بقلم : فالح حسون الدراجي ..

قبل ثمانية عشر عاماً، أي في لجة الاضطرابات الامنية، وذروة الإنفعالات الطائفية الكريهة البغيضة

وايام ما سمي بـ (الفتنة الطائفية)، كتبت أغنية إنسانية نبيلة، تقطر وجعاً وشجناً وعاطفة تمزق القلب.. أغنية أفخر بروعة مضمونها وفكرتها وهدفها، وأزهو بجمال كلماتها ولحنها وأدائها.. أغنية لم يكن الإقدام على كتابتها ونشرها وغنائها وتسجيلها آنذاك امراً سهلاً بالمرة.

.

لقد كان الشاعر ( الشيعي او السني)، يخشى غضب أبناء (طائفته) إذا ما مضى إلى إنجاز نص غنائي يدعو للحب والسلام الوطني والاجتماعي، وينتصر فيه للاخوة والوطن والجمال وليس للطائفة، بينما أبناء جلدته يذبحون آنذاك كل ساعة على عتبات الطائفية.. وربما يكون أفراد أسرة الشاعر أو الفنان أقرب من غيرهم إلى انتقاده، والغضب عليه.. فالكلام عن الاخوة والشراكة في الوطن والتاريخ والمصير أمر يثير السخرية في تلك الأيام السود..

لقد كان أمام الشاعر أو الفنان الذي يقوم بإنجاز مثل هذه الأغنية خياران لا ثالث لهما، إما المشاركة في (حفلات الموت) والتحريض على قتل الآخر، أو عليه أن يصمت

وهذا أضعف الإيمان- !

لكني – ومعي زملاء لا يتجاوزون عدد الأصابع- خرجنا عن السرب ، بل وغردنا بصوت عالٍ ضد الاقتتال بين الأخوة، مستخدمين كل ما يتوفر لدينا من وسائل جمالية لإقناع الناس بفداحة الخسارة التي تلحق بالجميع نتيجة هذا الصراع الدامي، وفي نفس الوقت ننشر لوائح هول الفجيعة التي أنتجتها هذه الفتنة المجنونة، ليرى العراقيون إثم ما فعلوه بأنفسهم وببلادهم أيضاً..

ولأني (شاعر غنائي) لا يملك سلاحاً غير سلاح الكلمة، شاعر وظيفته الإبداعية والجمالية والأخلاقية والوطنية، كتابة النصوص وتوظيفها لصالح قضايا الوطن والناس والسلام بات لزاماً عليٌ المساهة بقوة في انتاج ما يسهم في تحقيق السلام وصناعة الامل..

ومادام الأمر هكذا، وسط دماء أبناء وبنات أهلي وناسي التي تملأ شوارع العاصمة والمدن الأخرى.. كما تتناثر في الشوارع العراقية جثث أخوتي العراقيين من مختلف الطوائف والأديان دون استثناء.. أصبح لزاماً علينا أن نسهم في ايقاف حمامات الدم الشنيعة بكل ما نقدر به وعليه، ويجب هنا أن نبرز شجاعتنا الوطنية والإنسانية والأدبية إن كنا شجعاناً حقاً، ونظهر أمام المشهد بوضوح تام، وليس خلف كواليسه، مهما كانت النتائج التي تنتظرنا.. وإلا فلا يحق لنا أن ندعي الوطنية والتقدمية والإنسانية..

فتناولت لحظتها القلم، وكان أمامي مشهد موجع لأحد الأصدقاء الذين فقدوا في حرب الطائفية القذرة أحد أولادهم، ولم يعد له في الدنيا غير ولد واحد.. فتخيلت هذا الصديق المفجوع وهو يقف فوق منصة عالية وسط بركة من دم ضحايا (الطرفين)، ينادي بكل ما في الأسى والفقد والخوف من وجع وألم، قائلاً بصوت مؤثر :
( ضاع من ادَيَّ ولد .. وخايف على الثاني ..

گلبي على ديرتي

و أهلي و خلاني

خايف على كل طفل ..

كل طير .. كل نبتة

و صدگني مو بس عليّ..

خايف عليك انته

و لا تظن وحدي الهدف

انته الهدف و آني

ضاع من اديَّ ولد

خايف على الثاني ..)

و رغم ضياع الولد و قسوة الجراح، وخوفه من أن يضيع الوطن ايضاً، ويفقد الأهل والأحبة، فهو يخاف على (الآخر ) وأبناء الآخر من الفقد أيضا..!

فالخسارة في فقدان ولده لا يشعر بها صديقي وحده فقط إنما هي حتماً خسارة لجميع العراقيين دون استثناء.. لذلك قلت على لسان صديقي المفجوع:

( مو آني بس اخسرت

انته اخسرت مثلي ..

چان ابني لابنك اخو

و اهلك اهل لاهلي

منين اجانه العدو

و فرق اخو عن اخو ؟!

يا وطن انته الابو

وكل ولدك اخواني ..

