فـي إهمـال الاستـشراق في الغـرب
تاريخ النشر: 9th, October 2024 GMT
مـن سوء حـظّ الاستـشراق أنّ الصّـورة التي كـوّنها عن نفسـه، طـويلاً، بما هـو ميـدانٌ دراسـيّ مميَّـز داخل الثّـقافـة الأوروبيّـة والغـربيّـة، صـورةٌ لا تطابـق حقيـقـته في البيـئات العـلميّـة والأكاديـميّـة في الغـرب ولـدى مؤسّساتها والعاملين فيها. لقـد نُـظِـر إليه في الجامعات ومـراكز البحث، ولفـترةٍ طويلة مـمتـدّة، بـقـدرٍ ملحـوظ من الاستصـغار أو، على الأقـلّ، من الإهمـال فـما حُـسِـبَ للمستـشرقيـن حسـابٌ، في تلك البيئـات الفـكـريّـة، يعادل الاعتـراف العلـميّ بما يـقـدّمـونه من أعمـال، أو يعادل - على الأقـلّ - التّسليـم بوجـودهم كجسـمٍ دراسـيّ! ولعـلّ أكـثـرَ الاستـشراق الذي أصابـه حيْـفٌ وضيْـم من المؤسّـسة العـلميّـة- الجامعـيّـة هو ذاك الذي تَـكَـرّستْ مباحـثُـه وبـرامجـُـه العلـميّـة لـدراسة الإسلام والعالم العـربيّ، وشَـكّـل فـرعـاً من أنشط فـروعه هو فـرع الإسلاميّـات.
يمكـنـنا أن نـتبـيّـن، بسهولة، هـذا الاستـصغـار للـدّراسات الشّـرقـيّـة، عـموماً، وللـدّراسات الإسلاميّـة خاصّـةً إنْ قـارنّـاها بالـدّراسات اليونانـيّـة والرّومانـيّـة القـديمـة؛ فهـذه - خـلافـاً للسّابـقـة - تحظى بـقـدرٍ ملحـوظ من الاهتـمام الأكاديـميّ وبـمستـوًى أعلى مـن الإقـدام عليها، خاصّـةً في البلـدان الأوروبيّـة. على أنّـنا نـدرك، على الحقيـقـة، دواعي وجـود هـذا الفـارق في العنايـة الرّسميّـة والجامعيّـة بالعالميْـن اليونانـيّ- الرّومانيّ والآسيويّ- الإسلاميّ. إنّ مَـأْتـاهُ ممّـا يحتـلّـه الميـراث اليونانيّ- الرّومانيّ القـديـم في خزيـن أوروبا الحضاريّ مـن مكانـةٍ ملحـوظـة بحسبانـه واحـداً من المداميـك الذي على استـعادتـه قامـتِ النّهـضـة الأوروبيّـة وقامـت أوروبا الحديثـة. ليست تلك هي عيـنُـها عـلاقـة الثّـقافـة الغـربيّـة بـتـراثـات شعـوب الشّـرق والإسـلام؛ إذ هي تبقـى، في النّـهايـة، برّانيّـة عن التّـاريخ الـذّاتـيّ الأوروبيّ حتّى ولو أنّ الإسـلام مـثـلاً - وهـو الأقـرب احتكـاكـاً بأوروبا والمسيحيّـة فيها - كان يشـكّـل، بمعـنًـى مّـا، جـزءاً مـن تـاريخـها الموضوعـيّ.
