مفتي شمال مقدونيا: المرأة لها دورها في بناء الوعي الديني والثقافي والاقتصادي
تاريخ النشر: 24th, August 2024 GMT
وصل الشيخ الحافظ شاكر فتاحو مفتي شمال مقدونيا إلى القاهرة اليوم للمشاركة في المؤتمر الخامس والثلاثين للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، والذي سيعقد بالقاهرة في الفترة من 25 – 26 أغسطس 2024م تحت عنوان "دور المرأة في بناء الوعي".
وكان في استقبال مفتي شمال مقدونيا الدكتور هشام عبد العزيز علي رئيس مجموعة الاتصال السياسي بوزارة الأوقاف.
وجه مفتي شمال مقدونيا الشكر لوزارة الأوقاف ولمعالي الأستاذ الدكتور أسامة الأزهري وزير الأوقاف علي هذه الدعوة الكريمة للمشاركة في المؤتمر الخامس والثلاثين للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
وأكد مفتي شمال مقدونيا أن هذا المؤتمر يعد مؤتمرًا عظيمًا ومفيدًا جدًّا خاصة في هذا الوقت، فالمرأة لها دورها في بناء الوعي الديني والثقافي والاقتصادي وسيتم تسليط الضوء على هذه الجوانب كلها في هذا المؤتمر، مضيفًا: أعجبت كثيرًا بعنوان المؤتمر، وعندما رأيت الدعوة وافقت مباشرة على الحضور في هذا المؤتمر.
د.هشام عبد العزيز رئيس مجموعة الاتصال السياسي بوزارة الأوقاف.المصدر: بوابة الفجر
كلمات دلالية: المرأة المؤتمر الخامس والثلاثين للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية
إقرأ أيضاً:
من غرناطة إلى تستور.. كيف أعاد الموريسكيون بناء حياتهم في شمال أفريقيا؟
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كتب الفيلسوف الألماني كارل ماركس كتابه "الثامن عشر من برومير لويس بونابرت"، الذي حلل صعود لويس بونابرت إلى الحكم في فرنسا وفصل علاقة الفرد بالتاريخ وتضمن إحدى أشهر مقولاته وهي أن التاريخ يعيد نفسه مرتين، الأولى في شكل مأساة والثانية في شكل مهزلة.
ويمكن اقتباس ما قاله ماركس بتعديل جذري وهو أن التاريخ يعيد نفسه مرات كثيرة وفي شكل مآسٍ متعددة، والإشكال هنا هو أن التاريخ نفسه لا يُدون بعض هذه المآسي، بل ينساها أو يتناساها. اليوم نعود إلى إحداها وهي التي كان ضحاياها مسلمي إسبانيا أو مَن يعرفون بالموريسكيين.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2فلسطين في ثلاثة كتب باللغة البرتغالية.. نافذة للقارئ البرازيلي على القضية الفلسطينيةlist 2 of 2فيلم "8 أكتوبر" يهاجم الاحتجاج ضد الإبادة دعما لأجندة يمينية متطرفةend of listيقول الباحث روجر بواز في دراسة بعنوان "طرد الموريسكيين وشتاتهم: مثال على التعصب" إن "طرد آخر المسلمين من إسبانيا في بداية القرن السابع عشر كان حدثا رئيسيا ليس فقط في تاريخ العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، بل أيضا في تاريخ معاداة السامية. لقد كُتب الكثير عن طرد اليهود من إسبانيا في العام 1492 وعن معاناتهم على أيدي محاكم التفتيش، ولكن العرب الإسبان أو الموريسكيين لم يحظوا بعد بالاهتمام الذي يستحقونه".
الملوك الإسبان والتبشير بالسيف
في العقد الأول من القرن السابع عشر، حملت السفن المسلمين الإسبان في أكبر عمليات التهجير التي شهدها ذلك القرن، بعدما وُضعوا أمام خيارين، التنصير أو التهجير. ترك عشرات الآلاف وطنهم هربا من بطش الملوك الإسبان والكنيسة الكاثوليكية، فكانت دول المغرب الإسلامي ملاذهم الأخير.
