23 يوليو 1970م.. اليوم الذي انطلقت فيه الدولة الحديثة بعمان، وبدأ طور جديد من أطوارها التاريخية، إذ حدث تحول في كل أوجه المجتمع؛ يحكي قصة «الديالكتيك الاجتماعي». المقال.. ينتقد التحليل الماركسي لهذا التحول الذي انسلخ فيه الاجتماع القديم ونما اجتماع جديد.

لنقف بدايةً عند مصطلح «الديالكتيك»، الذي يعني الجدل والمحاورة بين الأطراف.

لقد طوّر الألماني جورج هيجل(ت:1831م) مفهوم الجدل من كونه حواراً بين الأطراف إلى مفهوم أعمق؛ هو الجدل بين الأفكار، وملخصه بلغة قريبة من القارئ.. أنَّ الفكرة أسبق من المادة؛ أي أنَّ الفكر هو مَن يبدّل الأحداث في الواقع، والفكرة تحبل في بطنها بنقيضها، فلمّا تحتك بالاجتماع البشري تدخل في نقاش وتداول مع الأفكار؛ غالباً بين السائد في المجتمع وبين ما يتطلع إليه من رؤى، تتمخض عنه أفكار جديدة، وهذا ما عُرف بـ«الديالكتيك الهيجلي».

ثم جاء الألماني كارل ماركس (ت:1883م) ليعدل الديالكتيك الهيجلي على قدميه، بعد أن كان واقفاً على رأسه؛ بحسب عبارة ماركس نفسه، أي أن المادة أسبق من الفكر؛ فالأفكار لكي تتبدل لابد أن يسبقها تحوّل في الواقع. فطوّر مفهوم الجدل إلى «المادية الجدلية»؛ معتبراً العامل الاقتصادي هو البُنية التحتية للاجتماع الإنساني، وما عداه من سياسة وثقافة ودين بُنى فوقية ناتجة عن العامل الاقتصادي، وهذا هو الشق النظري لمفهوم ماديته الجدلية.

وأما الشق الواقعي؛ فيظهر في الصراع بين الطبقات المتناقضة.. كالسادة والعبيد، ثم الفلاحين والإقطاعيين، ثم العمال والبرجوازيين، وقد أطلق زميل ماركس الألماني فريدريك إنجلز(ت:1895م) على هذه الظاهرة «المادية التاريخية». بيد أنَّ هذا التنظير لم يكن أقل طوباوية من «الجدل المثالي» لهيجل، ولذلك؛ فشل عندما نزل على أرض الواقع، حيث أصبحت الثورة البلشفية من أسوأ الأنظمة الاستبدادية في التاريخ، مما عجّل بسقوطها، وتفكك دولها الاشتراكية.. بل تحولت -في مفارقة فنتازية- إلى ما ثارت عليه؛ وهو المنظومة الرأسمالية. وبعد فقد أتيت بهذا التقديم لسببين:

الأول.. أنَّ مَن يتحدث عن التحولات في عمان يستحضر الصراع في ظفار بين الدولة والجبهة «ذات التوجه الماركسي»، وهذا الصراع ذاته من شواهد فشل استعارة الديالكتيك الماركسي في غيره موضعه.

الثاني.. يحاول البعض أنْ يحلل الاجتماع العماني وفقاً لهذا الديالكتيك؛ مسقطاً معطيات المدرسة التحليلية الماركسية على اجتماعنا.

موضوعياً.. لا يمكن أنْ نعتمد على الديالكتيك الماركسي؛ خاصةً في رأس المال والصراع الطبقي في تحليل واقعنا، فالماركسية التحليلية هي ابنة عصرها، وماركس.. لم يرَ التحولات التي جرت في العالم من بعده، ومعظمها لا ينطبق عليها تحليله. لقد أدرك السلطان قابوس بن سعيد(ت:2020م) -القارئ للتاريخ العماني- هذه البُعد، فاستطاع أنْ يكشحها سراعاً من الأرض العمانية، ولم يُبقِ لها أثراً.

لقد أصبحت آراء ماركس في الصراع الطبقي الآن كتصنيفات الإحيائي البريطاني تشارلز داروين(ت:1882م) في تطور الأحياء، وتحليلات الطبيب النمساوي سجموند فرويد(ت:1939م) للنفس البشرية، فمع أهميتها لفهم مرحلة علمية مرت بها البشرية؛ إلا أنَّ الزمن تجاوزها، ولم يعد العلم يعتمد عليها في تقرير نتائجه. إنْ كان من شيء قوله.. فهو أنَّ على المهتمين بالاجتماع العماني أنْ يتجاوزوا التحليل الماركسي إلى مناهج أكثر موضوعيةً وأدواتٍ أوفر حداثةً.

