ندوة العطر في الأدب العماني تعكس استخدامات متنوعة للعطور بين السطور
تاريخ النشر: 25th, September 2024 GMT
تتابعت لليوم التالي على التوالي فعاليات "العطر في عمان" الذي ينظمه النادي الثقافي، بحضور لفيف من الشعراء والأدباء والفنانين والخبراء في العطر العماني.
وفي الندوة الثانية التي أقيمت في مقر النادي الثقافي وحملت عنوان: "العطر في الأدب العماني" وأدارتها الإعلامية سندس البادرية، تناولت الدكتورة فاطمة الشيدية في ورقتها الشعر كعنصر في ظل زمن الرقمنة والعزلة، يعيدنا إلى جوهر الإنسانية، مبينة أن الشعر هو العطر الذي يحيي توهج الروح، وتضيف: "في زمن يميل فيه الشعر إلى الجفاف، يظل العطر هو الجسر الذي يربطنا بمشاعرنا الأعمق".
وأوضح محمد الشحري في ورقته حول العطور في الرواية العمانية، أنها تمثل أكثر من مجرد عنصر جمالي؛ فهي تعكس تفاعل الرواية مع بيئتها الثقافية، والعطور في الروايات العمانية تعبر عن مناسبات اجتماعية ومكانة الشخصيات، وأحيانا تكون رمزا للذكريات أو الحنين، مؤكدا أن العطور ليست مجرد جزء من الثقافة العمانية، بل تمتد إلى الأدب حيث تظهر بقوة في النصوص السردية، وخاصة في الرواية والشعر العماني.
ويستشهد الشحري برواية "فراشات الروحاني" للكاتب محمود الرحبي، حيث يبرز العطر كوسيلة للتعبير عن أناقة الشخصيات وإغواء النساء، مضيفا طبقات جديدة من المعاني إلى السرد، كما يلفت الانتباه إلى رواية "تغريبة القافر" للكاتب زهران القاسمي، حيث يرمز العطر إلى الذاكرة والحنين وفي هذه الرواية، تسترجع الشخصيات مشاعرها وذكرياتها من خلال روائح الآس والعود، مما يعزز الأبعاد النفسية للسرد. وفي روايته "موشكا"، يقدم العطر كوسيلة علاجية وأداة للخداع في البلاط الفرعوني، مما يبرز قوة العطر في السرد الأدبي وتحوله إلى رمز متعدد الوظائف والمعاني.
وتناول يونس البوسعيدي في ورقته التي حملت عنوان " صورة العطر في مدونة الأدب العُماني القديم" الشعر العماني قبل عام 1970، مركزا على استخدام مفردة "العطر" في العديد من القصائد ويوضح أن العطر في تلك الفترة غالبا ما كان يظهر في سياقات غزلية أو مدائحية أو رثائية، مشيرا إلى أن الشعراء العمانيين كانوا نادرا ما يتطرقون للعطر في سياقات مرتبطة بالحدائق، على عكس الشعر الأندلسي.
ويضيف البوسعيدي أن الشاعر العماني كان يستلهم من بيئته الطبيعية وروائح الأزهار التي كانت جزءا من وجدانه، كما أن هذه الروائح كانت تفوح بعطورها في قصائد الشعراء، مما يعكس ارتباط الإنسان ببيئته ويضيف عمقا روحانيا إلى النص الشعري.
ويتابع بأن الأدب العماني القديم شعره ونثره ذكر العطر بكل مفرداته الموحية إليه، وبالعديد من العطور التي تعطرت بها تلك المدونة، واختلف إيراد العطر ونفحاته باختلاف المواضع، فجاء هدية للمدوح يزجى في مدونات المدح والإخوانيات، وجاء تغزلا بعطر المحبوبة، وتشوقا إليها تسوقه رياح النسيم والصبا وغيرها في الصد والهجران والغربة، أو تذكرا لخصال المتوفي في مدونات الرثاء، ومع غالبية الصورة الإيجابية العطرة للعطر، إلا أنه جاء بصورة شبيهة بعطر منشم كذلك، أي بالصورة السلبية، فنجد العطر في مقام الوعظ، كالتذكير بعطر الكافور في الأكفان، وجاء في مقام الذم الذي يدل على الفعل الخبيث، وجاء العطر كذلك بصورته الدهنية دواء للمريض في المدونة الطبية العمانية، وتنوعت هذه المدونة الأدبية بين الشعر والنثر، وتنوعت مدونة النثر بين الرسائل والمقامات الأدبية، والخطب، أو النصوص الفقهية التي استقصاها الباحث من باب تقصي صورة العطر في عموم مدونة النثر الأدبي العماني.
