فى سنة 1950 أنعم الملك فاروق بنيشان النيل على محمد حسن الشماشرجى الخاص به تقديرا لاخلاصه وتفانيه فى عمله. ولم يكن الرجل سوى خادم نوبى بسيط يبتسم فى وجه الملك كل صباح، ويساعده على ارتداء ملابسه، والعناية بهندامه، والدعاء له، لذا فقد تندر الناس بذلك النيشان وسموه «نيشان الشماشرجي».
ولقب الشماشرجى لم يكن سوى إشارة لمهنة عرفت فى الدولة العثمانية، فالكلمة مشتقة من الكلمة التركية «جامشرجي» ومعناها غاسل الملابس، وكانت تطلق على كُل مَن يقومون بأعمال بسيطة، غير مهمة مثل تلبيس الأمراء والأثرياء.
ويبدو أن الثقافة الشعبية فى مصر قد استطابت الكلمة، فالتقطتها، وعددت إشاراتها، ووظفتها لممارسة النقد الشعبى لأولئك التافهين قيمة وعلما والذين يملأون المجالس، ويجلسون إلى جوار القيادات يتغنون بمآثرها، ويهللون لكل فعل، ويزينون لها كل مُنكر. وهم فى الأغلب لا يجيدون عملا جادا ولا يمتلكون مهارة، ولا تحركهم مبادئ، أو تحكمهم قيم. إنهم يقولون ما يريد مرؤوسوهم أن يسمعوه، ويرسمون على وجوههم ابتسامات ذليلة كاذبة، ويدّعون حبا لم يزر قلوبهم، ثم يمدون آذانهم فى كل زاوية ليسترقوا السمع، ويثبتوا الولاءات بنقل الأسرار.
كان أنطون بوللى أحد أشهر الشماشرجية فى تاريخنا الحديث، ولد بميلانو سنة 1908 وفشل فى التعليم، فسافر إلى مصر بحثا عن عمل، ولم يجد سوى وظيفة كهربائى فى إحدى شركات الصيانة بالقاهرة. وفى الثلاثينيات أوفدته الشركة إلى سراى الملك لتركيب أنظمة تدفئة، وإصلاح الإضاءة، لكنه كان كهربائيا فاشلا، لذا فقد استغل الزيارة فى اضحاك المشرفين على العمل بالقصر، فعينوه كهربائيا هناك. وبفضل التذلل والتملق الزائد تقرب بوللى من سادة القصر، حتى وصل إلى الولد اليافع فاروق، فاستحوذ على قلبه. ورويدا صار مسئولا عن إسعاد الملك، ثم أصبح مسئولا عن حفلاته الخاصة، وسهراته. ومن بعد تفجرت الفضائح، واهتزت المملكة المصرية بحكايات مُزرية ومُشينة اعتبرها المؤرخون مسامير عميقة فى نعش الملكية.
وعندما سقط الملك فاروق، وتنازل عن حكم مصر، واضطر إلى الخروج، طلب اصطحاب بوللى معه، لأنه الرجل الوحيد الذى يسعده، لكن ضباط يوليو رفضوا بشكل قاطع، فبكى الملك متصورا أنهم حرموه من صديقه وأحد المحبين المخلصين له. وفى اليوم التالي، وكما ذكر المؤرخون كان بوللى متطوعا للمثول أمام اللواء محمد نجيب ليجلس معه فى حضور زكريا محيى الدين، وصلاح نصر، ليحكى لهم كل أسرار الملك ومخازيه بتفصيل كامل، ثم قدم لهم معلومات وافيه بشأن المخابئ السرية لأمواله، وطرق تهريبه للذهب معه. كان الكهربائى الإيطالى خائنا بامتياز، ولم يكن فى قلبه ذرة محبة واحدة.
فيما بعد عرفنا فى دوائر الحكم شماشرجية كُثرًا اعتبرهم الناس حاشية السوء، وقرأنا قصصا لا حصر لها عن خطاياهم التى حملوها معهم إلى قبورهم. وخارج دوائر السياسة، فى الإدارات المختلفة، فى الجامعات، فى المؤسسات الكبرى والصغرى، فى أماكن العمل، وفى كل موقع ببلادنا الطيبة كان هناك بوللى آخر يتغنى بمحبة القادة، ويدعى الإخلاص الشديد لهم. يتشقلب كل يوم أمامهم مبهجا، يصفق على كل شىء، وينحني، ثم ينحني، ويتذلل متصورا أن رزقه وسعده رهين ذلك الذُل، ولا يُدرك أن أحدا لا يمت دون رزقه المقسوم، لكن كثيرين على هذه الأرض يموتون دون كرامة.
