مونيتور، وهي تستمر في تمويل مشروعات كهرباء الفحم الحجري في الخارج على الرغم من تعهد الرئيس شي في عام 2021 بأنها ستكفّ عن ذلك.
مع ذلك عقب تعهد شي "المزدوج" ببلوغ ذروة انبعاثات الكربون في الصين قبل عام 2030 وتحقيقها الحياد الكربوني بحلول عام 2060 من المتوقع ازدياد استخدام هذا الوقود الأحفوري بمرور الوقت كاحتياط لنظام الكهرباء الذي تهيمن عليه الموارد المتجددة.
تقول يانمي شيه وهي خبيرة مستقلة في السياسة الصناعية الصينية: "قلل العالم من تقدير مدى انخفاض تكلفة كهرباء الطاقة المتجددة في الصين"، وتضيف: "الصينيون في الواقع سمحوا بتسعيرها وفقا للسوق ثقة منهم بأنها تنافس من حيث التكلفة كهرباء الطاقة التقليدية"، وحسب مركز أبحاث الطاقة "أر إم آي" أسعار الكهرباء المنخفضة ضرورية أيضا "للكهربة" كما هي عليه الحال في الصين، فقد زادت الأسعار المنخفضة من وتيرة استخدامها هناك، ويوضح تحليل المركز أن البلدان التي تفشل في خفض الأسعار ستواجه مصاعب في إشاعة استخدام الكهرباء.
يقول دان والتر وهو أحد معدي تقرير مركز أبحاث الطاقة آر أم آي ويعمل الآن مع مركز الأبحاث إمبر: "إنها قاعدة اقتصادية بسيطة جدا، فإذا كان سعر شيء ما مرتفعا ستقلل استخدامك منه".
وفي حين تعزز السياسة الصناعية في الصين أمن الطاقة والموارد إلا إنها أيضا قادت إلى التوسع المفرط في السعة الإنتاجية وأضرت بمنافسين أجانب لا حصر لهم وساهمت في اختلال توازن التجارة.
وفقا لبيانات من شركة وود ماكينزي، القدرة الإنتاجية لصناعة التقنية النظيفة في الصين تفوق بقدر كبير الطلب المحلي، أدى ذلك إلى هبوط مذهل في الأسعار لكنه أيضا أثار مزاعم من واشنطن وبروكسل بأن بكين انتهكت قواعد التجارة الدولية خلال سنوات من الدعم الحكومي غير النزيه.
قادت تخمة الإمدادات الهائلة في منتجات الطاقة الشمسية مثلا إلى امتلاء المستودعات وعجزها عن استيعاب المزيد، وصارت الألواح الكهروضوئية الصينية متدنية الجودة تُستخدم في بناء الأسوار في أوروبا، ولم ينتبه واضعو السياسات في بكين إلى هذا التناقض في السياسة الصناعية، بمعنى إنها يمكن أن تقود إلى إهدار هائل في الموارد وأيضا إلى نجاحات استراتيجية.
تفوق صيني "مفيد وخطِر"
تتوقع أليسا هورهاجر كبيرة ممثلي اتحاد الصناعات الألمانية (بي دي آي) والمقيمة ببكين أن يكثف مسؤولو التخطيط الاقتصادي في الدولة الصينية جهودهم لمعالجة "الانفصام" بين الابتكار والكفاءة في الصناعة في خطة الخمس سنوات القادمة والتي من المتوقع كشف النقاب عنها في أوائل عام 2026.
تقول: "هذا سيكون أحد التحديات الرئيسية التي سيحاولون علاجها من خلال الربط بين تعزيز الابتكار ورفع الإنتاجية".
هنالك إدراك متزايد في أوساط صانعي السياسات الغربيين بأن مجاراة سلاسل توريد تقنية الطاقة النظيفة قد تكون مستحيلة، فقد أنفقت الصين عقودا في تأمين الوصول إلى الموارد الحيوية في العالم وتشييد البنية التحتية للمعالجة والتكرير والدعم الحكومي للصناعة والاستهلاك المحليين، وهي الآن تهيمن على كل مراحل سلسلة التوريد من المناجم إلى المصانع.
حسب بحث نشر في العام الماضي بواسطة مركز "أيد داتا" بكلية ويليام آند ميري في الولايات المتحدة، أصدرت كيانات صينية قروضا بقيمة تقارب 57 بليون دولار في الفترة من 2000 إلى 2021 لتأمين الحصول على معادن حيوية كالنحاس والكوبالت والنيكل والليثيوم والمعادن النادرة من أرجاء العالم العامي، والآن توظف الصين هذه الهيمنة وتزيد من تصدير قدراتها في مجالات التقنية النظيفة والهندسة وسلاسل التوريد والتمويل.
كما تستخدم بكين على نحو متزايد نجاحها في مجال الطاقة الخضراء لادعاء التفوق الأخلاقي على البلدان الغربية المنافسة لها، خاطب شي جينبينج اجتماعا افتراضيا لزعماء العالم عقدته الأمم المتحدة في أبريل بقوله "منذ إعلاني عن أهداف الصين المتعلقة بذروة الكربون والحياد الكربوني قبل خمس سنوات أنشأنا نظاما للطاقة المتجددة هو الأكبر والأسرع نموا في العالم إلى جانب سلسلة صناعية للطاقة الجديدة هي الأكبر والأكثر اكتمالا".