متتبعا العطر بألفاظه الدالة عليه، كألفاظ الروائح كالرائحة، الشذا، والضوع، والنشر، والنفح، والفوح الأريج، والريا، والعبق، وغيرها، وبالأفعال الموحية له مثل يتعطر، يتضمخ، يدهن، يبخ، وكذلك أسماء العطور الشائعة الذكر في الأدب العماني القديم كعطور الورد، واللبان، والزبادي، والريحان، والآس، والفل، والمسك، والصندل والعود، والكاذي، والياسمين والخزامى والعنبر، والعبير، والند، والرند والخزامى والفواغي وغيرها.
كما تحدث سماء عيسى عن العلاقة بين العطور وعلم الفلك العماني التقليدي، وأشار إلى أن استخدام الأشجار العطرية مثل اللبان والصندل كان جزءا من الممارسات الثقافية والروحانية المرتبطة بالأجرام السماوية. وأوضح أن العمانيين كانوا يتمتعون بتراث فلكي متوارث، حيث استخدموا النجوم لتحديد المواسم والزراعة والسفر، ومن ضمن تلك التقاليد، ارتبطت الأشجار العطرية مثل البخور ببعض المناسبات المهمة مثل رؤية الهلال وبداية الأشهر القمرية، وكان يعتقد أن الروائح تعمل على تنقية الأجواء الروحانية وتساعد في تحضير الذهن للتأمل في السماء والنجوم.
من جانب آخر، أقيمت مساء أمس الفعاليات المصاحبة لندوة "تاريخ العطر في عُمان"، بأمسية شعرية شارك فيها نخبة من الشعراء العمانيين؛ من بينهم الدكتورة سعيدة خاطر، والشاعر عبد الرزاق الربيعي، والشاعر حسن المطروشي، والشاعر هشام الصقري. وقدم الشعراء مجموعة متنوعة من القصائد الشعرية بين الشعر في حب الوطن، وأدارت الأمسية أشواق العمرية، كما صاحبت الأمسية مقطوعات موسيقية متنوعة شارك فيها الموسيقيان يوسف الفوري وزيانة الراجحية.
وشهدت قاعات النادي الثقافي تنظيم حلقة تدريبية "صناعة البخور" قدمتها الحرفية ماوية الجابرية، حيث تعرّف الحضور على أساسيات وفنون صناعة البخور بأنواعه المختلفة، وقدم أحمد الصقري حلقة عمل عن "تقطير الورد بين الحديث والتقليد" تعرّف الحضور من خلالها على فنون تقطير الورد وطرق استخراج العطور باستخدام الأساليب التقليدية والحديثة، فضلا عن تقديم أساليب مبتكرة تجمع بين الأصالة والحداثة. وقدمت الفنانة أفنان العامرية حلقة فنية بعنوان "صناعة المجامر"، وتعرّف الحضور على فنون الفخار وأسرار تصميم المجامر التقليدية والحديثة في رحلة إبداعية لصناعة قطع فنية بلمسات أصيلة، فيما قدم محمود الزدجالي حلقة عمل عن "صناعة العطور" سلط الضوء على أسرار مزج المكونات العطرية الفريدة وكيفية صناعة العطور الخاصة بطريقة احترافية، كاشفًا لهم فنون العطور التقليدية والحديثة وكيفية اختيار المواد العطرية وتصميم الروائح المميزة، بالإضافة إلى عرض لوحات تشكيلية في معرضين للفنانين التشكيليين سعيد الرويضي وأفراح المعمرية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الأدب العمانی العطر فی
إقرأ أيضاً:
غوص في تاريخ شفهي .. كلايف هولز وخرائط الكلام العماني
ظننت في البدء أن كل من يحمل اسم "كلايف" له الوجه ذاته، فالبروفسور كلايف هولز يشبه المصور الفوتوغرافي كلايف غريسي الذي التقيته في حوار سابق - إلى حد كبير جدًا. لمحته في أحد أروقة معرض الكتاب فتبعته حتى خُيّل لي أن الزحام سيبتلعه ويفوتني، لكن متى ما انقشع الزحام تبين لي أن من تبعته كان ديمتري ستريشنيف، فقال لي بالعربية: "هذا ليس أنا!"، أعدت النظر إلى صورة هولز في الهاتف وإلى ستريشنيف، ولا أزال أظن أنهما الشخص ذاته.