والله أعلم
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: مصطفى عبيد الملك فاروق على محمد حسن الدولة العثمانية
إقرأ أيضاً:
وزير الزراعة: المؤشرات الجغرافية رمزا للهوية وشاهدا على التراث ودليلا للجودة
أكد علاء فاروق، وزير الزراعة واستصلاح الأراضي، أن المؤشرات الجغرافية ليست مجرد علامات تجارية أو تصنيفات تسويقية، بل هي رمز للهوية، وشاهد على التراث، ودليل على الجودة، كما تمثل حلقة وصل حيوية بين الأرض والإنسان، وبين الماضي والحاضر، وبين المحلية والعالمية.
جاء ذلك في كلمة وزير الزراعة خلال جلسة "المؤشرات الجغرافية للمنتجات الزراعية"، والتي ترأستها آني جيوفار وزيرة الزراعة الفرنسية، على هامش فعاليات المؤتمر السادس لوزراء الزراعة بالاتحادين الأوروبي والأفريقي، والمنعقد حاليا في العاصمة الإيطالية روما.
وقال فاروق إن مصر أولت اهتماما خاصا بحماية وتسجيل المنتجات الزراعية التي تتميز بخصائص فريدة وترتبط بمناطق محددة داخل البلاد، إيمانا منا بأن الزراعة ليست فقط مصدر دخل، بل هي جزء أصيل من تاريخنا وثقافتنا وهويتنا.
وأضاف أنه تم تنفيذ مشروع التنمية الريفية المتكامل بمحافظة مطروح، كنموذج رائد لتبني هذا المنهاج، بالتعاون مع الاتحاد الاوروبي، حيث تم تسجيل ثلاثة محاصيل زراعية كمؤشرات جغرافية لتلك المنطقة، وهي: التين والعنب والزيتون.
وأشار وزير الزراعة إلى حرص الدولة المصرية على نشر الوعي حول أهمية المؤشرات الجغرافية.. معربا عن تطلعه من خلال التعاون مع الجانب الفرنسي، لتوسيع نطاق تسجيل المنتجات الزراعية المصرية التي تنتج بأساليب متوارثة وفي مناطق محددة، باعتبارها مؤشرات جغرافية تسهم في زيادة تصدير المنتجات الزراعية المصرية ومنافستها بالأسواق الدولية، خاصة بالاتحاد الأوروبي، والذي قطع بالفعل شوطا كبيرا في تسجيل هذه المنتجات وتسويقها بشكل مميز.
ولفت فاروق إلى أنه تم تصميم علامة تجارية بصرية فريدة لكل منتج بحيث تحمل الطابع الفرعوني، بهدف تعزيز البعد الوطني وتسهيل عملية التصدير للأسواق العالمية، وكذلك هناك لجنة قومية لتسجيل وحماية المؤشرات الجغرافية، الأمر الذي أتاح لمصر وضع الآليات اللازمة للاعتراف بهذه المنتجات وحمايتها على المستويين المحلي والدولي.
وأوضح الوزير أن ملف الملكية الفكرية انتقل إلى الهيئة القومية لحقوق الملكية الفكرية التابعة مباشرة لرئاسة مجلس الوزراء، الأمر الذي سيسهم في رفع الكفاءة والشفافية، وتوسيع نطاق المؤشرات الجغرافية لتشمل مزيدا من المناطق والمنتجات في مختلف أنحاء مصر.
وأكد علاء فاروق أهمية التعاون المشترك مع الدول ذات الخبرة الواسعة في هذا المجال، وعلى رأسها فرنسا، الأمر الذي يعد فرصة ثمينة لتبادل المعرفة، وبناء القدرات، وفتح آفاق التعاون أمام منتجاتنا الزراعية.. مثمنا المبادرة الفرنسية - الإيطالية لتنظيم هذه الجلسة.
كما أكد أن مصر ستبقى دوما شريكا ملتزما بتعزيز التعاون الزراعي بين إفريقيا وأوروبا لتحقيق الأمن الغذائي، وتمكين المجتمعات الريفية، وحماية تراثنا الثقافي باستخدام أدوات حديثة ومستدامة مثل المؤشرات الجغرافية.