تعود جذور هذه التغريبة التي غيرت الديمغرافيا السكانية والعقائدية لإسبانيا ودول المغرب الإسلامي، إلى عام 1492 حين وضع الملك فرناندو والملكة إيزابيلا معاهدة بعد سقوط غرناطة، آخر معاقل حكم المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية، تضمنت السماح للمسلمين في إسبانيا بالاحتفاظ بمساجدهم ولغتهم وعاداتهم، لكن لم تدم تلك الوعود سوى بضع سنوات، حيث انقلب الأمر بعد استبدال رئيس الأساقفة "هيماندو دي تالافيرا" المعروف باعتداله، بالكاردينال المتعصب "فرانسيسكو خيمينيث دي ثيسنيروس".
يذكر الباحث روجر بواز أن دي ثيسنيروس، وهو مستشار مقرب من الملكة إيزابيلا، قد قام "بحرق النصوص الدينية العربية، وأدت هذه الأحداث بشكل طبيعي إلى ثورة البُشارات الأولى (نسبة إلى منطقة البُشارات Alpujarra الإسبانية) بين عامي 1499 و1500، واغتيال أحد مساعدي دي ثيسنيروس، فكان ذلك ذريعة جيدة للملوك الكاثوليك لإلغاء وعودهم".
على مدى عقدين من الزمن بعد اغتيال مساعد دي ثيسنيروس، كان على المسلمين في إسبانيا الاختيار بين التنصير أو النفي، وبدأت حملات ملاحقتهم في الأندلس، تلتها حملات استهدفت مسلمي فالنسيا، وكاتالونيا، وأراغون.
إعلانكان اعتناق المسيحية الخيار الأسهل والأكثر منطقية بالنسبة لكثير من المسلمين، وهو ما جعلهم خاضعين لمحاكم التفتيش التي تأسست عام 1478، وكان هدفها الرئيس الحفاظ على العقيدة الكاثوليكية ومحاربة كل أشكال الهرطقة. ويذكر بواز أن أغلب من اعتنقوا المسيحية تخلوا عن دينهم في العلن، لكنهم واصلوا ممارسة عقيدتهم الإسلامية سرا.
لم تكن المحاولات المتكررة لإقامة دول مذهبية كاثوليكية أمرا غريبا على أوروبا، فقد انتهج هذا السبيل ملوك إيطاليا وفرنسا وألمانيا، بإيعاز من رأس الكنيسة الكاثوليكية في روما.
وقد لحقت إسبانيا بركب جيرانها، فأقرت الملكة إيزابيلا العقيدة الكاثوليكية دينا رسميا للدولة، واللغة القشتالية لغة رسمية لإسبانيا.
ومجاراة لقرارات الملكة إيزابيلا، أصدر الملك الإسباني شارل الخامس عام 1526 عدة قوانين ضد مسلمي إسبانيا، من بينها حظر استخدام اللغة العربية، وإجبارهم على تعلم اللغة الإسبانية، ومنعهم من ارتداء ملابس تختلف عما يرتديه الكاثوليك، بل ومنع الخياطين وأصحاب محلات المجوهرات من بيع أو صناعة أي منتوج مخالف للنمط الإسباني المسيحي.
يقول الباحث الشافعي درويش في دراسة بعنوان الجالية الأندلسية في تونس ودورها الحضاري "بسبب محاكم التفتيش أضحى الموريسكيون عبيدا بدون سيادة، وبدأت عمليات الاستلاب الثقافي والتغريب بعد مصادرة أملاكهم، فقد كانت عمليات التفتيش تقضي باسترداد روحي وحضاري لكافة سكان الأندلس. لقد أقرت محاكم التفتيش قطع الموريسكيين عن جذورهم وهويتهم الثقافية بالقضاء على نظامهم الاجتماعي انطلاقا من قمة الهرم أي سحق الزعماء والمتضلعين في شؤون الإسلام ومصادرة أراضيهم وممتلكاتهم وإجبارهم على مصاهرة المسيحيين من أجل دمجهم بالقوة في المجتمع الإسباني وإرغامهم على الزواج وفق العادات المسيحية ومنعهم من بيع ممتلكاتهم".