التحولات الحديثة في عمان.. بدأت إرهاصاتها منتصف الخمسينات الميلادية، وكان سببها اقتصادياً، إلا أنَّ دوافعها لم تكن صراعاً طبقياً، فالمجتمع كله تقريباً طبقة واحدة من الفقر؛ والتباين فيه ضئيل، ويعمل أعمالاً متشابهة، وإنَّما كان الصراع سياسياً، بغيةَ الاستحواذ على مناطق النفط، مما دفع بالسلطان سعيد بن تيمور(ت:1972م) أنْ يضم كل الرقعة العمانية تحت جناح سلطنته. إنَّ ما حصل في عمان هو ما حصل في العالم؛ بأنَّ الاجتماع لم يتحول باتجاه الشيوعية.. بل واصل خطه الرأسمالي، والرأسمالية.. ليست أيديولوجيا ثورية كالماركسية، وإنَّما هي تطور اقتصادي مستمر، وإنْ اختلفت أسماؤه من حقبة إلى أخرى.

«هدم سور البلد».. يحكي واقعاً كان قائماً في عمان، ففي الستينات المنصرمة كان هناك سور يفصل بين مسقط وبقية عمان، عبّر عنه سياسياً اسم الدولة «سلطنة مسقط وعمان»، وكان بالسور بوابة تُؤخذ فيها الضرائب على العابرين غصباً، فما إنْ أتى السلطان قابوس حتى أزيلت البوابة وانهدم سورها، دلالةً على التحول من العهد القديم إلى العهد الحديث.

كانت عمان تعيش داخل أسوار بلدانها، فضرورات الحياة وتنظيمات المجتمع موجودة في كل بلد تقريباً، ومن يخرج من بلده إلى آخر يشعر كأنه سافر إلى خارج القطر؛ للحالة الاستقلالية التي تعيشها. هذه الحالة الجزرية للمجتمع؛ كانت فرعاً عن استقلالية العماني عموماً، فالدولة -التي لم تكن أحسن حالاً في الفقر من مواطنيها- لم تكن تسيطر؛ إلا بقدر فرض الولاء لها، وهو مقتصر على المؤسسات الممثلة للحاكم كالوالي والقاضي والعسكر. أما السكان فكانوا مستقلين بحياتهم؛ يعملون أعمالاً حرة، معتمدين على الزراعة والرعي والحرف والتجارة وصيد البحر، فلا توجد مؤسسات تفرض البيروقراطية على أعمالهم، ولا مصارف تمتص قطرات عرقهم، ولا شركات تستهلك وقتهم وجهدهم، ولا ضرائب؛ إلا ما يدفعونه من «الزكوات» للدولة. وكانوا يديرون شأنهم الديني بأنفسهم، فيصلي بهم من يرضونه لأنفسهم، دون مقابل، فضلاً أنْ يكون من يقيم لهم الصلاة موظفاً، وكذلك من يصلي بهم في الأعياد والجنازات، ومن يعقد لهم عقود الزواج ويقسّم التركات، هو مَن يثق الناس بدينه، لا من توظفه الحكومة، وزكواتهم يخرجونها بأنفسهم، ويضعونها في المحتاجين ممن عرفوا مسغبتهم. وكذلك التعليم؛ فالإنسان منذ طفولته يرتاد مدارس القرآن الكريم، ثم ينتقل إلى حلقات المساجد، ثم حلقات الجامع، فحلقة الفقيه، حتى يتخرج فقيهاً أو والياً أو قاضياً أو كاتباً، ونحو ذلك، كل تلك المراحل من التعليم ينظمها المجتمع، وينفق عليها من أموال الوقف وبيت المال ووصايا مبتغي وجه الله.

لقد كان الأمر بعكس ما توهمه الماركسيون.. فقد تحول المجتمع بسلاسة.. بل باندفاع، للانضواء إلى سلطة الدولة؛ التي أصبحت الموارد المالية بيدها وحدها، لقد خرج الناس من أسوارهم زرافاتٍ ووحداناً؛ تركوا مزارعهم ومراعيهم وسواحلهم وحرفهم ومتاجرهم ليسلكوا في نظام الدولة ذات «الفعل الرأسمالي» المفارق للإيديولوجيا الماركسية، منهم من انتظم في السلك العسكري، ومنهم من استقطبهم القطاع العام، ومنهم من اجتذبتهم الشركات لتعظيم أرباحها. حتى الشأن الديني تحول إلى قطاع وظيفي؛ فإمام المسجد والمؤذن والخطيب والواعظ؛ شملتهم الدولة بكنفها، فاستلموا رواتبهم من مصارفها.

