لجريدة عمان:
2025-05-06@02:20:58 GMT

فـي إهمـال الاستـشراق في الغـرب

تاريخ النشر: 9th, October 2024 GMT

مـن سوء حـظّ الاستـشراق أنّ الصّـورة التي كـوّنها عن نفسـه، طـويلاً، بما هـو ميـدانٌ دراسـيّ مميَّـز داخل الثّـقافـة الأوروبيّـة والغـربيّـة، صـورةٌ لا تطابـق حقيـقـته في البيـئات العـلميّـة والأكاديـميّـة في الغـرب ولـدى مؤسّساتها والعاملين فيها. لقـد نُـظِـر إليه في الجامعات ومـراكز البحث، ولفـترةٍ طويلة مـمتـدّة، بـقـدرٍ ملحـوظ من الاستصـغار أو، على الأقـلّ، من الإهمـال فـما حُـسِـبَ للمستـشرقيـن حسـابٌ، في تلك البيئـات الفـكـريّـة، يعادل الاعتـراف العلـميّ بما يـقـدّمـونه من أعمـال، أو يعادل - على الأقـلّ - التّسليـم بوجـودهم كجسـمٍ دراسـيّ! ولعـلّ أكـثـرَ الاستـشراق الذي أصابـه حيْـفٌ وضيْـم من المؤسّـسة العـلميّـة- الجامعـيّـة هو ذاك الذي تَـكَـرّستْ مباحـثُـه وبـرامجـُـه العلـميّـة لـدراسة الإسلام والعالم العـربيّ، وشَـكّـل فـرعـاً من أنشط فـروعه هو فـرع الإسلاميّـات.

ومع أنّ الـدّراسات الشّـرقـيّـة الأخرى المنـتميـة إليه، مثـل الـدّراسات الهـنديّـة والـدّراسات الصّـينيّـة...، لم تَـحْـظ بالمكانـة الاعـتـباريّـة العـلميّـة التي تستحـقّـها في دوائـر البحث والـدّرس الجامعيّ في الغـرب، وعَـرَض لها مـن الإهمـال والتّـجاهُـل والحِـطّـة، هي الأخـرى، ما عَـرَض الـدّراسات العربيّـة والإسلاميّـة، إلاّ أنّ القـليل من الاهتمام الذي لـقِـيَـتْـهُ يظـلّ أفـضل؛ إذْ هو فـاق مثـيله في مجال الإسلاميّـات بما لا يقـاس؛ وهـو الأمر الذي ظـلّ مثـار تساؤلٍ في أوساط دارسـي الإسلاميّـات من المستـشرقين، ولكـن من غير أن يَـعْـرِضوا هـذه «النّـازلـة» على البحث والـدّرس والمناظـرة قـصْـد الْـتـماس تـفسيـرٍ عـلميّ لـها!

يمكـنـنا أن نـتبـيّـن، بسهولة، هـذا الاستـصغـار للـدّراسات الشّـرقـيّـة، عـموماً، وللـدّراسات الإسلاميّـة خاصّـةً إنْ قـارنّـاها بالـدّراسات اليونانـيّـة والرّومانـيّـة القـديمـة؛ فهـذه - خـلافـاً للسّابـقـة - تحظى بـقـدرٍ ملحـوظ من الاهتـمام الأكاديـميّ وبـمستـوًى أعلى مـن الإقـدام عليها، خاصّـةً في البلـدان الأوروبيّـة. على أنّـنا نـدرك، على الحقيـقـة، دواعي وجـود هـذا الفـارق في العنايـة الرّسميّـة والجامعيّـة بالعالميْـن اليونانـيّ- الرّومانيّ والآسيويّ- الإسلاميّ. إنّ مَـأْتـاهُ ممّـا يحتـلّـه الميـراث اليونانيّ- الرّومانيّ القـديـم في خزيـن أوروبا الحضاريّ مـن مكانـةٍ ملحـوظـة بحسبانـه واحـداً من المداميـك الذي على استـعادتـه قامـتِ النّهـضـة الأوروبيّـة وقامـت أوروبا الحديثـة. ليست تلك هي عيـنُـها عـلاقـة الثّـقافـة الغـربيّـة بـتـراثـات شعـوب الشّـرق والإسـلام؛ إذ هي تبقـى، في النّـهايـة، برّانيّـة عن التّـاريخ الـذّاتـيّ الأوروبيّ حتّى ولو أنّ الإسـلام مـثـلاً - وهـو الأقـرب احتكـاكـاً بأوروبا والمسيحيّـة فيها - كان يشـكّـل، بمعـنًـى مّـا، جـزءاً مـن تـاريخـها الموضوعـيّ.