كان من الطبيعي أن تقود تلك الحملات التي استهدفت مسلمي إسبانيا إلى ثورة ثانية بين عامي 1568 و1571، عُرفت باسم ثورة البُشارات الثانية، التي أُخمدت بعد مقتل قائدها مولاي محمد بن عبو. خلال قمع ثورة البشارات الثانية، دُمرت قرية غاليرا بالكامل ورُشت بالملح، وقُتل جميع سكانها البالغ عددهم ألفين وخمسمئة نسمة، بما في ذلك النساء والأطفال. ولضمان عدم مقاومتهم، تم تشتيت عشرات الآلاف من الموريسكيين من منطقة غرناطة إلى أجزاء أخرى من إسبانيا، واستوطن المسيحيون في أراضيهم.
إعلانيقول الباحث روجر بواز "كان الصراع بين المجتمعين المسيحي والمسلم قد وصل إلى نقطة اللاعودة، وفي وقت مبكر من العام 1582 اقترح مجلس الدولة في عهد فيليب الثاني الطرد باعتباره الحل الوحيد، على الرغم من بعض المخاوف بشأن التبعات الاقتصادية التي قد تترتب على هذا الإجراء بسبب تراجع المهن الخاصة بالموريسكيين وانخفاض القوى العاملة والمهارات الزراعية التي يتمتع بها الموريسكيون". بعد صعود فيليب الثالث على العرش الإسباني بين عامي 1598 و1621، حسم قرار طرد المسلمين من البلاد وذلك بضغط من رجال الكنيسة وبعد التشاور مع جمعية الأساقفة الإسبان، وقد أمضى على المرسوم الأول بهذا المعنى في أبريل/نيسان سنة 1609 لتبدأ رحلة الشتات لقرابة مليون مسلم إسباني.
فصل الشتات المكتوب على مسلمي إسبانيا
أصبح مخطط التهجير جاهزا للتنفيذ بعد أن أجمع البلاط والكنيسة على الأمر. أعدت إسبانيا أسطول سفنها سرا وعززته بسفن تجارية أجنبية لتشارك في عملية التهجير، وكان أغلبها من إنجلترا.
وفي سبتمبر/أيلول من عام 1609، أعلنت السلطات البلدية في مملكة فالنسيا أمر الطرد، لتعقب ذلك الإعلان أول رحلة للمطرودين في شهر أكتوبر/تشرين الأول من نفس السنة، وكانت مدينة دانية هي التي أطلقت أول دفعة من الموريسكيين المهجرين نحو سواحل الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وخرجت تلك الرحلة تحت جنح الظلام.
في عام 1610، تتالت أوامر طرد الموريسكيين من مدن أخرى، في أراغون وقشتالة والأندلس وإكستريمادورا، وحُملوا على ظهور السفن متوجهين إلى وهران وتونس وتلمسان وتطوان والرباط وسلا، وقد استقبلت تونس أكثر الموريسكيين المطرودين من إسبانيا.
يصف بيدرو أثنار كاردونا، وهو أحد الشهود على عمليات الترحيل، في كتابه "الطرد المبرر للموريسكيين الإسبان" أحد مشاهد تهجير الموريسكيين قائلا "في موكب غير منظم، يختلط فيه المشاة والفرسان، يسيرون الواحد تلو الآخر، ينفجرون بالألم والدموع، محملين بأبنائهم وزوجاتهم ومرضاهم وكبار السن، مغطين بالغبار، يلهثون ويتصببون عرقا". المشهد مألوف جدا، أليس كذلك؟
إعلانتتضارب الأرقام بشأن الموريسكيين الذين لقوا حتفهم خلال رحلات تهجيرهم، لكن يذكر بيدرو أثنار كاردونا في كتابه أن أكثر من خمسين ألف موريسكي ماتوا بين أكتوبر/تشرين الأول 1609 ويوليو/تموز 1611، وذلك أثناء محاولتهم مقاومة عمليات الطرد، في حين مات أكثر من 60 ألفًا أثناء رحلاتهم برا أو بحرا.
