الإسرائيليون الأوائل في اليوم التالي للنكبة
تاريخ النشر: 24th, May 2025 GMT
تزييف التاريخ العام يعني بالضرورة أن التاريخ الشخصي، كذلك، إما مزيفٌ أو ممحو. سيكتشف المرء، ولو بعد حين، أن سيرته الشخصية والعائلية قد تعرضت للسطو منذ الولادة، داخل مجتمعٍ لا يستمد اتصاله بالتاريخ إلا من هذيان الخرافة وسطوة الأسطورة. سيتذكر الناس ماضيهم كما يحلو لهم، سيعلقون الصور على الجدران ليسردوا حكاياتها للأبناء، لكنهم قلما يدركون أن ذاكرتهم الانتقائية والموجهة خاضعة، بلا وعي، لرحمة التاريخ الرسمي.
أواصل في هذا المقال حديثي عن كتاب «1949.. الإسرائيليون الأوائل» للمؤرخ الإسرائيلي توم سيغف. وقد بدت لي جدلية العلاقة بين التاريخ الشخصي والتاريخ الرسمي في إسرائيل مدخلًا ضروريًا لفهم توم سيغف نفسه. ففي حواره الأخير في أبريل الماضي مع صحيفة هآرتس، بمناسبة بلوغه الثمانين، أماط سيغف اللثام عن سره الجارح، معترفًا بأنه اكتشف بعد عقود كذبة أمه التي أوهمته بأنه «يتيم حرب»، كذبة تواطأ معها الجميع حتى تُدرج الأم ضمن قائمة «أرامل الشهداء» اللواتي يتلقين مخصصات ثابتة من الدولة. لقد صدَّق المؤرخ الرواية البطولية بلسان أمه التي أخبرته بأن والده قُتل في «معارك الاستقلال» سنة 1948 برصاص قنَّاص عربي، فكانت صدمة حياته حينما اكتشف متأخرًا بأنه والده مات في حادث سقوط من إحدى البنايات. لقد تركته الصدمة يتساءل: «كيف أعيش الآن بهذه القصة؟ أين أضع نفسي بين الأيتام الحقيقيين»؟
سعي سيغف لإعادة النظر في التاريخ الإسرائيلي، منذ اليوم التالي للنكبة، لا ينفصل عن رغبته في تصحيح تاريخه الشخصي المشوش. سره الذي كشف عنه لهآرتس يعكس، أيضًا، حقيقة مواربة عن الكيفية التي يتحول معها الكذب إلى سلوك متبادل بين الدولة والأفراد؛ فالكذبة التي تصدرها الدولة للفرد سرعان ما يعاد إنتاجها في كذبة جديدة يُقنع بها الأخير مؤسسات الدولة من أجل الحصول على مصلحة شخصية، خاصة خلال سنوات الهجرة الأولى التي يرى سيغف في كتابه بأنها «اقترنت بأعمال فساد كثيرة».
بصورة عامة، كانت فكرة التضحية تحظى باحترام كبير لدى الإسرائيليين الأوائل، ولاسيما اليهود الغربيين منهم، والذين اعتبروا أنفسهم العنصر الجوهري المؤسس للصهيونية. ولكن، في ذات الوقت، برزت التضحية كورقة ابتزاز ومزايدة للفوز بغنائم أكبر. وبالطبع، كان الالتحاق بالجيش مدخلاً للغنيمة في تلك الوليمة التي استُبيحت فيها أملاك العرب باسم قانون «أملاك الغائبين» الذي سنته وزارة العدل بعد ستة أشهر من النكبة.
يحكي توم سيغف في فصل يخصصه عن «توزيع الغنائم» كيف كان النهب الجماعي واسعًا ومنفلتًا إلى درجة أدهشت بن غوريون نفسه، والذي قال في جلسة للحكومة إن «المفاجأة الوحيدة التي واجهتني، وهي مفاجأة مرة، كانت اكتشاف عيوب خُلُقية في داخلنا»، في تعليقه على حوادث النهب التي انخرط فيها جميع الييشوف. فقد بدت تلك الأيام مثالية لطغيان روح الأنانية بين جميع مكونات اليهود، على نحو مخزٍ ومرعب لليهود أنفسهم.
توافق الجميع على أن من يستبق غرفة فيفرش سريرًا عليها فإنها ستصبح من أملاكه. في حين نشِطت تجارة الأثاث المسروق، بينما حاولت حكومة بن غوريون أن تتدارك الفوضى بوضع يدها على «أملاك الغائبين»، إلا أن قضية بيع الأثاث كانت من أكثر القضايا صعوبة وتعقيدًا. بيعَ الأثاث على مجموعة من المشترين وفقًا للترتيب الأولوي التالي: عائلات مشوهي الحرب، عائلات الجنود، موظفو الحكومة الذين نُقلوا من القدس، مواطنون أصيبوا في الحرب، وأخيرًا المواطنون العاديون (ص88). أما أملاك الوقف الإسلامي فقد جُمدت هي أيضًا باسم أملاك الغائبين: «لأن أملاك الوقف، بحسب الشرع الإسلامي، هي ملك لله: «الله أصبح غائبًا!». وهنا يشير سيغف إلى قصيدة احتجاجية للشاعر الفلسطيني راشد حسين يقول في: «الله أصبح غائبًا يا سيدي/ صادر إذن حتى بساط المسجدِ».
