لجريدة عمان:
2025-05-17@17:48:02 GMT

التداخل بين المعارف والتخصصات العلمية -2

تاريخ النشر: 27th, August 2024 GMT

انتهيت في مقالي السابق إلى التأكيد على تداخل المعرفة والتخصصات العلمية الذي تفتقر إليه جامعاتنا، رغم أنه بات أمرًا مستقرًا في الجامعات المتقدمة منذ عقود طويلة. والحقيقة أن هذا التداخل لم تفرضه فحسب الحاجة والضرورة التي ترتبت على مخاطر تطبيقات العلوم، وهو ما استدعى النظر إليها من خلال البعد الأخلاقي والإنساني، كما في أخلاقيات البيئة وأخلاقيات التكنولوجيا، وما إلى ذلك.

بل يمكننا القول أيضًا إن هذا التداخل قد أصبح متأصلًا على عمق أبعد من ذلك منذ ما يزيد كثيرًا على نصف قرن من الزمان، أعني أنه أصبح متأصلًا في رؤية العلم والمعرفة ذاتها، حتى فيما يتعلق بالعلوم الدقيقة كالفيزياء والرياضيات: فلم تعد الفيزياء هي الفيزيقا أو علم الطبيعة الذي يمكن البحث فيه بشكل مستقل عن الرياضيات، وقد آل ذلك إلى علم الفيزياء الرياضية. ولكن الرياضيات نفسها أصبحت متأصلة في علم المنطق! فنحن إذا ما حفرنا حتى وصلنا إلى جذور الرياضيات ومبادئها الأولى، سنجد أنفسنا بالضرورة في مجال المنطق، وهذا ما كشف عنه برتراند رسل في كتابه الشهير «أصول الرياضيات».

وعلى هذا، فإن الخوارزميات الخاصة ببرامج الكومبيوتر تقوم بدورها على معادلات وبناءات تنتمي إلى المنطق.

وإذا كان هذا التداخل يحدث فيما بين العلوم الدقيقة، فإنه يحدث أيضًا فيما بين هذه العلوم من ناحية والعلوم الإنسانية من ناحية أخرى. وقد نوهت في المقال السابق إلى ما هنالك من صلات بين العلوم الطبيعية عمومًا والعلوم الإنسانية، على نحو ما نجد فيما يُعرَف «بأنسنة الطب» على سبيل المثال، أي في الأبعاد الاجتماعية والإنسانية والبيئية التي تدخل في دراسة الأمراض والظواهر المتعلقة بصحة البدن (فما بالك بالصحة النفسية)، فمثل هذه الظواهر لا يمكن دراستها كما لو كانت ظواهر فيزيائية أو عضوية خالصة!

إن استبعاد الإنسان (أو البعد الإنساني) من مجال دراسة الظواهر (بما في ذلك الظواهر الطبيعية) هو ما التفت إليه إدموند هوسرل- مؤسس الفينومينولوجيا أو الفلسفة الظاهراتية- باعتباره يمثل المشكلة الحقيقية للعلوم، كما كشف عن ذلك في كتابه الشهير «أزمة العلوم الأوروبية». ولكن هذه الأزمة تصبح أكثر عمقًا في مجال العلوم الإنسانية؛ لأن هذه العلوم المسماة بالعلوم الإنسانية تريد أن تستبعد الإنسان حينما تريد دراسة الظواهر الإنسانية كما لو كانت ظواهر طبيعية خالصة، بينما الظواهر الطبيعية نفسها ليست مستقلة عن الإنسان وعالمه! فيا لها من مفارقة تكشف بالفعل عن أزمة العلوم.

ومن المهم أن نلاحظ أولًا أن هوسرل كان يحذر من أزمة العلوم في الغرب أو المعرفة الحديثة كما تأسست في هذا الغرب، وهي المعرفة التي تحتذي نموذج العلم الطبيعي الذي يدرس الظواهر دراسة تجريبية ورياضية/ إحصائية بشكل مستقل عن الإنسان. ومن المهم أن نلاحظ ثانيًا أن هذا التحذير كان منذ قرابة قرن من الزمان. وبوسعنا القول إن الغرب قد تجاوز إلى حد كبير هذه الأزمة التي حذرنا منها هوسرل، بفضل تلك الدراسات المتنامية في مجال نظرية العلم والمعرفة التي استلهمت روح فلسفته وتعاليمه. أما في عالمنا العربي، فلا تزال الدراسات في مجال العلوم الإنسانية تتبع إلى حد كبير نموذج العلم والمعرفة الذي حذرنا منه هوسرل. ربما يحتاج إيضاح هذا الأمر إلى إيضاح من خلال التمثيل:

يلجأ معظم الباحثين في مجالات العلوم الإنسانية إلى نوع من الدراسة الإحصائية لظاهرة من الظواهر التي تقع في إطار تخصصهم، بالاعتماد على استمارات يسمونها الاستبيانات التي تستطلع الإجابات عن أسئلة الاستمارة أو ما يُراد قياسه؛ ثم يقوم بعد ذلك بتفريغ النتائج في صورة إحصائية، ويستخلص من كل هذا نتائج بحثه! يحدث هذا بناء على فرض هش ضعيف يحاول الباحث قياسه من دون أن تكون لديه معرفة وثيقة بماهية الظاهرة التي يبحثها. يحدث هذا- على سبيل المثال- حينما يشرع بعض الباحثين المبتدئين (بل حتى بعض الأساتذة) في تناول ظاهرة التذوق أو التفضيل الجمالي من دون الاطلاع على الكتابات الفلسفية الرصينة التي لا تحصى عن معنى الظاهرة نفسها، أعني: عن معنى الخبرة أو التذوق الجمالي، وهو معنى لا يدركه إلا الخبراء في الفن؛ وهو ما يمكن أن يمد هؤلاء الباحثين بالفروض الخصبة التي يمكن أن تتأسس عليها بحوثهم التجريبية الإحصائية.

وعلى هذا، أرى أن علاج هذه المشكلات في البحث، هو تأسيس التعليم الجامعي على أفق واسع من المعرفة، تتداخل فيه المعارف والتخصصات الجامعية، وبحيث يكون دور الفلسفة في هذا الصدد دورًا مركزيًّا في العلوم الإنسانية. وهذا يمكن أن يتحقق من خلال تفعيل «التخصصات البينية» بحساب دقيق، والتعويل على منظومة التخصص العام والتخصص الفرعي؛ بمعنى أن الباحث يمكن أن يدرس علم الاجتماع أو علم النفس كتخصص عام، ويكون تخصصه الفرعي هو الفلسفة، على أن يتم تحديد المقررات الفلسفية الملائمة في كل حالة؛ والعكس صحيح، بمعنى أن الباحث قد يمكن أن يدرس الفلسفة كتخصص عام، على أن يدرس علم النفس أو الاجتماع (أو كليهما معًا) كتخصص فرعي، وهكذا.

وعلى النحو ذاته يمكن أن ننظر إلى التعليم ما قبل الجامعي، بحيث نتجاوز تلك القسمة الثنائية التي تفصل في مرحلة التعليم الثانوي- على سبيل المثال- بين ما هو علمي وما هو أدبي (أو هكذا يطلقون التسميات الساذجة)؛ وبالتالي تكريس الانفصال بين المعارف.

ومن المدهش أن القائمين على شؤون التعليم وجودته في معظم بلداننا العربية يجردون الدراسات الإنسانية من صفة العلم ويضعونها تحت مسمى أو صفة «أدبي»، ولا يعرفون مصطلح العلوم الإنسانية وارتباطها بغيرها من العلوم، ولن أتحدث هنا عن الموسيقى التي تجمع بين الفن والرياضيات بقوة، وإنما يكفي أن نشير إلى الجغرافيا التي تتداخل في جانب منها مع العلم الطبيعي (الجغرافيا الطبيعية)، وتتدخل في جانب آخر منها مع العوم الإنسانية (الجغرافيا البشرية). غير أن ما أود التأكيد عليه في النهاية هو أن دعم مفهوم التداخل بين المعارف والتخصصات هو أحد السبل الأساسية لإصلاح التعليم في عالمنا العربي، ولكنه ليس السبيل الوحيد.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العلوم الإنسانیة یمکن أن فی مجال

إقرأ أيضاً:

ديب مايند تكشف عن AlphaEvolve.. نظام ذكاء اصطناعي لحل المسائل العلمية والرياضية

أعلنت شركة ديب مايند DeepMind، ذراع البحث والتطوير في الذكاء الاصطناعي التابعة لشركة جوجل، عن تطوير نظام جديد يدعى AlphaEvolve يهدف إلى التعامل مع مشكلات يمكن تقييم حلولها بشكل آلي، أي تلك التي تمتلك إجابات قابلة للقياس والاختبار رياضيا أو برمجيا.

وفقا لتصريحات الشركة، أظهر AlphaEvolve قدرة على تحسين بعض البنى التحتية التي تستخدمها جوجل في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بها. 

جوجل تطلق مساعدها الذكي Gemini لأجهزة التلفاز والسيارات والساعات الذكيةذكاء اصطناعي وأندرويد 16.. كل ما نتوقعه من مؤتمر جوجل Google I/O

وتعمل ديب مايند حاليا على تطوير واجهة استخدام للنظام، مع التخطيط لإطلاق برنامج وصول مبكر لفئة مختارة من الباحثين الأكاديميين قبل طرحه بشكل أوسع.