ولم تكتف إسبانيا بتهجير الموريسكيين بل أجبرت بعضهم على ترك أطفالهم، حيث أصدر مجلس المملكة في سبتمبر/أيلول من عام 1609 قرارا بأن يُبقَى جميع الأطفال الذين تبلغ أعمارهم عشر سنوات أو أقل في إسبانيا وذلك لتلقي تعليمهم هناك على يد رجال الدين أو أشخاص من الثقات.
ويقوم هؤلاء الأطفال بخدمة من يرعونهم حتى يبلغوا سن الخامسة والعشرين أو الثلاثين مقابل الطعام واللباس، أما الموريسكيون الرضع فتقوم النساء المسيحيات بتربيتهم حتى يشتد عودهم، وتذكر المراجع التاريخية أنه تم الإبقاء على ما يقارب عشرة آلاف طفل موريسكي في إسبانيا ضمن سياسة انتزاع الأطفال المسلمين من أهلهم.
يُقدر عدد الوافدين الموريسكيين إلى تونس بحوالي 80 ألفا، وكان معظمهم في ذلك الوقت من أراغون أو من شمال قشتالة وفيهم مجموعات من فالنسيا. يقول الباحثان نزار السياري وهشام رجب في دراسة "أصل المشهد الأندلسي في شمال غرب تونس: تستور وتراثها الموريسكي": "وصل الموريسكيون إلى تونس في فترة من عدم الاستقرار السياسي الشديد، والذي تفاقم بسبب ثورات القبائل العربية في الداخل، والحروب مع إيالة الجزائر في عام 1613 و1628، والاشتباكات مع المسيحيين على الساحل المتمثلة في حرق الأسطول التونسي قبالة حلق الوادي في العام 1609، والأوبئة الكبرى طيلة سنوات بين العامين 1604-1605، و1620و1621، والعامين 1642 و1644. وتزامن وصولهم في السنوات الأخيرة من حكم عثمان داي واستمر في السنوات الأولى من حكم يوسف داي".
إعلانحين حل الموريسكيون بأرض تونس، وجدوا الترحيب من عثمان داي الذي كان في أواخر سنوات حكمه، وشجع على توطينهم في تونس وذلك بإلغاء الضريبة التي كانت تدفعها كل سفينة ترسو في الموانئ التابعة لدائرة سلطته، كما أعفى داي تونس الموريسكيين من الضرائب ومكنهم من الأسلحة والأراضي ليعمروا قرى بأكملها وعين شيخا منهم يقوم على شؤونهم ولم يُخضعهم لسلطة "القُيّاد" أي الولاة.
كان الحظ حليف الموريسكيين في تونس رغم أن نزولهم بها كان في فترة اضطرابات في الداخل والخارج، لكن عدة عوامل متشابكة جعلت كل الأزمات الداخلية تصبّ في مصلحتهم، وهي عوامل سياسية بالأساس، حيث فكر عثمان داي ومن بعده يوسف داي في الاستفادة من وجودهم لتركيز السلطة على القبائل داخل البلاد.
ويقول الباحثان نزار السياري وهشام رجب "إن الترحيب الذي أبداه دايات تونس تجاه الموريسكيين كان راجعا إلى المأساة التي عاشوها، ولكن أيضا إلى متطلب سياسي ذي وزن كبير. في الواقع، رأى حكام تونس في الموريسكيين حليفا ذا أهمية قصوى لبسط سيطرتهم على الأراضي في الداخل التي ظلت تحت نفوذ القبائل المتمردة، ليس ذلك فحسب، بل ولكن من خلال استقبالهم للموريسكيين، ضمنوا أيضا دعم الأتراك، الذين أظهروا تضامنا خاصا جدا مع قضية الموريسكيين، وبالتالي عززوا سلطتهم، وخاصة ضد دايات الجزائر".
في الواقع، لم يكن اللاجئون الجدد ورقة سياسية استفاد منها ملوك تونس في بسط نفوذهم ودعم سلطتهم فحسب، بل كانوا قوة اقتصادية كبيرة استفادوا منها أيضا، فقد جاءت الغالبية الكبرى من الموريسكيين بثروة مهمة جدا هي الحنكة والدراية في مجالات الزراعة والعمارة والحرف إضافة إلى المعرفة بالتقنيات العسكرية وأمور الإدارة المالية والسياسية.