عندما التقيت البروفسور كلايف هولز فيما بعد، لم أعرف كيف أبدأ... بالعربية أم بالإنجليزية؟! لكنه بادرني بلهجة عمانية واضحة: "كيف حالش؟"
ابتسمتُ، وقلت في نفسي: هذا رجل عاش اللغة كما ينبغي، لا من جهة القواعد، بل من قلب لهجاتها وناسها. في هذا الحوار، يحكي هولز عن رحلته الطويلة مع اللهجات العُمانية، كيف سمعها، وسجّلها، وكتب عنها، وعن مخاوفه من ضياعها، ودهشته من الحرص العماني على كل ما هو تقليدي وموروث، كما يفتح نافذة على حكايات اللسان العماني المتجذّر، والمتغير في آن معًا.
*******************************
• الفضول أتى بك إلى عُمان، وكذلك شتاء الكويت القارس.
أطلق ضحكة صاخبة وقال: نعم، منذ وقت طويل، "كشتة قصيرة"، وتابع: كان لدي صديق يعمل في وزارة التربية والتعليم، كمدرب لمدرّسي اللغة الأجنبية، وكنت قد تعرفت عليه في البحرين قبل سنتين من زيارتي لعُمان. سكنّا معًا في شقة في البحرين لسنتين، حيث كان يعمل في مدرسة ثانوية آنذاك، فدعاني لزيارته عندما انتقل إلى عُمان لمدة أسبوع، وكانت أول زيارة لي إليها.
• ثم تحولت الزيارة الأولى إلى شيء أكثر إثارة للاهتمام، فما الذي وجدته مختلفًا عن تجاربك في البحرين والكويت؟
في ذلك الوقت؟! التطور. كان ذلك قبل ثلاث سنوات من تولّي السلطان الراحل قابوس بن سعيد مقاليد الحكم في البلاد، ولم تكن هناك مدارس مثلًا، ولا جامعة، ومقارنة بالبحرين والكويت وباقي دول الخليج، كان التطور في عُمان لم يبدأ بعد.
ولكن هذا تغيّر على مدى الزمان؛ فعندما رجعت بعد عشر سنوات -في الثمانينيات- كانت الصورة مختلفة تمامًا، وكان هناك مشروع إقامة جامعة -التي عملتُ كمستشار لمنهج تدريس اللغة الإنجليزية فيها- ومشروعات في مجالات مختلفة ومن كل نوع. في ذلك الوقت، كل شيء تطور بسرعة هائلة، وأستطيع القول إنها لحقت بالدول التي سبقتها، بل وتجاوزتها.
• كنت تتجوّل بسيارة نيسان بترول وتجمع التسجيلات، هل شعرت يومًا بأنك تغوص في تاريخ المنطقة، عبر الكلمات والنطق؟
حسنًا، في الثمانينيات، شاركتُ في عُمان مع فريق طبي كان يزور القرى لإجراء الفحوصات، حيث عملتُ مترجمًا وسجّلتُ أحاديث القرويين، لا بصفتي طبيبًا بل لغويًا مهتمًا باللهجات. أتذكّر إحدى النساء تقول: "فاحصتنّي، وازنتنّي، شايفتنّي"، وهي تصف الإجراءات الطبية التي يقوم بها الأطباء.
