الاستشراق الرقمي: كيف تصنع وسائل الإعلام الغربية شرقاً جديداً؟
تاريخ النشر: 1st, December 2025 GMT
#الاستشراق_الرقمي: كيف تصنع #وسائل_الإعلام_الغربية شرقاً جديداً؟
#الدكتور_حسن_العاصي
باحث أكاديمي في الأنثروبولوجيا
في هذا العصرٍ الذي تتداخل فيه الحدود بين الواقع والافتراض، وتتشابك فيه خيوط المعرفة مع خوارزميات المنصّات الرقمية، يبرز مفهوم الاستشراق الرقمي بوصفه امتداداً جديداً لخطابٍ قديم أعاد تشكيل نفسه داخل بيئة إعلامية أكثر تأثيراً وانتشاراً.
لقد أصبحت وسائل الإعلام الغربية لاعباً مركزياً في تشكيل المخيال الجمعي العالمي حول الشرق الأوسط والعالم الإسلامي وآسيا وشمال إفريقيا. فهي لا تنقل الأحداث فحسب، بل تصنع إطاراً تفسيرياً يحدد معنى الحدث، ويعيد ترتيب عناصره، ويُسقط عليه منظومة من القيم والتصورات المسبقة. وفي هذا السياق، يتحول الشرق إلى “شرق رقمي” جديد: شرقٍ مُفلتر، مُجزّأ، مُختزل في ثنائيات جاهزة مثل العنف/الاستقرار، الحداثة/التخلّف، الديمقراطية/الاستبداد، والحرية/التهديد. شرقٌ لا يُرى كما هو، بل كما تسمح به عدسات الكاميرات الغربية وخوارزميات المنصّات التي تُعيد تدوير الصور النمطية القديمة في قالبٍ معاصر.
إن الاستشراق الرقمي لا يقتصر على التغطيات الإخبارية، بل يمتد إلى صناعة الترفيه، وتحليلات الخبراء، وصور “الشرق” في السينما والمسلسلات، وحتى في نتائج البحث على الإنترنت. فحين يبحث المستخدم الغربي عن “العرب” أو “المسلمين” أو “الشرق الأوسط”، فإن ما يظهر أمامه ليس مجرد معلومات محايدة، بل منتج معرفي تشكّله شركات التكنولوجيا الكبرى وفق معايير تجارية وسياسية وثقافية. وهكذا، تتكرّس صورة الشرق كفضاء للأزمات، والحروب، والغرابة الثقافية، في حين تُهمّش جوانب الحياة اليومية، والإبداع، والتنوع، والتاريخ الاجتماعي الحقيقي لشعوبه.
إن هذا المقال يسعى إلى تفكيك آليات هذا الاستشراق الرقمي، وطرح سؤال جوهري: كيف تصنع وسائل الإعلام الغربية شرقاً جديداً؟ وما الذي يجعل الصورة الرقمية للشرق أكثر حضوراً وتأثيراً من الواقع نفسه؟ وهل نحن أمام إعادة إنتاج لخطاب استشراقي قديم، أم أمام شكل جديد من الهيمنة الرمزية التي تُمارس عبر البيانات والصور والخوارزميات؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة ليست مجرد تمرين نظري، بل ضرورة لفهم كيف يُعاد تشكيل وعينا بالعالم في زمن الإعلام الرقمي، وكيف يمكن للشرق أن يستعيد حقه في تمثيل ذاته بعيداً عن عدسات الآخر.
خلفية نظرية عن الاستشراق
يُعدّ مفهوم الاستشراق واحداً من أكثر المفاهيم إثارةً للجدل في حقل الدراسات الثقافية والإنسانية، لأنه لا يقتصر على كونه مجالاً معرفياً يهتم بدراسة الشرق، بل يتجاوز ذلك ليصبح منظومة فكرية وخطابية أسهمت في تشكيل علاقة غير متكافئة بين الغرب والشرق. تاريخياً، ظهر الاستشراق في البداية كتسمية علمية لمجموعة من الدراسات التي اهتمت باللغات الشرقية، والأديان، والتاريخ، والعادات، والجغرافيا، إلا أن القراءات النقدية الحديثة، وعلى رأسها قراءة إدوارد سعيد، كشفت أن هذا الحقل المعرفي لم يكن بريئاً أو محايداً، بل كان متشابكاً مع مشاريع القوة والهيمنة والاستعمار.