ويذكر الباحث ميكيل دي أبالزا أن الموريسكيين أدّوا دورا كبيرا في استقرار السلطة السياسية والعسكرية في تونس وذلك بوجود مسؤولين وتجار أندلسيين في حاشية الدايات والبايات.
يقول دي أبالزا: "إن الباي حسين بن علي التركي ذا التكوين العسكري، قد وصل إلى السلطة بقوة السلاح، مثل جميع الملوك التونسيين تقريبا منذ أن استعاد الأتراك البلاد من الإسبان عام 1574. وفي بداية القرن السابع عشر، تلت التمردات المسلحة قوة سياسية مستقرة نسبيا مع عثمان داي ويوسف داي، وذلك بفضل تحالف بين هؤلاء القادة العسكريين الأقوياء وبين برجوازية تونس التي لعب فيها الموريسكيون أو الأندلسيون دورا مهما للغاية. وقد حظي هؤلاء الوافدون الجدد من إسبانيا باستقبال طيب للغاية من قبل السلطات، وساهم وجودهم بعد مرور قرن من الزمان، في تقوية الأسرة الحاكمة الجديدة".
حين وصل الموريسكيون إلى تونس، استقروا في البداية في الحاضرة والمناطق القريبة منها، لكن صنعتهم المتمثلة أساسا في الزراعة قادتهم إلى التوسع على ضفاف وادي مجردة غرب العاصمة، وهناك أسسوا قرى على أنقاض قرى قديمة مثل تستور والسلوقية وطبربة المشابهة في مناخها وتربتها لبعض المناطق الإسبانية التي عاش فيها الموريسكيون، قبل أن يتوسعوا إلى بنزرت وزغوان وسليمان، ولذلك لم يجدوا صعوبة في تعمير تلك المدن والقرى وفي تركيز حياتهم الجديدة، فاكتسبوا نفوذا اقتصاديا وسياسيا ودخلوا في نسيج السكان الأصليين وتغلغلوا في بلاط الحكم.
إعلانيلخص جان أندريه بيسونيل في كتابه، الذي هو في شكل رسائل، ويحمل عنوان "رحلات في مناطق من تونس والجزائر" -وهي رحلات أجريت بأمر من الملك في سنتي 1724 و1725- مكانة الموريسكيين في تونس بالقول: "الأندلسيون، الذين طُردوا من إسبانيا، هم الأوفر حظا في هذا البلد. لقد حافظوا على مهاراتهم في الزراعة والصناعة والتجارة، كما أن بعضهم متعلمون ويتحدثون عدة لغات، وهم يتميزون بالذكاء والنشاط، كما يتبوؤون مناصب إدارية في المدينة".
ويمثل كتاب بيسونيل، إلى جانب كتاب الأب فرانسيسكو خيمينيث، وثيقة مهمة في تصوير حياة الموريسكيين في تونس ومكانتهم الاقتصادية والسياسية في تلك الفترة، ويذكر بيسونيل أن "المدن والقرى كانت نادرة جدا في هذه المملكة قبل مجيء الأندلسيين. فمعظم المدن التي نجدها اليوم تدين بتأسيسها، أو على الأقل بإعادة إعمارها لهم، لأن السكان الأصليين أو البدو كانوا يفضلون العيش في الخيام في الريف على العيش في المدن، كما لا يزال يفعل معظمهم حتى اليوم. وقد فاقوا العرب في زراعة الأشجار، كما يتضح بسهولة في الأماكن التي يسكنونها. فتكاد ضواحي مدنهم كلها تكون مليئة بالحدائق المليئة بأشجار الفاكهة والأعشاب المزروعة، والتي تتم العناية بها جيدًا وتُحسن زراعتها".
