شهد العالم خلال العقود الأخيرة تحولات هائلة على مستوى التحوُّل الرقمي؛ نتيجة للتطورات المتسارعة للتقنيات الحديثة خاصة تطبيقات الذكاء الاصطناعي وبرامجه المتعددة. ولقد تبع ذلك انفتاح المجالات التنافسية بين المجتمعات في العالم للاستثمار التقني خاصة في قطاعات التعليم والتعلُّم والبحث العلمي؛ إذ استُخدمت التقنيات الحديثة في تطوير التعليم والمعارف، وتنمية المهارات التربوية، بل في إعادة تشكيل الفلسفة التربوية للمنظومة التعليمية، وتطوير آفاقها.
ولهذا فإن المجتمعات بدأت في دراسة تلك التحولات التقنية، وأثرها على التعليم، وقدرتها على إحداث تغيُّرات على البيئة التعليمية، وتحسين جودة التعليم، وتقديم رؤى يمكن من خلالها الإسهام في الاستفادة من الثورة الرقمية، والتطورات التقنية في تطوير أساليب التدريس وطرائق التعلُّم، وترسيخ مفاهيم جديدة لفلسفة التعليم، وإدماجه في مجتمع المعرفة الذي يُعد أساسا للمجتمعات الحديثة؛ لذا فإن العلاقة بين التقنيات والتعليم ضرورة حضارية تقود إلى مستقبل تعليمي منفتح على متغيرات العصر.
إن التحولات التي تنشدها المجتمعات الحديثة تبدأ من المنظومة التعليمية؛ فهي الأساس الذي يمكِّنها من تهيئة الموارد البشرية وتنميتها من خلال توفير بيئات تعليمية ذكية قائمة على الإبداع والابتكار، ومعدة فكريا ونفسيا لإحداث تطوُّرات في أنماط التفكير وحوافز التعلُّم، وتنمية المهارات الحياتية والمهنية، التي تدعم عمليات التعلُّم وتفتح أمام المتعلمين فرص التطوير الذاتي، والإتقان المعرفي، وتحسين التواصل، والتفاعل والمشاركة مع الآخر .
لقد عملت الدول على الاستفادة من الثورة التقنية والبرامج الرقمية من خلال برامج (التعليم عن بُعد)، أو (التعليم الإلكتروني)، وأفادت من تلك البرامج والتطبيقات التي تدعم العملية التعليمية، وتُسهم في تطويرها وتفتح أمام المتعلمين فرص التعلُّم، سواء ضمن برامج اليوم التعليمي أو حتى في حالات الإغلاق التي يمكن أن تحدث خلال الأنواء المناخية أو الكوارث الصحية. ولذلك فإن عُمان واحدة من تلك الدول التي عملت على تطوير منظومتها التعليمية؛ بُغية مواكبة تلك المتغيرات في التقنيات الحديثة، وتقديم تعليم متعدد الوسائط، للوصول إلى ما يُسمى بـ (التعلُّم الرقمي).
ولعل تدشين (مشروع رقمنة المناهج الدراسية للصفوف (1-12)) مؤخرا من قِبل وزارة التربية والتعليم بالتعاون مع شركة بي. بي. عُمان واحد من تلك الجهود التي تعزِّز التحوُّل الرقمي في المنظومة التعليمية، وتوفِّر البيئة الذكية التفاعلية، القادرة على إرساء مفاهيم التعلُّم الإلكتروني، والتعليم عن بُعد وفق فضاءات إلكترونية تُسهم في تجويد التعليم، وتحسين طرائقهن وتسهيل الاستفادة من أدواته.
إن مشروع رقمنة المناهج الدراسية لا يوفِّر المواد التعليمية وحسب، بل يؤسِّس لبيئة تعليمية افتراضية قادرة على تشكيل آفاق جديدة للتعليم؛ فالتعلُّم عن بُعد لا يمكن إنجاحه سوى بتوفير محتوى رقمي متجاوز للمكان التعليمي (المدارس) إلى أمكنة افتراضية تعزِّز التعلُّم الذاتي، وتحفِّز المتعلمين إلى الاكتشاف، والاستقلالية، وبناء تجارب جديدة مع المحتوى، وتوسيع مداركه وآفاقه عبر التفاعل والتشارك؛ لما تُسهم به الرقمنة من إنتاج أدوات وموارد تعليمية أكثر جاذبية وتشويقا في العملية التعليمية.