لا نشـكّ في وجـود أسباب عـديدة غير معـرفـيّـة أو فكـريّـة تكمَـن خلـف هـذا الإهـمال المتـعـمَّـد لميـدان الاستـشـراق والـدّراسات الإسلاميّـة، وخـلـف تلك الرّغـبـة البـيّـنة في تهميشـه في الـدّوائـر الأكاديـميّـة. على أنّ هـذه الأسباب غير المعرفـيّـة، السّياسيّـة والإيـديـولوجيّـة، يشترك في صناعتها السّياسيّـون والباحثـون الغـربيّـون على السّـواء، ولا مجـال لتبرئـة جانـب الأخيـريـن من المسؤوليّة عن ذلك بـدعـوى أنّهم دارسـون أو مفـكّـرون أو «مـنـزَّهـون» عن الأغـراض الإيـديـولوجيّـة وعـن النّـزعات الاستعـلائيّـة الكيـديّـة التي تَـسِـمُ أفعال السّياسيّـيـن وأقـوالهم. ولعـلّ في صـدارة تلك الأسباب الموقـف السّـلبـيّ من الإسلام ومن العـرب، المبـنـيّ على نظـرةٍ نمطـيّـة إليهما ينـحـدر المعظـمُ من مادّتـها من كـتابات اللاّهوتـيّـين المسيـحيّـين في العصور الوسطـى، فيما يتـغـذّى ما هو حـديثٌ منها من الثّـقافـة الاستعماريّـة العنصـريّـة تجاه الآخَـر؛ وهي الـثّـقافة السّائـدة في بـلدان الغـرب. نعـم، إنّ الموقـف السّـلبيّ هذا عـامٌّ في بـلـدان الغـرب، يشمـل النّـخب السّياسيّـة والثّـقافـيّـة، لأنّ مبْـناهُ على ثـقافـةٍ جمعـيّـة شديدة الرّسـوخ. ومن البـيّـن أنّ مثـل هذا الموقـف الغـربيّ السّـلـبيّ تجاه الإسلام والاحتـقاريّ لرمـوزه وميراثـه لا يشجّـع أحـداً في الغـرب على الاحتـفال بأمـر هذا الإسلام في المؤسّسات الجامعيّـة والعـلميّـة، أو على تـقـديم الـدّعـم الماديّ والمعـنوي للمستـشرقيـن ولجمـعيّـاتهم العـلميّـة ولمراكـز الـدّراسات المهتـمّـة بالإسلام والثّـقافـة العربيّـة التي يعـملون فيها. لذلك تصطـدم هذه الفئـة من العلمـاء والـدّارسين المتخصّصيـن في ميـدان الإسلاميّـات بعـوائـق شتّـى من الحكـومات والجامعات ومن زملائـهم في المياديـن الأخـرى على نحـوٍ يُـلحـق أبـلغ الضّـرر بعـملهم الـدّراسيّ ويحُـطّ من قـدره.
على أنّ عامـلاً معـرفـيّـاً آخَـر يفـرض نفسـه على الباحث في هـذا الموضوع؛ إذْ يفـسّـر جـوانب من ذلك التّـهميش، ويلـقي ضـوءاً على بعـضٍ مـن «مـبرِّراته» من وجهة نظـر البحث العـلميّ. يتعلّـق الأمـر، في هـذا، بما اكـتـنـف ميـدان الاستـشراق من ركـودٍ علميّ لـفـترةٍ ممتـدّة لأسبابٍ تـتعلّـق بانغـلاق هـذا الميـدان على نفسه، والـدّوران في حلـقة تقـاليـده الفـكـريّـة والمنهجـيّـة الموروثـة عن بدايات القـرن التّاسـع عشر، وعـدم انـفـتاحه على مياديـن العـلوم الإنسانـيّـة والاجتماعـيّـة المعاصـرة وعلى مكـتسـبات ثـوراتها المعـرفـيّـة والمنهجـيّـة الجديدة. لقد ظلّ الاستـشراق وفـيّـاً لتـقاليـده المنهجيّـة التي أرسـتْـها التّاريخانـيّـة الألمانـيّـة، وفي القلب منها العمـل بالمنهـج الفـيلـولوجـيّ (الفـقـهـلغـوي): في التّـحـقيق - تحقيـق النّصـوص - كما في الـدّراسات. لم ينـتبـه أكـثرُهـم - وخاصّـة من المعاصريـن - إلى أنّ الـدّراسات ذات الطّبيعـة الفيـلولـوجيّـة أدّت وظيـفـتَـها العلميّـة التي كانت مطلوبـة منها قبل قـرن، وما عـاد يسعُـها الاستمرار بالعُـدّة ذاتها؛ وأنّ فيضـاً من مكتسبات المعرفـة تَـدَفَّـق من مـدّ مـياه العـلوم الإنسانـيّـة والاجتـماعيّـة. وقـد أَشْـعَـر انْـكـهافُ المستـشرقين في كهوفهـم الفيـلولـوجيّـة زملاءَهـم من الـدّارسيـن في المياديـن الأخـرى أنّـهم يعمـلون خارج قـواعـد البحث العلـميّ المعاصرة ومعايـيرها، لذلك قـوبـلوا بالصّـدّ والجـحـود منهم و، أحيـانـاً، بالإنكـار والاحتـقار!