ويضيف بيسونيل أنه بعد أن مكنهم عثمان داي من حق الاستقرار في تونس، أسسوا قرى ومدنًا لا يمكن لعربي تولي منصب فيها وأداروا حكمها من خلال مجلس العدالة الذي يقوده حاكم يُطلق عليه اسم "الشيخ"، وهو الشخص الأكثر مكانة، إضافة إلى ثلاثة محلفين وثلاثة مسؤولين آخرين، ويتم تعيين الشيخ مدى الحياة عبر التصويت من قبل جميع الموريسكيين، ثم يصادق الباي على هذا التعيين. وتتمثل مهمة الشيخ في إصدار الأوامر وإقامة العدل في القضايا المدنية والجنائية لكنه لا يستطيع الحكم بالإعدام إلا بأمر صريح من الباي، ويستفتي الشيخ مستشاريه الثلاثة أما بقية أعضاء مجلس العدالة فهم بمثابة الحراس الذين يتولون تنفيذ أوامر المجلس.
إعلان
لا يتوقف نفوذ الموريسكيين على إدارة شؤونهم في شكل حكم ذاتي فحسب، بل كانت لهم مناصب داخل قصر الباي نفسه وهو ما يذكره خيمينيث حين وصف منصب الخزندار الذي تقلده موريسكي يدعى محمود خزندار، حيث يقول "هناك خزندار سياسي ورجل دولة عظيم، يحكم حسين بن علي رعيته وفقا لنصائحه، ولا يفعل شيئًا دون موافقته. إنه ثري للغاية. بنى مدرسة لتعليم الأطفال القراءة والكتابة، مُخصصا جزءا من دخله لهذا العمل. كان للخزندار نفوذ كبير لدى الباي".
كما كانت هناك شخصية موريسكية أخرى لا تقل عن محمود خزندار، وهو الشريف قسطلي، الذي عيّنه الباي في إدارة مستشفى المارستان لمنافسة المستشفى الإسباني المسيحي، وقام الشريف قسطلي بهدم المستشفى وإعادة بنائه بأفضل صورة. كان هذا الموريسكي رجلا ثريا ويعتبر ثاني أكبر مالك للعبيد بعد البايات حسب خيمينيث، ولم يقتصر دوره على التجارة بل كان وسيطا في حل الأزمات السياسية، حيث تدخل في المفاوضات مع الفرنسيين الذين أرسلوا أسطولا بحريا إلى سواحل تونس، وكان وسيطا أيضا بين الباي وقادة متمردين داخل البلاد.
وحسب الباحث ميكيل إيبالزا، فإن الشريف قسطلي قد يكون له دور عسكري في المملكة التونسية، حيث كان مقربا من عديد من القيادات وحظي بحماية الباي الذي آواه في مكان آمن في قصر باردو خلال فترة الاضطرابات عام 1729.
ويضيف إيبالزا في حديثه عن محمود خزندار والشريف قسطلي "هاتان الشخصيتان الأندلسيتان العظيمتان لهما أهمية كبيرة. يمارسان عدة وظائف في الدولة وهي وظائف ذات طبيعة إدارية ومالية. ومن ناحية أخرى، نرى أن هذه المكانة لا تعتمد على المنصب الذي يشغلانه، بل على المكانة الاجتماعية التي ينتميان إليها، فقد كانا من التجار البرجوازيين الأندلسيين".
المعمرون الجدد.. فقهاء الزراعة وأرباب الصناعةحين قدم الموريسكيون إلى تونس، لم يحملوا معهم دفاتر شتاتهم وذكريات ما تركوا وراءهم فحسب، بل بدؤوا في تعمير مستقرهم الجديد حتى لا يستوحشوا الغربة، وسكبوا كل معارفهم في الزراعة في أراضي الشمال حتى أصبحت بمثابة الجنان.
إعلانويقول ابن أبي دينار في كتاب "المؤنس في أخبار إفريقية وتونس": "فعمرت بهم البلاد واستوطنوا في عدة أماكن، ومن بلدانهم المشهورة سليمان وبلي ونيانو وقرمبالية وتركي والجدّيدة وزغوان وطبرية وقريش الواد ومجاز الباب والسلوقية وتستور وهي من أعظم بلدانهم وأحضرِها، والعالية والقلعة وغار الملح وغيرها. بحيث تكون عدتها أزيد من عشرين بلدا، فصار لهم مدن عظيمة، وغرسوا الكروم والزيتون والبساتين ومهدوا الطرق بالكراريط للمسافرين وصاروا يعدون من أهل البلاد".