يقدِّم مشروع رقمنة المناهج الدراسية نهجا تعليميا يتيح للمتعلمين نقل المعرفة، وينمي لديهم مهارات المستقبل القائمة على الإبداع والتفكير الناقد؛ ولهذا فإن المشروع في مراحله الست يُعد نقلة مهمة في مسيرة التعليم في عُمان. والأمر هنا لا يتعلَّق بالمنهاج باعتباره محتوى بقدر ما يتجه نحو تأسيس بيئة تعليمية إلكترونية تيسِّر الوصول إلى المعارف، وتقدِّم أنماطا جديدة من التعلُّم القائم على التقنيات الحديثة؛ فالمحتويات التي يوفِّرها موقع المشروع - سواء المحتوى الرقمي للمناهج في المراحل التعليمية المتعددة، أو المحتويات التعليمية، أو المستودع الرقمي، وأنشطة المعلمين - توفِّر نمطا من التعليم الرقمي المباشر، وغير المباشر.
إن المناهج الرقمية هنا تقدِّم التعليم الرقمي المباشر عبر مضامين التعليم وأنشطته وفق معطيات العملية التعليمية، وتحت الإشراف المباشر من المعلمين، إضافة إلى أنماط التعليم التي تدمج بين التعليم الإلكتروني، والواقع التعليمي في البيئة التعليمية، وتوظيف آليات التواصل الحديثة القائمة على التحوُّل التعليمي المعتمد على تقنيات التعليم الحديثة، والمحتوى الرقمي الذي يُحدث تحولات أساسية في منصات التعلُّم الرقمي، ويفتح فرص التعلُّم الشامل.
والمعروف أن المحتوى الرقمي لا يتأسَّس على التحوُّل في المناهج الرقمية وحسب، بل يشمل المنصات التعليمية التكنولوجية، والوسائط التعليمية الرقمية، والأدوات التعليمية الرقمية المتنوعة، والألعاب التعليمية، وأدوات الدعم ؛ فعلى الرغم من أن مشروع رقمنة المناهج الدراسية يحوي المناهج الدراسية في كافة المراحل إلاَّ أنه يحتاج إلى توسعة في الأنشطة، والإمكانات التعليمية، والأدوات والأنماط التعليمية التي تعزِّز العملية التعلمية، وتُحسِّن التفاعل والتواصل بين المتعلمين.
فتوفير بيئة تعليمية افتراضية للمحتوى الرقمي يعتمد على خواص تشعبية ذات مميزات تفاعلية مرنة تضفي جوا من الإمتاع في التعلُّم، وتقدِّم تغذية راجعة للمتعلِّمين، وتُسهم في إثرائهم المعرفي بما يعزِّز المحتوى الدراسي، ويدعم آفاق التعلُّم القائم على الإبداع، والابتكار، والنقد. إن هذه البيئة التعليمية الافتراضية تؤمِّن آفاق المعرفة للمتعلمين خاصة في مراحل التعليم الأساسي، وتضمن توجيه الروابط الإثرائية ضمن حدود القيم المجتمعية، والمفاهيم المعرفية التي يُراد إيصالها لهم، وبالتالي فإن ضمان إيجاد هذه المنظومة التعليمية الافتراضية يدعم تحقيق الأهداف التربوية المنشودة.
لقد وفَّر مشروع رقمنة المناهج الدراسية محتوى إلكترونيا مهما يمكن أن يمثِّل أساسا للمحتوى الرقمي التفاعلي في المراحل المقبلة بحيث يكون بيئة رقمية افتراضية جاذبة للطلاب من خلال الأدوات التي يمكن أن يوفِّرها. لهذا؛ فإن سرعة تبنيه في مدارس المحافظات سيقدِّم نقلة نوعية في التعليم على المدى الطويل خاصة إذا ما تم دعمه، وتبني تطويره، وتفعيله أثناء تنفيذ الدروس اليومية. إلاَّ أن نجاح ذلك مقرون بأهمية تعزيز شبكات الإنترنت في المحافظات خاصة في الأماكن البعيدة التي ما زالت تعاني من تحديات ضعف تلك الشبكات، وبالتالي عدم قدرتها على تنفيذ الكثير من الأدوات التعليمية الإلكترونية، الأمر الذي لا ينعكس على كفاءة التعليم وحسب، بل على عدالة إيصاله للمتعلمين كافة على قدم المساواة.