والمقصود بـ«الفعل الرأسمالي»؛ ليس النظرية الرأسمالية الغربية، ولا السوق الحر، وإنَّما هو فعل مستمر لحركة الاقتصاد والمال في المجتمعات منذ الأزل. فمجتمعنا العماني عاش ويعيش فعله الرأسمالي الخاص به، والخصوصية هنا ليست تميّزاً، وإنَّما هي العناصر المحركة لعجلة اقتصاده الناتجة عن ظروف البيئة العمانية. خلال الخمسين سنة الماضية أوجد هذا الفعل الرأسمالي «طبقية»، لكنها ليست كالطبقية القابعة في رأس الماركسيين، وإنَّما طبقية أفرزتها الطفرة النفطية، والتي لم تنسَ عموم الناس من ريعها. بالإضافة إلى هذا.. الحراك الاجتماعي في سد حاجات الناس وتقليل الفوارق بينهم؛ عبر الزكوات وصناديقها، وتبرعات الأثرياء وشركاتهم، وتتوج؛ بـ«قانون الحماية الاجتماعية» الذي صدر به مرسوم سلطاني من لدن مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق أعزَّه الله.

لكي ندرس ظواهر مجتمعنا علينا ألا نسقط عليه النظريات المستجلبة ومنتهية الصلاحية، وما يجب أنْ نقوم به؛ فهو مطالبة الحكومة بأنْ تنشئ مراكز أبحاث لدراسة الظواهر التي تسود مجتمعاتنا؛ بطرق حديثة واقعية ومناهج علمية موضوعية، ودعوة المؤسسات الأكاديمية إلى تمكين الطلبة من دراسة هذه الظواهر دراسة علمية.

خميس العدوي كاتب عُماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين».

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی عمان

إقرأ أيضاً:

سعر الذهب في عمان اليوم الأحد 27 يوليو 2025

تراجع سعر الذهب في عمان خلال تعاملات اليوم الأحد 27 يوليو 2025، حيث سجل سعر الذهب عيار 24 نحو 41.275 ريال، بينما سجل سعره أمس نحو 41.300 ريال.

ما هو سعر الذهب في عمان اليوم؟

وتوفر «الأسبوع» لمتابعيها معرفة كل ما يخص سعر الذهب في عمان، وذلك ضمن خدمة مستمرة تقدمها لزوارها في مختلف المجالات ويمكنكم المتابعة من خلال الضغط هنا.

كم سعر الذهب عيار 24 في عمان؟

سعر الذهب عيار 24 يصل إلى 41.275 ريال.

سعر الذهب في عمان ما سعر الذهب عيار 22 في عمان؟

سعر الذهب عيار 22 اليوم في عمان نحو 37.850 ريال.

كم يبلغ سعر الذهب عيار 21 في عمان؟

سعر الذهب عيار 21 يسجل نحو 36.125 ريال.

كم بلغ سعر الذهب عيار 18؟

سعر الذهب عيار 18 يصل إلى 30.950 ريال.

ما هو سعر الذهب عيار 14 في عمان؟

سعر الذهب عيار 14 يصل إلى 24.075 ريال.

ما سعر جرام الذهب عيار 12في عمان؟

سعر الذهب عيار 12 اليوم في عمان يسجل نحو 20.650 ريال.

سعر أوقية الذهب في عمان

سعر أوقية الذهب اليوم في عمان تصل إلى 1284.000 ريال.

سعر الجنيه الذهب في عمان

سعر الجنيه الذهب اليوم يبلغ نحو 288.975 ريال.

اقرأ أيضاًسعر الذهب في قطر اليوم الأحد 27 يوليو 2025

ارتفاع ملحوظ بـ سعر الذهب الآن في سوق الصاغة

تراجع سعر الذهب في الكويت اليوم الأحد 27 يوليو 2025

مقالات مشابهة

  • ارتفاع سعر الصرف الفعلي للريال العماني بنسبة 1.3%
  • الجزائر وسلطنة عمان يدرسان سبل تعزيز التعاون بمجال النقل
  • سعر الذهب في عمان اليوم الأحد 27 يوليو 2025
  • الشباب يُتوَّج بكأس السوبر العماني على حساب السيب
  • الكاف يشكو من إزعاج مكبرات الصوت في نهائي السوبر العماني .. فيديو
  • عُمان خط أحمر.. فلننتبه جميعا
  • عاجل | إخلاء سبيل الناشط أيمن عبلي بعد توقيفه بكفالة
  • أيمن الغافري: قوة التحمل والتجهيز سر تميز المتسابق العماني
  • عمان ترحب بإعلان ماكرون عزم فرنسا الاعتراف بدولة فلسطين