في القرون الثامن عشر والتاسع عشر وبدايات القرن العشرين، برز المستشرقون كخبراء في “شؤون الشرق”، يُجيدون لغاته، ويُدرّسون نصوصه الدينية والأدبية، ويُنتجون دراسات عن تاريخه ومجتمعاته. ظاهرياً، يبدو هذا جهداً علمياً يهدف إلى الفهم والمعرفة، لكن المشكلة الأساسية تكمن في زاوية النظر؛ فقد كانت عملية دراسة الشرق تتم عادةً من مسافة، ومن موقع تفوّق حضاري مزعوم، يُفترض فيه أن الغرب هو معيار التقدم والعقلانية والمدنية، بينما يُنظر إلى الشرق كموضوع للدراسة، وكـ“آخر” مختلف وغريب، يحتاج دائماً إلى تفسير وترجمة وتأطير.
هذا الموقع غير المتكافئ بين “الدارس” الغربي و“الموضوع” الشرقي جعل المعرفة المنتجة عن الشرق محمّلة، في كثير من الأحيان، بأحكام مسبقة، وصور نمطية، وتعميمات واسعة، مثل اعتبار الشرق عالماً ساكناً، غير تاريخي، تقليدياً، منغلقاً، عاطفياً وغير عقلاني. وهكذا، لم يكن الاستشراق مجرد مشروع معرفي، بل كان طريقة معينة لرؤية الشرق، طريقة تصنع شرقاً متخيلاً، يختلف كثيراً عن واقع المجتمعات الشرقية المعقد والمتنوع.
قراءة إدوارد سعيد: الاستشراق كخطاب
التحوّل الجذري في فهم الاستشراق جاء مع كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد (1978)، الذي نقل النقاش من مستوى “ما يقوله الاستشراق عن الشرق” إلى مستوى أعمق: كيف يُنتج الخطاب الاستشراقي الشرقَ ذاته ككيان متخيّل؟ استند سعيد إلى أعمال ميشيل فوكو حول الخطاب والسلطة، ليطرح فكرة أن الاستشراق ليس مجرد مجموعة من الكتب والأعمال الفنية، بل هو خطاب متكامل يربط بين المعرفة والقوة.
في هذا المنظور، يصبح الاستشراق شبكة من النصوص، والصور، والتمثيلات، والمؤسسات الأكاديمية، والسياسات، التي تعمل معاً على إنتاج “شرق” محدد الملامح: شرقٍ غامض، جنسي، استبدادي، متخلّف، يحتاج دائماً إلى توجيه أو إنقاذ أو إدارة من قبل الغرب. هذه الصورة ليست مجرد سوء فهم أو معلومات ناقصة، بل هي بنية متماسكة تخدم دوراً سياسياً واضحاً: تبرير السيطرة الاستعمارية، والتدخل السياسي، وفرض نماذج جاهزة للتقدم والتحضر.
بهذا المعنى، يصبح الاستشراق خطاباً يعمل على مستويين في الوقت نفسه. أولاً: على مستوى المعرفة: يقدم نفسه كعلم موضوعي محايد. ثانياً: وعلى مستوى السلطة: يخدم مشاريع الهيمنة الغربية، عبر تكريس صورة دونية عن الشرق ورفعة عن الغرب.
“الشرق” كاختراع رمزي
من أهم أفكار الاستشراق النقدي أن الشرق، كما يقدمه الخطاب الغربي، ليس “الشرق الحقيقي” بتعقيداته، بل هو شرق مُتخيَّل تم بناؤه عبر عقود من الكتابة، والرسم، والبحث، والسياسة. هذا الشرق المتخيّل يعمل كمرآة عكسية يرى الغرب فيها ذاته؛ فهو يجعل الغرب يبدو عقلانياً، حراً، متقدماً، في مقابل شرق يُقدَّم كمقابل نقيض: عاطفي، مقموع، متخلّف. وبذلك، لا يكون الاستشراق مجرد حديث عن الآخر، بل هو أيضاً طريقة لبناء صورة الذات الغربية عبر مقارنة مستمرة مع “الآخر الشرقي”.
