تحدثت في الجزء الأول من هذه المقالة عن قدرة المفكر على رؤية الأمور والأحداث ومآلاتها أبعد مما يراه بقية الناس، ولا أخفي أنني كتبت ذلك وفي خَلَدي المفكر المصري الراحل د.عبدالوهاب المسيري أولا وقبل أي أحد آخر، وكذلك المفكران المسلمان الجزائري مالك بن نبي والإيراني د.علي شريعتي، كما كنت أشاهد آخرين من أمثال تشومسكي ذلك المفكر الحر؛ حسنا، لماذا هؤلاء تحديدا؟.
أقدم ذكرى لي مع حدث هزَّ العالم العربي-الإسلامي وحرّك الناس، كانت الانتفاضة التي أعقبت استشهاد محمد الدرّة، ولم أتخيّل أنني سأعيش لأرى حدثا يشبه إرهاصات ما قبل الحرب العالمية الثانية، بل ومِن أين يمكن أن يبدأ؟ من فلسطين!. تلك الأرض الوحيدة التي ظلّت طوال هذه السنوات فريدة -يُراد لها ذلك- تشبه القطعة الأثرية التي يُحتَفظ بها في المتاحف، كعادة الغربيين في الاحتفاظ والاحتفاء بما أبادوه أو ساهموا في انقراضه. ففي عالم ظننَّا جميعا أننا تخلصنا فيه من بقايا الاستعمار، نفاجأ بأننا نشهد تكالب الغرب -عدا بعض الشرفاء- على شرعنة الاحتلال وإبادة المدنيين. وما نعيشه اليوم -منذ استشهاد الدرّة- شيء غير مسبوق بتاتا، وكأن العالم الحر كان بانتظار أن يحدث شيء كهذا يتيح له الحديث ومناقشة الموضوع مناقشة حرة وبلا خوف، لذلك اجتاحت الأصوات المناهضة لحرب الإبادة والتطهير العرقي الشوارع بالمظاهرات في شتى أنحاء العالم.
في خضم هذه المسرحية الهزلية كلها، يترقب الصينيون المنطقة كمن يتحيّن فرصة الانقضاض على فريسته؛ فالولايات المتحدة وإن كانت أقوى قوة في العالم الآن؛ إلا أن المثل العربي الشهير «اتسع الفتق على الراتق» ينطبق على حالها أوضح مما مضى. فإثارة الصراعات والحروب في شتى أنحاء العالم ليست شيئا يجلب الطمأنينة بحال، بل إن حلفاء اليوم قد يغدون أعداء الغد حين يرون ما يفعله بهم حليفهم وكيف يتخلص منهم فور فراغ المهمات المنوطة بهم. لا يمكن بحال أن تكون أمريكا المسيطرة الفعلية على العالم كله بمواطنين أمريكيين فقط، بل إن السيطرة تتم بالوكالة فحسب؛ ولأنها كذلك فإن تلك السيطرة مشيّدة على الرمال، متى ما تحركت تلك الرمال، انهدّ برج بابل الزجاجي وتكالبت الحكومات الصاعدة قبل الشعوب في التنكيل بالإمبراطورية الساقطة. يتجلى ذلك في الدول التي اعترفت بفلسطين مؤخرا -حتى وإن كان الاعتراف أشبه ما يكون بالأمر المعنوي- قبل مدة من الزمن لم تكن أية دولة -عدا تلك المحاربة أساسا- تستطيع مخالفة الإرادة الأمريكية، والجميع يعمل تحت تلك الإدارة كما يفعل موظفو الشركات، واليوم يتم التحدث جهارا عن الطغيان الأمريكي ووجوب إيقاف الأمر عند حد معين يسمح للحكومات بالتنفس قليلا، ثم تطور إلى أن أصبحت كتلة بريكس أقوى وأكثر قدرة على مواجهة هيمنة العم سام.