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الإسلامی ـات العـلمی ـة فی الغـرب الس یاسی ـة التی
إقرأ أيضاً:
لماذا يوصف التحالف الروسي الصيني بأنه بلا حدود؟ خبراء يجيبون
موسكو- صرّح أمين عام مجلس الأمن الروسي، سيرغي شويغو، أن التعاون الإستراتيجي بين روسيا والصين قد وصل إلى مستوى غير مسبوق.
وقال شويغو، خلال مشاورات مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي، حول الأمن الإستراتيجي بين البلدين في موسكو "ليس الجميع في الغرب راضٍ عن وصول الشراكة الشاملة والتعاون الإستراتيجي بين روسيا والصين إلى هذا المستوى".
وأشار إلى أن "العلاقات الروسية الصينية لا تخضع لضغوط خارجية، وهي مبنية على مبادئ الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والدعم المتبادل".
ووفقا له، فقد ازداد الوضع الجيوسياسي العالمي تعقيدا خلال العام الماضي، وأن التحديات التي تواجه الأمن والاستقرار العالميين تتزايد، "مما يتطلب منا تكثيف الجهود بانتظام بروح الشراكة الشاملة والتعاون الإستراتيجي".
بدوره، أكد وانغ يي أهمية مواصلة تعزيز الثقة الإستراتيجية المتبادلة، وتعميق حسن الجوار والصداقة، وتوسيع التعاون ذي المنفعة المتبادلة، وتعزيز التنمية الاقتصادية في كلا البلدين، ومواجهة التحديات والتهديدات الجديدة، وحماية العدالة والأمن الدوليين بشكل أكثر فعالية في جميع أنحاء العالم.
وأنهت الجولة الـ20 من المشاورات الروسية الصينية حول الأمن الإستراتيجي أعمالها برئاسة سيرغي شويغو ووانغ يي، في العاصمة الروسية، وجرى خلالها بحث القضايا الراهنة للأمن الدولي والإقليمي، والوضع في منطقة آسيا والمحيط الهادي، فضلا عن التعاون في المجالات العسكرية والتقنية، والتفاعل بين الجهات الأمنية.
وفي السنوات الأخيرة، شهدت العلاقات بين البلدين تطورا ملحوظا لتصل إلى مستوى غير مسبوق وتفاعل إستراتيجي شامل وشراكة يصفها مسؤولو البلدين بأنها "بلا حدود".
إعلانويعود ذلك إلى عوامل جيوسياسية أهمها مواجهة الغرب والولايات المتحدة، فمنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، اتسمت العلاقات الروسية الصينية بشراكة إستراتيجية متعمّقة في ظل الصراع مع الغرب، رغم أن الصين تتوخى الحذر في دعمها لروسيا.
فهي تدعمها عبر التجارة وإمدادات الطاقة، لكنها تتجنب المساعدة العسكرية المباشرة، وتحافظ على موقف محايد على الساحة الدولية، بما في ذلك الامتناع عن إدانة روسيا في الأمم المتحدة.