بالإضافة إلى ذلك، طلبتُ من طلابي في جامعة السلطان قابوس تسجيل أحاديث جدّاتهم وعمّاتهم وأقربائهم، وبعد إجازة نهاية الأسبوع كانوا يُحضِرون لي أشرطة من مختلف المناطق التي ينتمون إليها، وهذا ما وفّر لي مادة غنية ومتنوّعة.
وفي السنوات الأخيرة، بدأت أستخدم "يوتيوب" كمصدر إضافي، خاصة من خلال برامج تلفزيون سلطنة عُمان، مثل "سوالف شيابنا" الذي يُقدّمه أحمد بن هلال العبري من ولاية الحمراء. هذا البرنامج كان كنزًا من القصص والمقابلات باللهجة العُمانية الأصيلة، واستفدتُ منه كثيرًا، خاصة أنني بدأت رحلتي في توثيق اللهجات قبل أكثر من أربعين عامًا، متنقلًا أسبوعيًا بين صحار وصور وقلهات وغيرها من المناطق، لاكتشاف الفروق اللغوية.
في صور مثلًا، التقيتُ برجل في المستشفى الرئيسي تحدّث عن ابنه قائلًا: "بالنّي بليه"، أي "يوجع لي رأسي"، أما في قلهات، فاللهجة حضرية أكثر، بينما لهجة صور تميل إلى البداوة، ما يعكس تنوّعًا لافتًا.
لقد اعتمدتُ في جمع موادي على الزيارات الميدانية والتسجيلات التلفزيونية، واستمعْتُ إلى شهادات لأشخاص بلغوا السبعين والثمانين، بل ومَن قال إن عمره 110 سنوات، يتحدّثون عن حياتهم في زنجبار والسعودية والبحرين، وعن ظروف المعيشة الصعبة في الماضي، حين لم يكن هناك عمل "عمل ماشي"، وكان جواز السفر يُمنح لسفرة واحدة فقط "جواز بو سفرةٍ واحدة"، تخرج ثم تعود وينتهي مفعوله. كل ذلك زوّدني بثروة لغوية وثقافية، كما أنني أعمل حاليًا على توثيقها في "قاموس للغة العربية العُمانية"، وقد وصلتُ إلى 650 صفحة مليئة بالأمثلة والجمل المأخوذة من هذه المقابلات.
• لفتني حديثك عن أوجه الشبه بين لهجات العُمانيين ولهجة البحارنة في البحرين. ما العوامل اللغوية التي قد تُفسر هذا التطابق؟
سأطرح عليك نظريتي حول التشابه اللافت بين لهجات العُمانيين ولهجة البحارنة في البحرين، انطلاقًا من تجربة شخصية بدأت عند زيارتي الأولى لعُمان، وتحديدًا في "مسفاة العبريين"، حيث لاحظت تقاطعًا كبيرًا بين ما سمعته هناك وما سجلته خلال دراستي للدكتوراه في البحرين، خصوصًا لهجات المزارعين الذين يستخدمون مفردات زراعية تقليدية مثل "تحدير". هذه المفردات واللهجات المنتشرة في قرى البحرين تُشبه بشكل ملحوظ ما يُتداول في مناطق الداخل العُماني، ما يشير إلى امتداد لغوي وثقافي مشترك، لا يُفسَّر من منظور مذهبي، بل تاريخي.
وقد دعمت هذه الفكرة أيضًا بقراءة ما كتبه المستشرق السويدي "لاندبيرج" الذي زار حضرموت وجنوب اليمن قبل 120 عامًا، ودوّن ملاحظاته حول لهجات تحتوي على الخصائص الصوتية نفسها التي لا تزال تُستخدم حتى اليوم، وهي أمور لا تظهر في عموم الجزيرة العربية إلا في المنطقة الشرقية من السعودية، التي تشترك مجتمعيًا ولغويًا مع البحرين.
عند النظر إلى الخريطة اللغوية من اليمن إلى عُمان، والبحرين، وحتى بعض مناطق الإمارات مثل رأس الخيمة، نجد تشابهات ملفتة، ووجودًا لمجتمعات تُعرف بـ"البحارنة"، ما يعزز الفرضية القائلة بأن هذه السمات في اللهجة تعود إلى هجرات قديمة من جنوب الجزيرة، ربما بعد انهيار سد مأرب، حيث انتقل كثير من الناس شرقًا حاملين معهم أنماطًا لغوية استمرت حتى اليوم.