بدأ الصينيون منذ مدة طويلة في اختراق المنطقة، وإذا كان الوجود الصيني الخشن باديا في إفريقيا التي أضحت طاردة للأوروبيين الذين تعاملوا معها باعتبارها مزرعة ومنجما لا دولا ذات سيادة وشعوبا لها حريتها وأحلامها وطموحاتها؛ جاء الصينيون إلى إفريقيا حاملين معهم مبدأ المعاملات التجارية الحرة، ولا نعلم إن كان سيستمر الأمر على حاله، أم أن المثل العماني «تمسكن، لين تتمكّن» سيغدو سيد المشهد فيما بعد. أما في مناطق أخرى فقد استعمل الصينيون القوة الناعمة في اختراق الشعوب أنفسها ؛ فبدءا بما يعرف بالمراكز الصحية التي تقدم خدمات المساج والعلاج الطبيعي، وتتجاوزها إلى أنشطة غير أخلاقية وغير مشروعة، وليس انتهاء بإغراء كبار التجار بالتعامل الحصري مع الشركات الصينية وبأسعار منافسة وكاسحة تماما. هذا الاختراق سمح للصينيين بدراسة نفسيات واتجاهات وعقائد وأطباع شعوب المنطقة، وهو ما يسمح باستعمال تلك الدراسات وتطبيقها على الواقع. ولنضرب مثالا على ذلك؛ فمن يتوقع أن يجد اللبان (البخور) أو أعلام مؤسسات عسكرية وحكومية، أو قلادة عليها صورة السلطان قابوس -طيب الله ثراه- في موقع صيني كعلي إكسبريس!، وقد ذكرت هذه الأمثلة لما لها من خصوصية لا تجعل مسألة (العرض والطلب) هي الأساس فيها، فمن سيطلب القلادة أكثر من العمانيين؟ ومن سيطلب تلك الأعلام أيضا!. أعتقد أنها أسئلة مشروعة وينبغي الوقوف عندها بجدية والنظر في مآلاتها، كي لا يتسع الفتق على الراتق فيما بعد.
أما عن التغييرات الجيوسياسية التي يشهدها العالم، فإن الأمور في صالح دول العالم الثالث -رغم مقتي الشديد لهذه التسمية- إلى حد ما، فمَن يأخذ زمام المبادرة اليوم كي تكون المعاملات بين الدول بمبدأ العدالة والمساواة، بعبارة أخرى بمبدأ المقايضة العادلة؛ لا بمبدأ التنمّر الذي يجبر الدول الضعيفة على دفع الإتاوات القاصمة للدول القوية صاحبة السلاح والعتاد التدميري، فيما تغلّف تلك العلاقات غير المتكافئة بعبارات من قبيل «الحماية» و«الدفاع المشترك» وغيرها. ولأنني أؤمن بأن الحياة تحمل في طياتها الخير والشر على السواء، فأنا على يقين بأن الإرادة الصادقة والعمل الدؤوب يصنعان الفرق في موقع أي أمة على الخريطة، ولا تقاس الأمم بحجمها ولا كثرة عددها، ولنا في تايوان وكوريا الجنوبية شاهد ودليل. فبدون هاتين الدولتين، كيف سيكون شكل العالم اليوم؟ وأين سيكون التطور التكنولوجي قد وصل؟. وإذا كان لي من أمنية، فإنني أتمنى أن تتيح لي الحياة مشاهدة عالمنا العربي يرفل في ثوب بهي من السلام والحرية المطلقة والاستقرار التام، فحتى لو بدت الأمور على قدر كبير من الظلامية والضباب، فإن الأمثلة حولنا كثيرة، من مجاعة الصين إلى الحصار المفروض على إيران، فكلها أمم نفضت عن نفسها الرماد وقامت -أو تكاد- لتثبت للعالم بأنه يتسع للخير، كما اتسع كثيرا لشتى أنواع الشرور، كما أتمنى أن نحلّق بجانب التنين -على الأقل- حين يأتي دوره، لا أسفل منه ولا خلفه.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