لا نشـكّ في وجـود أسباب عـديدة غير معـرفـيّـة أو فكـريّـة تكمَـن خلـف هـذا الإهـمال المتـعـمَّـد لميـدان الاستـشـراق والـدّراسات الإسلاميّـة، وخـلـف تلك الرّغـبـة البـيّـنة في تهميشـه في الـدّوائـر الأكاديـميّـة. على أنّ هـذه الأسباب غير المعرفـيّـة، السّياسيّـة والإيـديـولوجيّـة، يشترك في صناعتها السّياسيّـون والباحثـون الغـربيّـون على السّـواء، ولا مجـال لتبرئـة جانـب الأخيـريـن من المسؤوليّة عن ذلك بـدعـوى أنّهم دارسـون أو مفـكّـرون أو «مـنـزَّهـون» عن الأغـراض الإيـديـولوجيّـة وعـن النّـزعات الاستعـلائيّـة الكيـديّـة التي تَـسِـمُ أفعال السّياسيّـيـن وأقـوالهم. ولعـلّ في صـدارة تلك الأسباب الموقـف السّـلبـيّ من الإسلام ومن العـرب، المبـنـيّ على نظـرةٍ نمطـيّـة إليهما ينـحـدر المعظـمُ من مادّتـها من كـتابات اللاّهوتـيّـين المسيـحيّـين في العصور الوسطـى، فيما يتـغـذّى ما هو حـديثٌ منها من الثّـقافـة الاستعماريّـة العنصـريّـة تجاه الآخَـر؛ وهي الـثّـقافة السّائـدة في بـلدان الغـرب. نعـم، إنّ الموقـف السّـلبيّ هذا عـامٌّ في بـلـدان الغـرب، يشمـل النّـخب السّياسيّـة والثّـقافـيّـة، لأنّ مبْـناهُ على ثـقافـةٍ جمعـيّـة شديدة الرّسـوخ. ومن البـيّـن أنّ مثـل هذا الموقـف الغـربيّ السّـلـبيّ تجاه الإسلام والاحتـقاريّ لرمـوزه وميراثـه لا يشجّـع أحـداً في الغـرب على الاحتـفال بأمـر هذا الإسلام في المؤسّسات الجامعيّـة والعـلميّـة، أو على تـقـديم الـدّعـم الماديّ والمعـنوي للمستـشرقيـن ولجمـعيّـاتهم العـلميّـة ولمراكـز الـدّراسات المهتـمّـة بالإسلام والثّـقافـة العربيّـة التي يعـملون فيها. لذلك تصطـدم هذه الفئـة من العلمـاء والـدّارسين المتخصّصيـن في ميـدان الإسلاميّـات بعـوائـق شتّـى من الحكـومات والجامعات ومن زملائـهم في المياديـن الأخـرى على نحـوٍ يُـلحـق أبـلغ الضّـرر بعـملهم الـدّراسيّ ويحُـطّ من قـدره.