إن مفاهيم التعليم الرقمي بأشكاله تعتمد على المحتوى الرقمي التفاعلي المواكب للتطورات من ناحية، والبنية الأساسية التقنية القادرة على تلبية الاحتياجات من ناحية أخرى. ولا تكتمل هذه المنظومة سوى بالتكامل والتعاون والدعم الذي يمكن من خلاله تعظيم قيمة التطورات الرقمية، ورقمنة المناهج الدراسية، وبالتالي تحقيق الأهداف الوطنية للتعليم التي ستنعكس بالضرورة على كافة القطاعات التنموية.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المحتوى الرقمی م الرقمی من خلال التی ی الذی ی
إقرأ أيضاً:
3.5 مليون جنيه لسداد المصروفات الدراسية لطلاب جامعة جنوب الوادي الأكثر احتياجا
قامت وزارة التضامن الاجتماعي بسداد المصروفات الدراسية لعدد من طلاب جامعة جنوب الوادي من الفئات الأكثر احتياجًا، بلغ إجمالي الدعم المقدم ما يتجاوز ثلاثة ملايين ونصف جنيه، في إطار تعاون مثمر يهدف إلى تعزيز مبدأ تكافؤ الفرص وتقديم الحماية الاجتماعية.
يأتي هذا الدعم تحت رعاية الدكتورة مايا مرسي، وزيرة التضامن الاجتماعي، والدكتور أحمد عكاوي، رئيس جامعة جنوب الوادي، وبإشراف الدكتور محمد العقبي، مساعد وزيرة التضامن الاجتماعي للاتصال الاستراتيجي والإعلام.
شمل الدعم الطلاب المتعثرين ماديًا، وذوي الإعاقة، وأبناء أسر برنامج "تكافل وكرامة"، بالإضافة إلى عدد من الخريجين المتعثرين، والذين تم حصرهم مسبقًا من قبل الجامعة.
أكدت وحدة التضامن الاجتماعي بالجامعة وصول المبلغ المخصص لسداد المصروفات لهذا العام، داعية الطلاب المستحقين إلى استكمال الإجراءات اللازمة.
توجهت الجامعة ووحدة التضامن الاجتماعي بخالص الشكر والتقدير لوزيرة التضامن الاجتماعي وإدارة مشروع وحدات التضامن الاجتماعي بالجامعات المصرية، على جهودهم المتواصلة في دعم وتمكين طلاب الجامعات المصرية وحرصهم الدائم على تعزيز الحماية الاجتماعية داخل مؤسسات التعليم العالي.
تطوير البنية التحتية بجامعة جنوب الواديفي سياق منفصل، وفي إطار مشروعات تطوير ورفع كفاءة البنية التحتية والصيانة وتمهيد الطرق، تفقد الدكتور أحمد عكاوي، رئيس جامعة جنوب الوادي، موقع طريق امتداد مبنى رئاسة الجامعة حتى كلية الطب، وكذلك الموقع الواقع بين كلية الطب والقرية الأولمبية.
أكد رئيس الجامعة خلال الجولة التفقدية على ضرورة الاستفادة المثلى من جميع المساحات والطرق داخل الجامعة، وأهمية رفع كفاءة هذه الطرق والاستفادة من البنية التحتية القائمة. ووجه بعمل أرصفة للمشاة وأماكن خدمية لمنسوبي الجامعة، مع مراعاة البعد الجمالي والبيئي والحضاري، مشيرًا إلى أن وجود بيئة تعليمية جاذبة يُعد من أساسيات جودة التعليم.
شهد الجولة التفقدية المهندس محمد كامل مدير عام الإدارة الهندسية، وعمرو فتحي مدير عام العلاقات العامة والإعلام، وسماح مصطفى وعادل عيد مهندسي الإدارة الهندسية بالجامعة.