هذا هو البابا الجديد الذي يحتاج إليه العالم اليوم... يخلف أهم ثلاثة بابوات
مستلهمين الروح القدس والهاماته، وهو الذي قاد الكنيسة منذ تأسيسها مع القديس بطرس وبعده البابا القديس لينوس وصولًا إلى البابا الراحل فرنسيس، وهو الذي حمل الرقم 266 في تسلسل البابوات، الذين قادوا كنيسة المسيح، "التي لا تقوى عليها أبواب الجحيم"،انتخب الكرادلة المئة والثلاثة والثلاثون، بابا جديدًا، وهو الذي ستلقى على كتفيه مسؤولية كبيرة، خصوصًا أنه سيخلف ثلاثة بابوات من بين أهم البابوات الذين جلسوا على كرسي بطرس، وهم يوحنا بولس الثاني وبندكتوس السادس عشر وفرنسيس، ولكل منهم مميزات وصفات وسمت تاريخ الكنيسة الكاثوليكية بطابع خاص لم تغب عنه ما تركه كل منهم من أثر طبع المسيرة الروحية والايمانية لهذه "الصخرة"، التي بنى السيد المسيح عليها بيعته.فالبابا الجديد انتخب بعد ثلاث جلسات اقتراع، في أسرع عملية انتخابية في تاريخ انتخاب البابوات، وهو الكاردينال الأميركي بريفوست.
البابا يوحنا بولس الثاني
فالبابا القديس يوحنا بولس الثاني عُرف بانفتاحه على العالم، وكانت لزياراته الخارجية الأثر الكبير في إحداث تغيير كبير في الأنماط السياسية، التي كانت متبعة في أكثر من منطقة من العالم، وبالأخصّ بالنسبة إلى بولونيا، البلد الذي نشأ فيه وترعرع، وفيه خبر ما تركته الأنظمة التوتاليتارية من مساوئ، وكيف كانت تُعامل الشعوب التي حُرمت من أقدس ما لديها، وهي حرية الانسان وكرامته، والعيش في سلام وفي ممارسة شعائره الدينية من دون أن يُلاحق ويُعذَّب وتُهان كرامته ويقتل بأبشع الأساليب غير الإنسانية. فكان لتدّخله المباشر في مسرى الأحداث التأثير الفعلي في انهيار حائط برلين وسقوط نظام الاتحاد السوفياتي وعودة الايمان لصفائه إلى الكنيسة الارثوذكسية في روسيا الفيديرالية، وعودة الكنائس لممارسة شعائرها الدينية وطقوسها الايمانية بكل حرية.
فالبابا القديس هو واحد من أقوى عشرين شخصية في القرن العشرين، فهو إضافة الى الدور الذي لعبه في إسقاط النظام الشيوعي في بلده وكذلك في عدد من دول أوروبا الشرقية، لم يتوانَ بالتنديد بـ "الرأسمالية المتوحشة"؛ ونسج علاقات حوار بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية والكنيسة الأنغليكانية إلى جانب الديانة اليهودية والإسلامية، على رغم أنه انتقد من قبل بعض الليبراليين لتمسّكه بتعاليم الكنيسة ضد وسائل منع الحمل الاصطناعي والإجهاض والموت الرحيم وسيامة النساء ككهنة، كذلك فقد انتقد من بعض المحافظين بسبب دوره الأساسي في المجمع الفاتيكاني الثاني والإصلاحات التي أدخلت على إثره على بنية القداس الإلهي، ولكسره عددًا وافرًا من التقاليد والعادات البابوية.
كان البابا واحدًا من أكثر قادة العالم سفرًا خلال التاريخ، إذ زار خلال تولّيه منصبه 129 بلدًا. ويكفيه أن التاريخ يحفظ له أول بابا في التاريخ تطأ قدماه مسجدا في بلد مسلم إذ تم ذلك أثناء زيارة البابا لسوريا في ايار 2001. ولا ينسى اللبنانيون تلك الزيارة التاريخية، التي قام بها لبلدهم، الذي وصفه بـ "بلد الرسالة".