في البحرين مثلًا، حدّثني مرشد زراعي عن أصولهم قائلًا: "نحن يمنيون، منذ ما قبل الإسلام"، وهو ما يتقاطع مع ما نجده في عُمان وجزء من الإمارات.
لذلك أرى أن هذه التشابهات اللغوية انعكاس لهجرات وتاريخ طويل مشترك، تشكّلت من خلاله "خريطة اللهجات" التي نراها اليوم.
وإن لم تكن هذه النظرية صحيحة، فعلى من يخالفها أن يُفسر لنا: من أين أتى هذا القدر الكبير من التشابه؟
• ذكرت أن اللهجة العُمانية تحمل سمات لغوية نادرة توجد أيضًا في العربية الأوزبكية والخراسانية. هل ترى أن هذه الظاهرة تدعم فكرة وجود "شبكة عربية مبكرة" عبر آسيا وإفريقيا؟
من الناحية التاريخية، يجب أن ننظر إلى الزمن، إلى حركة الناس وتنقّلهم. الناس كانوا يذهبون إلى إفريقيا. كما تعلمين، إسبانيا فُتحت في القرن الثامن تقريبًا، ثم على مدى قرون طويلة كانت هناك هجرات، وانتقال الناس من الجزيرة العربية إلى مناطق أخرى، مثل آسيا الوسطى. هذا حدث في القرن الثامن، أي بعد قرنين من وفاة النبي.
لقد زرتُ بخارى، وهناك أناس يتحدثون بطريقة تُشبه حديث العُمانيين، كما تعلمين. وهذه الأمور تنتقل بالمبدأ نفسه الذي ذكرته سابقًا. تبدأ الرحلة من اليمن إلى عُمان، ثم إلى البحرين، ثم تأتي المرحلة التالية -بعد قرون طويلة- من شرق الجزيرة العربية إلى آسيا الوسطى وإفريقيا.
هذه الأشكال من اللغة انتقلت مع الناس، ولا تزال موجودة حتى اليوم. هذا هو التفسير. إذن، الأمر يُشبه شبكة.
• من خلال دراستك للهجة العُمانية، بدا أن هناك استمرارية لعناصر من العربية الفصحى، مثل التنوين، ولكن بطريقة مختلفة. في رأيك، هل تحافظ اللهجات العُمانية على "ذاكرة لغوية" من العربية المبكرة/الكلاسيكية أكثر من غيرها من اللهجات العربية الحديثة؟
أنا لستُ مع أن اللهجات كلها جاءت من العربية الفصحى. نحن لا نعرف الكثير عن تاريخ العربية قبل ظهور اللغويين في العراق، الذين كتبوا قواعد العربية الفصحى في القرن الثامن الميلادي. العربية أقدم بكثير من ذلك.
أحمد الجلاد عمل على دراسة أقدم أشكال العربية، تلك التي كُتبت على صخور في صحراء سوريا. نحن نتحدث هنا عن مئات ومئات من السنين الماضية. المادة التي عمل عليها تعود إلى خمس مائة سنة قبل القرآن، لكنها مكتوبة بالعربية. لذا، فالعربية قديمة جدًا، لم تبدأ مع القرآن، لكن رأيي أن العربية الفصحى كانت شكلًا راقيًا من العربية، تُستخدم لأغراض خاصة مثل الشعر والقرآن، لكنها لم تكن هي اللغة التي يتحدث بها الناس في حياتهم اليومية.
أنا لا أعتقد أن النبي كان يتحدث كما كُتب القرآن حرفيًا، بل أظن أنه كان يتحدث كما يتحدث أهل مكة آنذاك. ونحن نعلم من اللغويين أن هناك لهجات متعددة: كانت هناك تميم، وأسد، وكانوا يقولون: "تميم تقول كذا، وأسد تقول كذا"، لكنهم لم يعطونا أمثلة دقيقة، لذا لا نعرف بالضبط كيف كانوا يتحدثون.