ضاع من اديَّ ولد

خايف على الثاني )..

وفي ختام النص صرخت بقوة مطالباً الجميع -وقد كانت الآذان صماء وقتها-

بالعودة إلى ينابيع الحب العراقي الصافية، والى أواصر الاخوة العراقية الحميمية، ونبذ نبرة الجفاء والعداء وأبجدية الفتنة الطائفية البغيضة:

حيث قلت في ذلك النص:
( حتى يظل الوطن

عالي بعلو شمسه

خلينا ننسه المضى

و نبتدي من هسه

شما فرقتنا المحن

و طشتنه ريح الفتن

يرجع يلمنه الوطن

واحد مع الثاني

ضاع من اديَّ ولد

خايف على الثاني ..)

وما أن انتهيت من كتابة النص، حتى برزت امامي مشكلة: من سيلحنه، ومن

سيغنيه، وأين سنسجله ، ومن سيعزف موسيقى الأغنية لو اردنا تسجيلها؟! وقتها فكرت بأسماء عديدة معروفة في الساحة الغنائية، لكن اغلبهم رفض، او اعتذر، وكلٌ له مبرره وعذره الذي تعكز عليه..!

وبينما أنا منشغل في هذا الأمر المتعب، اتصل بي الفنان الكبير عبد فلك، يخبرني عن مسابقة غنائية دعت اليها شبكة الإعلام العراقي لتحريك المياه الفنية الراكدة، وهي خطوة كانت وقتها جريئة وشجاعة جداً .. ولعل أفضل ما فيها أن شبكة الإعلام ستوفر كل مستلزمات تسجيل وتصوير وبث الاغاني المقبولة في المسابقة.. فكان هذا الخبر بمثابة قارب الإنقاذ، الذي جاء لينقذ مشروعنا الغنائي ..

وحين أطلعت صديقي الفنان عبد فلك على النص والفكرة، وجدته يطير من الفرح .. وهكذا قدمنا النص وتم قبوله، ثم جاء دور عبد فلك ليقدمه بصوته وألحانه ويفوز بالجائزة الثانية.. وبصراحة أقول إن أغنيتنا التي فازت بجائزة المسابقة الثانية، كانت تستحق المرتبة الاولى، ولكن فوز الفنان الجميل والصديق العزيز عدنان البريسم بالجائزة الاولى وهدف الاغنية الأساسي خفف من وطأة الأمر ..

لقد بُثت الاغنية ونجحت

في وقتها نجاحاً شعبياً رائعاً.. وهذا هو المكسب الحقيقي والجائزة الاهم..

ومما ساهم في إنجاحها – عدا اللحن والاداء الرائعين لعبد فلك- هو الإخراج، فالعمل كان من ( اخراج المبدع الكبير حسين الأسدي، الذي اجاد هو الاخر في صناعة توليفة ثقافية، فنية، أرّخت لمرحلة صعبة، و مؤلمة، زالت لكن ينبغي ان نظل نستذكرها حتى تكون عبرة لتجاوز تلك الانقسامات البغيضة).

وها أنا لم أنسَ الاغنية، فقد تذكرتها أمس حين حقق ابطال جيشنا العراقي نصراً عسكرياً استخبارياً عظيماً في صحراء الأنبار، كان النصر فذاً بحيث كسرنا به ظهر هذا التنظيم الإرهابي.. وطبعاً ما كان لهذا النصر العظيم أن يتحقق لولا بطولة جيشنا بأولوية مكافحة الإرهاب وفرسان العمليات المشتركة، وجهود رجال المخابرات العراقية الذين اشتغلوا سراً سنة كاملة على هذه المفصلية المهمة..

وايضاً بدعم واضح من مستشاري التحالف الدولي.. والأهم في ذلك هو أهل الأنبار أنفسهم.. إذ من المستحيل الحصول على مثل هذا الصيد المهم والدسم بدون دعم ومساعدة من ابناء المنطقة- أي من ابناء الأنبار- وهكذا انتصر ابني الثاني، وانتصر معه ابن أخي ( الآخر) ، إذ لم يضع جهدي، ولا ابداع الفنان عبد فلك، ولا جهود الذين ساهموا في انجاز هذه الاغنية الوطنية..

فالح حسون الدراجي

المصدر: شبكة انباء العراق

كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات عبد فلک ضاع من

إقرأ أيضاً:

الدبيبة والميليشيات.. حفتر وعقيلة إلى أين؟

ما حدث من قتل وحرب في شوارع مدينة طرابلس ما كان ليكون لولا تهاون الحكومات المتتالية على طرابلس بالتحديد وعلى ليبيا عموما شرقا وغربا، أربعة عشر عاما ويزيد من التخبط السياسي كان ولايزال أغلب المسئولين سببا مباشرا فيه مؤتمر وبرلمان لم يصنعا شيئا للوطن بل عوضا عن توحيده ووضعه على الطريق بانتخابات شاملة رسمية يقوم فيها الشعب باختيار قيادته ظل هؤلآء يقلّبوننا بين الحكومات والمجالس الإنتقالية التي لا يريدون لها أن تنتهي، طغت على عقولهم المصلحة الشخصية والطائفية (المدينة أو القبيلة) التي لن تبني دولة أبدا ولازال هؤلآء يتحفوننا وينادون بتغيير حكومة الوحدة الوطنية بحكومة أخرى انتقالية؟! يا لا العجب فليس لذلك تفسير إلى إطالة الوضع المأساوي الذي يعيشه البلد.