البابا بندكتوس السادس
أمّا البابا بندكتوس السادس، فقد اعتبر اللاهوتي الفيلسوف، الذي عقلن اللاهوت، وهو الذي طرح أكثر من سؤال عن معنى الحياة، وتحديات الأزمنة. وقد بدت الإنسانية في عيون البابا الراحل على مفترق طرق، ولذلك رفع صوته الخفيض، عبر كتاباته الفلسفية العميقة، مشدداً على أنه حان الوقت للتفكير والتغيير، وأكد غير مرة برباطة جأش على أن: "هناك الكثير من المشاكل يجب حلها".
وفي سنوات بحثه المعرفي العميق، وضع البابا بندكتوس العالم أمام العديد من التساؤلات المصيرية المضنية، ومن بينها قضية التقدم والمعرفة، وما إذا كانت البشرية تتقدم إلى الأمام أم تتراجع إلى الخلف. ولم يتوانَ عن تكرار تحذيره من من أن مستقبل البشرية، ومصير كوكب الأرض، قد صارا في خطر.
وأخيرً وليس آخرًا وضع البابا بندكتوس أصبعه عند موضع الجرح البشري، وذلك حين أعتبر أن قوة الإنسان الغربي المادية قد بلغت أبعاداً مخيفة، في وقت لم تواكبها فيه، صعوداً، قدرته الأخلاقية، ما من شأنه أن ينعكس في ثمار تقدم خال من أسس أخلاقية.
البابا فرنسيس
أمّا الحديث عن البابا فرنسيس فيطول، إذ شهدت حبريته عدداً من القضايا غير المسبوقة خلال سعيه المتواصل من أجل إجراء إصلاحات داخل الكنيسة الكاثوليكية، والحفاظ في ذات الوقت على مكانته بين المؤمنين المحافظين. فهو الآتي من النصف الجنوبي للكرة الأرضية، في سابقة لم تتكرر منذ أن أُسدل الستار على عهد البابا غريغوريوس الثالث، ذو الأصول السورية، عام 741 ميلادياً. كما كان أول بابا ينتمي إلى الرهبنة اليسوعية على كرسي القديس بطرس.
إلاّ أن رياح الإصلاح التي حملها البابا فرنسيس واجهت تيارات اتسمت بالمقاومة داخل أروقة الفاتيكان البيروقراطية، إذ أظهر، منذ أن تبوأ كرسي البابوية، إصراراً على انتهاج أسلوب مغاير، استهله باستقبال كرادلة الكنيسة بطريقة غير رسمية، واقفاً بين الحاضرين، متخلياً عن الجلوس على الكرسي البابوي، وهو الذي آثر التواضع على الفخامة ومظاهر البذخ، متخلياً عن استخدام عربات الليموزين البابوية، وحرصه على مشاركة الكرادلة في رحلاتهم بالحافلة، فرسم درباً أخلاقياً لرعيته قائلاً: "آه، كم أودّ أن تكون الكنيسة فقيرة ومن أجل الفقراء".
فالبابا الجديد سيكون حتمًا مكمّلًا لما تميّز به البابوات الثلاثة، الذين سبقوه على هذا الكرسي المقدس.
مواضيع ذات صلة رئيس الجمهورية جوزاف عون من روما: وجودي هنا اليوم كرئيس للجمهورية اللبنانية ليس فقط لتقديم التعازي بوفاة البابا فرنسيس بل لأجدد تأكيد الدور الروحيّ والرساليّ الذي يحمله لبنان في هذا العالم Lebanon 24 رئيس الجمهورية جوزاف عون من روما: وجودي هنا اليوم كرئيس للجمهورية اللبنانية ليس فقط لتقديم التعازي بوفاة البابا فرنسيس بل لأجدد تأكيد الدور الروحيّ والرساليّ الذي يحمله لبنان في هذا العالم