آلية تقليل الهلوسة

تعاني معظم نماذج الذكاء الاصطناعي من ظاهرة "الهلوسة"، أي تقديم معلومات غير دقيقة بثقة عالية نتيجة طبيعتها الاحتمالية، وظهرت هذه المشكلة بشكل أكبر مع النماذج الأحدث مثل o3 من OpenAI.


يحاول AlphaEvolve معالجة هذه المشكلة من خلال نظام تقييم آلي للنتائج، حيث يقوم النموذج بتوليد مجموعة من الحلول المحتملة، ثم ينتقدها ذاتيا، ليختار أفضلها بناء على دقة الإجابة، وهو نهج يعزز مصداقية المخرجات.

ورغم أن فكرة استخدام نماذج متعددة لتوليد وتقييم الحلول ليست جديدة، إلا أن ديب مايند تؤكد أن AlphaEvolve يتميز باستخدامه لنماذج "Gemini" المتطورة، مما يمنحه تفوقا على الأنظمة السابقة.

كيف يعمل AlphaEvolve؟

يعتمد AlphaEvolve على مدخلات يقدمها المستخدم، تتضمن المشكلة الأساسية وربما تعليمات أو معادلات أو مقتطفات من الشيفرة البرمجية أو مراجع ذات صلة، لكن لا بد أن يرفق المستخدم آلية محددة لتقييم الحلول تلقائيا، مثل معادلة رياضية، كي يتمكن النظام من اختبار فعالية نتائجه.

نظرا لطبيعة هذه الآلية، يمكن استخدام AlphaEvolve فقط في مجالات محددة مثل علوم الحاسوب وتحسين الأنظمة، حيث تكون المعايير قابلة للقياس بدقة.

كما أن النظام لا يقدم شرحا لفظيا، بل يكتفي بإنتاج خوارزميات لحل المشكلات، ما يجعله غير مناسب للقضايا النظرية أو الإنسانية.


لاختبار النظام، طرحت ديب مايند عليه نحو 50 مسألة رياضية متنوعة في مجالات مثل الهندسة والتوافقيات، ووفقا لها، نجح AlphaEvolve في استرجاع أفضل الحلول المعروفة بنسبة 75%، بل وابتكر حلولا محسّنة في 20% من الحالات.

أما على الصعيد العملي، فطبقت الشركة النظام على تحسين كفاءة مراكز بيانات جوجل وتسريع عمليات تدريب النماذج، وكانت النتيجة أن AlphaEvolve قدم خوارزمية تمكنت من استعادة 0.7% من موارد الحوسبة عالميا لصالح جوجل، كما ساهم في تقليل وقت تدريب نماذج "Gemini" بنسبة 1%.


ورغم أن AlphaEvolve لم يحقق اكتشافات ثورية، فإن ديب مايند ترى فيه أداة قوية لتسريع العمل وتخفيف الضغط عن الخبراء، حيث يساعدهم على التركيز على مهام أكثر تعقيدا أو إبداعا، بدلا من استهلاك الوقت في التحسينات المتكررة.

وفي إحدى التجارب، اقترح النظام تحسينا في تصميم شريحة TPU المستخدمة في الذكاء الاصطناعي، وهو التحسين ذاته الذي سبق أن اكتشفته أدوات أخرى.

طباعة شارك DeepMind جوجل نظام جديد الذكاء الاصطناعي

مقالات مشابهة

  • تنويه جوي بشأن طقس الأحد.. الأرصاد تحذر من هذه الظواهر الجوية
  • قادة أوربيون في بيان مشترك: لن نصمت أمام الكارثة الإنسانية التي تحدث أمام أعيننا في غزة
  • ماهي الأدوار المهمة التي يمكن أن يلعبها الإعلام في السودان في فترة ما بعد الحرب
  • التفاصيل الكاملة للجامعة الأهلية والتخصصات المتاحة بـ عين شمس
  • ديب مايند تكشف عن AlphaEvolve.. نظام ذكاء اصطناعي لحل المسائل العلمية والرياضية
  • العظمى فى القاهرة 37.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الجمعة 16 مايو 2025
  • وظائف بنك القاهرة.. اعرف الشروط وطريقة التقديم والتخصصات المطلوبة
  • رئيس جامعة عين شمس يفتتحا الجلسة العلمية الثانية " الذكاءالاصطناعي والتحول الرقمي
  • ورشة عمل تعرض مسار الظواهر الجوية المحتملة في موسم الحج
  • الأرصاد تكشف مفاجأة عن طقس الخميس.. وتحذر من هذه الظواهر