لكننا نعلم أن اللهجات قديمة جدًا. وبرأيي أن كثيرًا من هذه الخصائص الموجودة اليوم هي امتداد لما كان موجودًا من قبل، وبعضها يُشبه الفصحى، لكن هذا لا يعني أنها جاءت من الفصحى.
سأعطيك مثالًا: في العربية الفصحى لدينا الفعل (لستَ، لستُ، لستِ)، في العربية العُمانية والبحرينية، لديهم كلمات مثل "ليس"، وهذه الألفاظ تظهر فقط في كلمات محددة. وهذا مرتبط بـ"ليس"، بلا شك، لكنه لا يعني أنه جاء من "ليس" الفصحى، بل يعني أن الفصحى واللهجات كانتا تشتركان في أصل واحد، لكننا لا نعرفه بدقة لأنه قديم جدًا.
هذا هو تصوّري. كل شيء له مصدر، لكن المشكلة هي أنه كلما عدنا إلى الماضي البعيد، لا توجد سجلات. الناس عاشوا آلاف السنين دون أن يكتبوا شيئًا، كانوا فقط يتحدثون.
• أشرتَ إلى أن بعض خصائص اللهجات العُمانية تميل إلى الظهور أكثر في الشعر الشفوي والألغاز. هل ترى أن هذه الأنماط الأدبية الشعبية كانت بمثابة "خزانات حافظة" للهجات التقليدية؟ وما مدى أهميتها في دراسة تاريخ اللغة؟
نعم، نوعًا ما. هذا الأمر مُحافظ عليه بشكل أكبر في أشياء مثل الشعر. في الشعر، هناك أوزان وقوافٍ، ويجب أن يكون منتظمًا، ولهذا السبب يكون وجود هذه الصيغ مفيدًا. لكنه ليس إلزاميًا، بل هو اختياري جدًا.
يمكنك استخدامه إذا احتجت إليه. مثلًا، يمكن أن نقول: "بنت زينة" أو "بنتٍ زينة" إذا كنا بحاجة إلى مقطع إضافي. لذا، فهو مفيد بهذه الطريقة، وأعتقد أن هذا أحد الأسباب التي تجعل مثل هذه التراكيب شائعة في الشعر، لأنها عملية.
أما في الكلام العادي، فهي تُستخدم أحيانًا. لم أتحدث عن هذا سابقًا، لكن خذي مثلًا عبارة "كلٍ بمقدرتَه"، أي: "كل واحد حسب قدرته"؛ مثل المال، إذا أردتِ أن تعطي أحدًا مالًا، فالأمر يعتمد على ما لديك. إذا كان معك الكثير، تعطي الكثير، وإذا كان القليل، تعطي القليل. لكنك تفعل ذلك حسب ما تملك.
فعبارات مثل هذه نسمعها كثيرًا. كذلك "ناسٍ" تُستخدم كثيرًا مع كلمة "ناس". يوجد عدد محدود من الاستخدامات الممكنة، لا يمكنك استخدامها طوال الوقت. معظمها يكون اسم صفة، لكن أيضًا في كلمات عامة مثل "كل" و"ناس" و"كلٍ" و"ناسٍ". بعض الناس يفعلون هذا، وبعض الناس يفعلون ذاك. نسمع هذا في الكلام اليومي كثيرًا.
• بالنظر إلى التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الهائلة في عُمان خلال العقود الأخيرة، هل ترى أن هذه السمات النادرة في اللهجات العُمانية مهددة بالاندثار؟ أم أن هناك أملًا في بقائها؟
أعتقد أن ارتفاع مستوى التعليم في عُمان جعل الناس يُدركون أن طريقتهم في الكلام مختلفة، والبعض يرى أن تحسين الحياة يمرّ بتغيير طريقة الحديث، وأسلوب اللباس، بل ونمط الحياة بالكامل. نحن لا نفكر اليوم كما كنا قبل خمسين سنة، أو حتى قبل عشرين.