في ذلك الخضم كانت حركة الهجرة مستمرة، خاصة بعد يوليو 1950 حين سُن «قانون العودة» الذي يمنح كل يهودي الحق الطبيعي في أن يصبح مواطنًا بين مواطني إسرائيل. أما بالنسبة لهجرة اليهود العرب إلى إسرائيل فقد اعتبرتها الصحافة العبرية في حينها شكلا من أشكال تبادل السكان والأملاك: «هؤلاء خرجوا وأولئك جاؤوا، وهم جميعهم تركوا ما كان لهم في أماكنه». ويشير سيغف إلى الحراك الدبلوماسي المكثف الذي لعبه ممثلو إسرائيل في العواصم الأوروبية في سبيل تعزيز الهجرة، وبأدوار مختلفة، تارةً دبلوماسيين، وأحيانًا كوكلاء سفر، أو حتى كتجار. أما المنظمة الصهيونية فقد أغدقت الأموال والرشاوي في لقاء تسهيل خروج اليهود من أوروبا الشرقية (ص113).
وفي اللحظة التي أعلنت فيها الإحصاءات أن تعداد السكان قد بلغ المليون لم يتمالك الشاعر ناتان ألترمن دموعه، وهلل قائلاً: «عندما تحدق وعيناك مغرورقتان/ تنهمر الدمعة. ما الأمر؟ لقد قلنا دائمًا إن الإحصاءات ليست دائمًا أمرًا جافًا». كانت معدلات الهجرة هاجس بن غوريون الذي اعتبر هجرة اليهود في مقدمة شروط الأمن القومي والوجودي الإسرائيلي وسط المحيط العربي المعادي، فما الذي تفعله إسرائيل بأراضٍ عربية جديدة ستحتلها إن لم يكن هناك من سيستوطنها من اليهود؟!
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
محافظ المنيا يوقّع بروتوكول تعاون مع البنك الزراعي المصري لتمويل منتفعي أراضي أملاك الدولة
قام اللواء عماد كدواني، محافظ المنيا، اليوم الخميس، بتوقيع بروتوكول تعاون مشترك مع البنك الزراعي المصري، بحضور محمد أبو السعود، الرئيس التنفيذي للبنك، بهدف تمويل المنتفعين والمزارعين والمستثمرين الزراعيين الحاصلين على أراضٍ من أملاك الدولة، في خطوة داعمة لجهود الدولة نحو تحقيق الأمن الغذائي وتعزيز المجتمعات الزراعية الجديدة، تنفيذًا لتوجيهات فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي، رئيس الجمهورية.
شهد مراسم التوقيع كل من الدكتور محمد أبو زيد نائب المحافظ، واللواء أركان حرب أحمد جميل السكرتير العام المساعد، إلى جانب عدد من قيادات البنك الزراعي المصري، من بينهم سامي عبد الصادق وغادة مصطفى نائبا الرئيس التنفيذي، وفتحي هلال رئيس قطاع البنك بمحافظة المنيا، وذلك بمقر ديوان عام المحافظة، وبمشاركة قيادات تنفيذية وزراعية.
وينص البروتوكول على تقديم حزمة من التمويلات المتنوعة للمنتفعين من أراضي أملاك الدولة، سواء بغرض التمليك أو تقنين الأوضاع، بما يسهم في دمجهم في المنظومة الرسمية وتسريع معدلات التنمية الزراعية، وتحصيل مستحقات الدولة من خلال آليات تمويل ميسّرة ومنظمة، وفقًا للسياسات الائتمانية المعتمدة لدى البنك.
وأكد المحافظ أن البروتوكول يمثل خطوة مهمة في مسار دعم صغار المزارعين والمستثمرين الجادين، وفتح آفاق جديدة أمام الشباب، وتحقيق التنمية الريفية المتكاملة، من خلال تعزيز مشروعات الإنتاج الزراعي ودعم الصناعات المرتبطة به.
من جانبه، أوضح محمد أبو السعود، أن البروتوكول يتيح تقديم تمويلات قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل لشراء مستلزمات الإنتاج، والآلات والمعدات الزراعية، وحفر الآبار، وإنشاء شبكات الري الحديث، بما يعزز الكفاءة الإنتاجية ويحافظ على الموارد الطبيعية، مشيرًا إلى أن الدعم يشمل الحاصلين على عقود تقنين وأصحاب المشروعات الصغيرة والمستأجرين من الدولة.
وفي ختام اللقاء، ناشد المحافظ المواطنين والمزارعين التعاون مع البنك الزراعي المصري لإنجاح هذه المبادرة، التي تمثل انفرادًا لمحافظة المنيا في الوقوف بجانب المزارعين، مؤكدًا أن نجاح المنظومة يتطلب تضافر جهود الدولة والبنك والمزارع لتقليل التكاليف والمخاطر وتعظيم العائد التنموي.