الخطوة التي قام بها رئيس حكومة الوحدة الوطنية (حل الميليشيات) حيث لم يبق هؤلآء لا وحدة للبلاد ولا وطن كان المفروض أن تحل المليشيات منذ البداية عن طريق الحكومات السابقة فوجودها يتعارض مع قيام الدولة، ولكن ترك من تولى الحكم في السنوات السابقة الأمر مفتوحا خوفا وطمعا خوفا مما قد يحدث من إراقة للدماء إذا أحسنّا الظن وطمعا في خيرات البلد ليتقاسم المسئولين المال مع المليشيات أما الشعب فبقى مهملا يعاني ما يعاني من نقص السيولة إلى تأخر المرتبات إلى المبيت أمام أبواب المصارف تحت وطأة المليشيات أما عن الوطن فقد بيع في سوق النجاسة حيث تنازل المسئولين عن  كل شيء في سبيل البقاء وليذهب الوطن إلى الفناء!

توالت الحكومات والنتيجة واحدة انقسام الوطن، تعميق الإنقسام الاجتماعي بتقسيم المقسّم، دعم انتشار ثقافة التعصب للمدينة أو القبيلة أو غيرها (أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب) فغاب العقل عن المسئولين وأغلب الناس، تفشي الفساد وسرقة المال العام مع معاناة الناس، توجيه الناس واشغالهم بأنشطة تافهة واختلاق مشاكل جانبية وغيرها، لن تقوم قائمة لدولة مادام رجلا مثل عقيلة صالح على رأس مجلس النواب لأنه ببساطة لا يملك القدرة على جمع الشتات غربا وشرقا ولا على جمع المؤسسات وهذا ينطبق على المؤتمر، إصرار حفتر على تولي السلطة ومحاربة وتحييد كل من يقف في طريقه بأي وسيلة والتمكين لأبنائه في خطوات يحذو فيها حدو القذافي فأصبح البرلمان برئيسه طوع أمره، في ظل كل هذا التشتت والفراغ وضعف المسئولين وجدت الدُول الأجنبية ضالتها في التدخل وفرض شروط ما أنزل الله بها من سلطان من قبيل حقوق الملونين وملف الهجرة غير الشرعية والمرأة وغيرها كثير؟

سيبقى غرب ليبيا يرزح تحت حكم الميليشيات ما لم يحل هؤلآء كليا مهما كان الثمن ويتم إدماجهم في المجتمع فالدولة لا تُبنى بالمشاعر، ولكنها تُبنى بالإخلاص والقوة والأمانة وهذا يحتاج لرئيس حكومة وطني قوي مخلص أمين ولبد لكل شيء ثمن؟ وليس الشرق بأحسن حالٍ من غربه فوجود حفتر ألغى كل شيء من مجلس النواب وعلى رأسه عقيلة صالح وأعضائه وليس القبائل باستثناء فأصبح الجميع في الشرق يسبحون باسم المشير وأبنائه فلا صوت يعلو فوق صوتهم، وما الاغتيالات والاعتقالات هناك عنا ببعيد.

يجب أن نعلم أن من على واجهة الساحة السياسية الآن لا خير فيهم للبلاد من أين يأتيهم الخير وهم عجزوا حتى عن كتابة حتّى دستور للبلاد والبلد لها دستور ما يحتاج منهم إلا لبعض التعديلات، ولكنهم اختاروا الطريق المِعْوج الطويل حتى ترسو على بر الأمان وليس أمام الشعب إلا القيام بالتغيير بنفسه للقيام بانتخابات عامة رئاسية ونيابية أو العودة للملَكيّة أو حلًّا يجنّبنا إعادة تدوير وجوه لا نريد رؤيتها.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

مقالات مشابهة

  • الاستقلال ليس يوماً ، بل مسيرة شعب…
  • وفاة الفنان موكول ديف عن عمر يناهز الـ 54 عامًا
  • الاستقلال وديعة الجيش العربي
  • في عيد الاستقلال التاسع والسبعين
  • العراق في المستوى الثاني.. قرعة كأس العرب تُسحب غداً في الدوحة
  • الخامس والعشرون من أيار
  • نفاع : الاستقلال ليس مجرد تاريخٍ يُروى
  • الوحدة.. المشروع الرياضي الجامع
  • حبيبتي .. اللعنة عليك
  • الدبيبة والميليشيات.. حفتر وعقيلة إلى أين؟