أتذكر أنه قبل حوالي عشر سنوات، كنت أتابع الصحف العُمانية على الإنترنت، وقرأت رسائل من قراء يشتكون من لهجات بعض المذيعين، خصوصًا النساء، لأنهم كانوا يتحدثون وكأنهم من الخليج، لا من عُمان. وفعلًا، لاحظت هذا بنفسي، عندما شاهدت مقابلة مع امرأة من الخوض تتحدث بلهجة عُمانية صريحة، تقول مثلًا: "ما يسويوا ربشة"، لكن المذيعة التي تحاورها بدت لي وكأنها من الكويت أو الإمارات، رغم أن اللقاء جرى في قلب العاصمة، قرب الجامعة التي كنت أعمل فيها.
كثير من العُمانيين وقتها كانوا يتساءلون: ما الذي يحدث؟ هذه لغتنا وطريقتنا في الكلام، فلماذا يتحدث الآخرون بطريقة مختلفة؟ لا أعلم إن كان هذا ما زال يحدث الآن، لكنني أظن أن التأثير الخليجي، خصوصًا من خلال مجلس التعاون، أدى دورًا واضحًا، وصار هناك ميل لأن تكون اللغة أقرب إلى السعودية، خاصة بين الشباب.
هذا أمر طبيعي في رأيي، ويحدث في كل مكان، حتى في إنجلترا. التغيير جزء من الحياة، وعادة ما يشتكي كبار السن منه. لا أقول إنه جيد أو سيئ، لكني أراه نتيجة طبيعية للاحتكاك بثقافات ولهجات أخرى.
• عملت على اللهجات العربية في بيئات متعددة: البحرين، الكويت، العراق، الجزائر، وعُمان. كيف ترى عُمان مقارنة بهذه الدول من حيث الثراء اللغوي والتنوع الداخلي للهجاتها؟
أستطيع أن أقول إن عُمان، حتى هذه اللحظة، لا تزال تحتفظ بالكثير من ملامحها الأصيلة، أكثر من غيرها. وذلك ببساطة لأن عُمان بلد كبير، وبدأت التغيّرات فيها مؤخرًا. لذلك أظن أن ما تم الحفاظ عليه في عُمان أكثر مما هو محفوظ في بلدان أخرى. لكن هذا لن يدوم طويلًا.
أنا لا أزور عُمان كثيرًا، زيارتي الأخيرة كانت في عام 2012، والتي قبلها كانت في 2007، وكل مرة أعود فيها ألاحظ أن الفارق أصبح كبيرًا، كل شيء يتغير بوتيرة أسرع: مزيد من المباني، مزيد من الطرق، مزيد من المستشفيات، والمدارس... وهذا كله أمر جيد، بالطبع، لكنه يسبب أيضًا تغيّرات عميقة. عُمان لا تزال -في الوقت الحالي- تحافظ على كثير من موروثها، لكنها تتغير. حتى العُمانيون أنفسهم صاروا يلاحظون ذلك: أن الأمور تتغير فجأة، وأن الأمور بدأت تصبح أقل "عُمانية" وأكثر "خليجية"، كأن الخليج أصبح منطقة واحدة لغويًا وثقافيًا.
• أخيرًا، ما الذي علمتك إياه اللهجات العُمانية عن الإنسان العربي وهويته العميقة؟
هذا سؤال صعب... ما أعتقده هو أن اللغات أدوات، أو وسائل نقل، فهي تحمل في طياتها معلومات عن الشعوب التي تتحدث بها. ولذلك، ما يمكنني قوله هو إن اللغة العربية العُمانية -أو اللهجة العُمانية- تجسّد حياة العُمانيين، والطريقة التي يعيشون بها.
ما يثير اهتمامي هنا هو وجود عناصر كثيرة من التراث لا تزال حية في عُمان، رغم أنها اندثرت في أماكن أخرى. أعلم أن هذا لا يجيب على سؤالك بشكل مباشر، لكنني لا أظن أن هناك شيئًا مختلفًا بشكل جوهري، لكن الثقافة التي لا تزال محفوظة في اللغة حتى يومنا هذا. وهذا بالضبط ما يثير اهتمامي بشأن عُمان: وجود الكثير من الأمور القديمة التي لا تزال قائمة حتى الآن.