وبحسب الخبير العسكري أناتولي ماتفيتشوك، يتمثل جوهر المشاورات الأمنية الإستراتيجية بين البلدين في تنسيق الإجراءات لمواجهة التهديدات المشتركة وتعزيز الاستقرار الثنائي والإقليمي والعمل على تثبيت مصالحهما في مختلف مناطق العالم.
ويقول ماتفيتشوك للجزيرة نت، إن هذه المشاورات تُعد مهمة لأنها تُعزز الثقل الجيوسياسي لكلا البلدين، وتسهم في الحفاظ على الاستقرار في مناطق شاسعة، وتتيح لهما الدفاع المشترك عن رؤيتهما للنظام العالمي، بما في ذلك داخل منظمات مثل منظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة البريكس.
لكنه يلفت إلى أن الصين، في المقابل، تمتنع عن تقديم مساعدة عسكرية مباشرة لروسيا، محافظة على حيادها في الصراع، وتجنبا لحصول مواجهة مفتوحة مع الغرب.
وعلاوة على ذلك، وفي سياق سعيها لبناء سياساتها على أسس مصالحها الوطنية، تحافظ بكين على علاقات ثنائية مع كييف ولم تقطع علاقاتها الدبلوماسية معها منذ بدء الحرب بين روسيا وأوكرانيا. وفي الوقت ذاته، تحافظ موسكو وبكين على مستوى عالٍ من التعاون العسكري التقني، ويجريان تدريبات مشتركة منتظمة.
ويتابع ماتفيتشوك أنه لطالما كانت روسيا المورد الرئيسي للأسلحة والتكنولوجيا للصين، بالرغم من انخفاض حصة الواردات الروسية من إجمالي إنتاج الأسلحة في الصين التي تزايد اكتفاؤها ذاتيا، فإن التعاون العسكري التقني لا يزال عنصرا مهما في الشراكة.
انعكاسات الصراعمن جانبه، يعتبر الباحث في النزاعات الدولية فيودور كوزمين، أن دور الصين في الصراع بين روسيا والغرب يكمن في الحفاظ على شراكة إستراتيجية مع موسكو، وتقديم دعم اقتصادي ودبلوماسي كبير، مع السعي في الوقت نفسه للحفاظ على مظهر الحياد.
ووفقا لكوزمين، تعزّزت العلاقات بين البلدين بناء على المصالح المشتركة، لا سيما في معارضة الهيمنة الأميركية والديمقراطيات الليبرالية.
وبرأي الباحث فإن الصين نفسها تستفيد من الصراع القائم بين روسيا والغرب، وتحولت نتيجة لذلك إلى أكبر شريك تجاري لموسكو، حيث حلت شركاتها محل الشركات الغربية وأصبحت بكين أكبر المستوردين لموارد الطاقة الروسية.
في المقابل، أسهم ذلك إلى حد كبير في التخفيف من تأثير العقوبات الغربية على روسيا، لا سيما ما يخص الإمدادات ذات الاستخدام المزدوج، حيث تزود الصين روسيا بسلع ذات استخدام مزدوج، مدني وعسكري، وهي ضرورية للإنتاج العسكري الروسي.
وبحسب المتحدث كوزمين، تعيش الصين هاجس تعرض روسيا للضعف، مما سيسمح للولايات المتحدة بتركيز اهتمامها بالكامل على الصين كمنافس رئيسي لها.
إعلانمن هنا، يتمثّل دور الصين في توفير "غطاء" لروسيا وتزويدها بالوسائل اللازمة لمواصلة الصراع، وهو ما من شأنه أن يحول دون هزيمتها في ساحة المعركة مع أوكرانيا والمواجهة مع الغرب، بل العمل على إضعاف الغرب نفسه وإعادة صياغة النظام العالمي نحو التعددية القطبية.