كان للموريسكيين دور كبير في إعمار مناطق كثيرة في تونس وإحيائها، فقد أدخلوا عليها غراسات جديدة مثل الرمان وتوسعوا في غرس الزياتين وجعلوا من أراضي ضفاف وادي مجردة مناطق سقوية بفضل مهاراتهم في تقنيات الري.
وتصف دراسة "نظام الري الموريسكي القديم في تستور: خبرة الأجداد" لنزار السياري ومحمد موسى وهشام رجب، تقنيات الري في مدينة تستور أكبر المدن الموريسكية في تونس، التي لا تزال آثارها موجودة إلى الآن، وتقول الدراسة: "تكمن أصالة نظام الري بالآبار السطحية في أن أغلبها آبار قديمة كانت مجهزة بنواعير، مع بعض الاستثناءات، حيث كان نظام الضخ القديم هو الدلو. إن المواد وتقنيات بناء أروقة الآبار المسدودة هي نفسها تقريبًا تلك التي نجدها في العمارة المغربية للمدينة والتي يمكن اعتبارها دليلًا على أن بناء هذه الآبار، على الأقل الأقدم منها، يعود تاريخه إلى وقت بناء المدينة. يتم ضخ الماء عن طريق قناة التدفق أو أنبوب التوصيل، حيث تدور المياه التي يتم تصريفها في حوض صغير عبر قناة صغيرة لتصل إلى حوض التجميع الكبير. يتم ضمان توزيع المياه إلى مختلف الساحات المزروعة من خلال قناة محفورة على طول قطعة الأرض".
أوجد الموريسكيون مشهدا طبيعيا جديدا وثوريا، وذلك من خلال تنظيم العمل الجماعي وتسوية التربة وتخطيط قطع الأراضي داخل البساتين واستعمال تقنيات جديدة في ري الأرض، كما استجلبوا أنواعا جديدة من النباتات، وتمثل مدينة تستور شاهدا صادقا على أسلوب الحياة الريفية التي جلبها الموريسكيون حين استوطنوا تلك الأرض، حتى أصبحت شبيهة بالحياة الريفية في القرى الإسبانية.
إعلانكما حفر الموريسكيون في تونس ذاكرتهم في تصاميم مدنهم وجوامعهم وبيوتهم، حتى أصبحت أشبه بعمارة إسبانيا، ويضرب الباحثان نزار السياري وهشام رجب في دراسة "أصل المشهد الأندلسي في شمال غرب تونس: تستور وتراثها الموريسكي" مثلا بمدينة تستور التي تبعد قرابة ثمانين كيلومترا عن العاصمة، والتي صممت على الطراز الإسباني ويقولان: "إن المشهد الحضري، المصمم والمعيش من خلال الممارسات، يشهد على التعلق والحنين للمجتمع الموريسكي بأصوله الإيبيرية ورغبته في الحفاظ على نفسه كمجتمع موحد ومتضامن".
وأكثر ما يلفت الاهتمام في الطابع المعماري الموريسكي هو تصميم مآذن المساجد، حيث يتم تزيينها بزخارف من الفن الإسباني كما في أراغون وقشتالة، مما يذكّر بالكنائس والكاتدرائيات المسيحية، وهو "يشكل ظاهرة فريدة من نوعها، تشهد على رغبة البناة في تقليد الزخارف المعمارية والزخرفية الإسبانية".
لم تقتصر حياة الموريسكيين في تونس على الزراعة والعمارة فقط، بل مارسوا التجارة وكانت مبادلاتهم التجارية مع اليهود والإيطاليين والأتراك، واقتنوا القوارب من القراصنة وامتلكوها، كما امتهنوا تجارة الجلود والمنسوجات واستوردوا الحرير والخزف، وركزوا دكاكين صناعة الطربوش المعروف بالشاشية في الحاضرة والمدن التي تجاورها، وأصبحوا من أهل البلد قلبا وقالبا، حتى إن أحلامهم بالعودة تلاشت، وبقيت ذكرياتهم تمر على ما بقي من جدران عمارتهم، تستذكر ما جاد به لسان الدين بن الخطيب:
"يا زمان الوصل بالأندلس، لم يكن وصلك إلا حلما، في الكرى أو خلسة المختلس".