ووفقا لإعلانات الشركات والبيانات المالية التي قام بتجميعها مركز الطاقة والتمويل المناخي في سيدني، خصصت الشركات الصينية منذ بداية عام 2023 حوالي 156 بليون دولار للاستثمار الأجنبي المباشر المتجه إلى الخارج عبر أكثر من 200 صفقة تتعلق بالتقنية النظيفة، هذه الجهود تعظِّم النفوذ الاقتصادي والسياسي العالمي لبكين في تزامن مع سعي إدارة ترامب إلى فك الارتباط بسلاسل التوريد الصينية وزعزعة التجارة العالمية.
يقول تيم بَكلي مدير مركز الطاقة والتمويل المناخي: "أكدت الحرب التجارية القائمة حقا أهمية أمن الطاقة وإشاعة استخدام الكهرباء لأن إحدى السلع الأكثر تداولا في العالم هي الوقود الأحفوري"، ويضيف بكلي قائلا: ستتجه البلدان حول العالم إلى التفكير بالطريقة نفسها (التي تفكر بها الصين)، ومن الواضح أن الصين في وضع جيد جدا يمكنها من مساعدة البلدان الأخرى في ذلك والخروج من هذه الفوضى الجيوسياسية بسلاح تجاري استراتيجي هو التعاون مع أي بلد يريد العمل من أجل أمن الطاقة والتخلص من انبعاثات الكربون.
وفي حين تراهن بكين على تقنيات الطاقة النظيفة لتعزيز صادراتها تتبع واشنطن مقاربة مختلفة جدا؛ فالبيت الأبيض يصر على أن تزيد البلدان وارداتها من الغاز الأمريكي لتقليل فوائضها التجارية مع الولايات المتحدة وتأمين شروط تجارة تفضيلية.
تقييم تكلفة حرب ترامب التجارية والاختيار بين الغاز الطبيعي المسال الأمريكي وتقنيات الكهرباء النظيفة الصينية يمكن أن يشكلا نقطة تحول لبلدان عديدة سواء في الجانب المالي أو فيما يخص التخلص من الكربون، حسب كينجزميل بوند المحلل الاستراتيجي للطاقة بمركز الأبحاث إمبر.
يقول بوند: "البناء على تقنيات الكَهْرَبَة الصينية سيكون أرخص من محاولة الإبقاء على نظام الوقود الأحفوري القديم، فالطاقة الشمسية تتفوق على الغاز الطبيعي المسال في التكلفة، وهذه نعمة للمناخ؛ فإنفاق دولار واحد على استيراد ألواح الخلايا الضوئية سيوفر دولارا سنويا من قيمة واردات الغاز وينتج مقدار الكهرباء نفسه".
لكن المحللين والمسؤولين الغربيين يرون في تصاعد هيمنة الصين على تقنية وسلاسل إمدادات الطاقة الخضراء خطرا على الأمن القومي وينبهون إلى المخاطر المحتملة التي تنشأ عن الاعتماد الاقتصادي وأيضا التجسس والمهددات العسكرية.
في نهاية المطاف، يقول الخبراء: إن نجاح الصين في "الكهربة" يمكِّن شي وحكومته إلى حد بعيد من معالجة ذلك النوع من صدمات سلسلة التوريد والتجارة والذي يتبدّى الآن على نحو مثير للقلق في الفترة الرئاسية الثانية لدونالد ترامب.
وللمفارقة، قد تقدم الرسوم الجمركية "حافزا غير مقصود" لتعزيز تحول الصين إلى الطاقة المتجددة، حسب ياو يي رئيس فرع منظمة السلام الأخضر (جرين بيس) في بكين.
في العام الماضي كانت سعة أنظمة تخزين الطاقة الصينية فوق 73 جيجاواطا وأعلى بحوالي 20 ضعفا عن حجمها قبل أربعة أعوام، لكنها لا تزال أقل كثيرا من السعة التخزينية التي تحتاجها الصين والبالغة 500 جيجاواط لكي تدعم تنفيذ مشروع الطاقة المتجددة بشكل كامل، ويرى ياو أن التركيز مرة أخرى على السوق الداخلية في الصين بدلا عن التصدير إلى الولايات المتحدة قد يساعد "الحكومات المحلية والصناعات على تحقيق أهداف أمن الطاقة".
وفي حين أن كلا الطرفين لديهما مكامن ضعف ونقاط اختناق عبر سلاسل التوريد الصناعية، يعتقد خبراء عديدون أن ترامب مستشاريه المقربين أخطأوا في تقدير "مدى" استعداد بكين لهذه الأزمة.
يعتقد جيلهولم أن الصين في وضع أقوى كثيرا مقارنة بما كانت عليه قبل سنوات، ويضيف: "لا أحد يقول إنها تعتنق ماويَّة جديدة أو تتبع اقتصادا مغلقا الآن، الصين ببساطة قطعت شوطا بعيدا في التخلص من المخاطر والتحلي بالمرونة".