على أنّ عامـلاً معـرفـيّـاً آخَـر يفـرض نفسـه على الباحث في هـذا الموضوع؛ إذْ يفـسّـر جـوانب من ذلك التّـهميش، ويلـقي ضـوءاً على بعـضٍ مـن «مـبرِّراته» من وجهة نظـر البحث العـلميّ. يتعلّـق الأمـر، في هـذا، بما اكـتـنـف ميـدان الاستـشراق من ركـودٍ علميّ لـفـترةٍ ممتـدّة لأسبابٍ تـتعلّـق بانغـلاق هـذا الميـدان على نفسه، والـدّوران في حلـقة تقـاليـده الفـكـريّـة والمنهجـيّـة الموروثـة عن بدايات القـرن التّاسـع عشر، وعـدم انـفـتاحه على مياديـن العـلوم الإنسانـيّـة والاجتماعـيّـة المعاصـرة وعلى مكـتسـبات ثـوراتها المعـرفـيّـة والمنهجـيّـة الجديدة. لقد ظلّ الاستـشراق وفـيّـاً لتـقاليـده المنهجيّـة التي أرسـتْـها التّاريخانـيّـة الألمانـيّـة، وفي القلب منها العمـل بالمنهـج الفـيلـولوجـيّ (الفـقـهـلغـوي): في التّـحـقيق - تحقيـق النّصـوص - كما في الـدّراسات. لم ينـتبـه أكـثرُهـم - وخاصّـة من المعاصريـن - إلى أنّ الـدّراسات ذات الطّبيعـة الفيـلولـوجيّـة أدّت وظيـفـتَـها العلميّـة التي كانت مطلوبـة منها قبل قـرن، وما عـاد يسعُـها الاستمرار بالعُـدّة ذاتها؛ وأنّ فيضـاً من مكتسبات المعرفـة تَـدَفَّـق من مـدّ مـياه العـلوم الإنسانـيّـة والاجتـماعيّـة. وقـد أَشْـعَـر انْـكـهافُ المستـشرقين في كهوفهـم الفيـلولـوجيّـة زملاءَهـم من الـدّارسيـن في المياديـن الأخـرى أنّـهم يعمـلون خارج قـواعـد البحث العلـميّ المعاصرة ومعايـيرها، لذلك قـوبـلوا بالصّـدّ والجـحـود منهم و، أحيـانـاً، بالإنكـار والاحتـقار!

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الإسلامی ـات العـلمی ـة فی الغـرب الس یاسی ـة التی

إقرأ أيضاً:

التشدد الإسلامي

#التشدد_الإسلامي
مقال الإثنين: 5 / 5 / 2025

بقلم : د. #هاشم_غرايبه .
ارتبط مفهوم التشدد في الأذهان بالإسلام، فلا تسمع عبارة مسيحي متشدد أو قومي متشدد أو حتى ملحد متشدد!. لماذا يا ترى؟.
لوعدنا إلى أصل المفهوم، لوجدناه: يعني موقفا فكريا يتسم بالتصلب والتزمت والمبالغة، وهو ليس مرتبطا بعقيدة محددة ، لكنه يغدو سمة فارقة للشخص المتصف به، يصبغ فهمه للأشياء فيعطيها مفهومه، فيظهر للمراقب وكأن التطرف سمة المعتقَد وليس الشخص المعتقِد.
والملاحظ أنه دائما ما يتسم الشخص المتشدد بالشك في نوايا الآخرين، وهي حالة نفسية أساسها عدم الثقة بالنفس، وتنتج الغلو والتطرف في فهم كل شيء ومنها الدين، فيبتعد عن منطوق المعتقد بدرجة تتناسب عن البعد عن نقطة المركز التي يتركز فيها مفهوم ذلك المعتقد.
لكن السؤال الهام: لماذا ارتبط كل ذلك بالإسلام حصرا رغم أنه ممكن في كل المعتقدات؟
السبب الرئيس هو في الطبيعة البنيوية للإسلام، فهو ليس مجرد معتقد فردي، بل هو مشروع عالمي يستهدف تنظيم العلاقات بين البشر بينيا، وبينهم وبين سائر الموجودات، وبهدف إسعاد الناس وحل جميع مشكلاتهم.
إذن هو ليس مجرد فكرة أخلاقية أو جمالية، ولا يتوقف عند تفسير فلسفة الوجود، بل يتدخل في حياة البشر، بهدف تحقيق المساواة والعدالة، ولما كان هكذا فسوف يصطدم بالعديد من مصالح الطامعين، ويتعارض مع كثير من الرغبات الشخصية واتباع الشهوات المحرمة، ويحد من معظم النوازع الأنانية.
من سيتقبله ويؤمن به هم العامة والمقهورون والمظلومون لأنه سينصفهم، أما من سيرفضه فهم كل المتضررين جراء ذلك، وبالطبع فلن يقفوا منه موقف اللا مبالاة، ورغم أن هؤلاء ليسوا أغلبية إلا أنهم الأقوى والأقدر على التأثير فهم يمتلكون النفوذ والمال والسلطة والإعلام ، التي تستطيع قلب المفاهيم.
السبب الثاني أن الإسلام متاح دخوله لأي شخص، وليس له قيادة كهنوتية يحتاج إلى موافقتها، بل مجرد نطق الشخص بالشهادتين يتيح له أن يختار مرتبته، وتحقيقه لمتطلبات التحصيل العلمي هي المتطلب الوحيد للإرتقاء، وتمكنه من التفسير والإجتهاد وحتى الإفتاء، ولا شك أن لذلك مخاطر أيضا، في الفهم الخاطيء عند البعض أو المغرض عند البعض الآخر.
السبب الثالث هو ردة الفعل المعاكسة لدى من يحسون بشراسة الحرب التي يشُنُّها معادو الإسلام، لتظهر بتطرف مضاد مساو له في المقدار ومعاكس في الإتجاه، ولما كان هؤلاء المعادون يمتلكون وسائل الإعلام والإتصالات فهم يبرزون رد الفعل فقط ويخفون الفعل الذي قاد الى ذلك، وعليه يظهر وكأن الدافع للتطرف هو طبيعة التشدد وأنها نابعة من منهج شرير.
كل ماذكرنا تفسير لنشوء التشدد وليس تبريرا له، فالأصل أن الإسلام دين الرحمة واللين والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا يوجد نص شرعي واحد يدعو إلى إكراه الناس على اتباعه، بل تجد عددا هائلا من النصوص ترفض التشدد والتطرف:
1 – أسلوب الدعوة محدد بقوله تعالى: “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..” [النحل:125]، وليس مطلوبا إجبار الناس على اعتناق الإسلام: “لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ” [البقرة:262].
2 – طبيعة المنهج الإعتدال، فلا تشدد ولا تفريط، وذلك أحد معاني الوسطية الوارد في قوله تعالى: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا” [البقرة:143].
3 – ليس الغلو والتشدد من الدين في شيء، وقد أظهره أسلوب التعامل اليومي للنبي صلى الله عليه وسلم، فما عرض عليه أمران إلا اختار أيسرهما، وقال: “إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم غلوهم في الدين”، كما قال: “إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه”.
الخلاصة : يتبين لنا أن طبيعة الدين هي الإعتدال في كل شيء حتى في العبادة، لأن المبالغة في أي شيء تفسده، فالحليب إن سخنته حتى درجة 70 م حفظته، لكن إن زاد ذلك عن ذلك أفسدته، وإن قلّ لم ينفعه.
وكذلك فإن التشدد والغلو والتطرف منفر طارد لمن لديه نية لدخول الدين، زيادة على أنه مفسد للدين ذاته، وإن الفِرق والمذاهب التي أفرطت في ذلك اعتقادا أنه دلالة على عمق الإيمان، لم تؤد أفعالها إلا إلى الإضرار بالدين، واستخدمها أعداؤه ذريعة للنيل منه والصد عنه.

مقالات مشابهة

  • التشدد الإسلامي
  • بوتين: الغرب حاول استفزاز روسيا لاستخدام الأسلحة النووية
  • الغرب يسعى إلى التوصل الى اتفاق يمنح اوكرانيا أنظمة باتريوت قبل قمة الأطلسي
  • الأرصاد: موجة حر تضرب الشرق والجنوب الليبي منتصف الأسبوع.. وانفراج نسبي في الغرب
  • الحضور السياسي العربي في أروقة الغرب
  • إيران والغرب صراع دائم أم بوادر من التفاهم؟
  • هل تعرف الأمم شكل الاستعمار الجديد الذي يمارسه الغرب؟
  • اعتراف صادم لوزير باكستاني: ساعدنا الغرب ثلاثة عقود في أعمال قذرة وندفع الثمن (شاهد)
  • احميد: شرق وجنوب ليبيا ينعمان بالأمن والاستقرار بعكس فوضى المليشيات في الغرب
  • إلا استيلا قايتانو يا جماعة!