هذا الاختراع الرمزي للشرق يختزل التنوع الهائل للثقافات واللغات والتجارب التاريخية في قالب واحد، ويحوّل مجتمعات كاملة إلى نمط واحد مسطَّح. فالعرب، والفرس، والهنود، والأتراك، والمسلمون، والآسيويون – بكل ما بينهم من اختلافات – يتم دمجهم في صورة واحدة اسمها “الشرق”، كأنهم كتلة متجانسة لها صفات مشتركة ثابتة لا تتغير.
جزء أساسي من قوة الاستشراق أنه تشكّل بالتوازي مع صعود الحداثة الأوروبية وتوسع الإمبراطوريات الاستعمارية. فكلما توسع النفوذ الغربي في الشرق، ازدادت الحاجة إلى معرفة هذه المجتمعات من أجل إدارتها والسيطرة عليها. هنا تبرز فكرة مركزية: المعرفة ليست منفصلة عن السلطة. فالدراسات التفصيلية عن جغرافيا الشرق، وتركيب مجتمعاته، ونُظمه القبلية أو الدينية، لم تكن مجرد فضول علمي، بل كانت أيضاً أدوات عملية لتسهيل السيطرة السياسية والعسكرية والاقتصادية.
وهكذا، يمكن القول إن الاستشراق كان جزءاً من البنية التحتية الفكرية للمشروع الاستعماري؛ فبينما كانت الجيوش والأساطيل تتقدم على الأرض، كانت الكتب والأبحاث تُمهّد الطريق، وتمنح هذه السيطرة غطاءً معرفياً وأخلاقياً، عبر تصوير الشرق كمجال يحتاج إلى “تمدين” و“تحديث” و“تحرير” من تخلفه الذاتي المزعوم.
من الاستشراق الكلاسيكي إلى الاستشراق المعاصر
مع نهاية الحقبة الاستعمارية بشكلها المباشر، لم يختفِ الاستشراق، بل غيّر أشكاله. فلم يعد المستشرق اليوم ذلك الباحث الكلاسيكي الذي يجلس في مكتبه يترجم نصوصاً عربية أو فارسية فقط، بل أصبح الاستشراق حاضراً في وسائل الإعلام، والسينما، والأكاديميا، والخطاب السياسي، بل وفي المناهج التعليمية أيضاً. ومع كل أزمة أو حرب أو حدث مرتبط بالشرق، تُعاد تنشيط الصور القديمة، وتظهر مفردات استشراقية في ثوب جديد: “العالم الإسلامي”، “المناطق الخطرة”، “محور الشر”، “حزام التطرف”، وغيرها من التعابير التي تضع الشرق داخل إطار جاهز من الشك والريبة والتهديد.
هذا التحوّل من الاستشراق الكلاسيكي إلى ما يمكن تسميته بـ“الاستشراق المعاصر” يفتح الباب للحديث عن الاستشراق الرقمي بوصفه امتداداً جديداً لهذا التاريخ الطويل؛ فبدلاً من أن تُنتج الصورة في كتاب أو لوحة فقط، باتت تُصنع اليوم عبر الشاشات، والمنصات، والخوارزميات، وهو ما يجعل حضورها أكثر كثافة وانتشاراً وتأثيراً على وعي الجمهور العالمي.
أهمية هذه الخلفية لفهم الاستشراق الرقمي
إن فهم الاستشراق بهذا العمق النظري لا يُعدّ ترفاً فكرياً، بل هو شرط أساسي لفهم كيف تعمل وسائل الإعلام الغربية اليوم في إنتاج “شرق رقمي جديد”. فالصور النمطية التي تظهر في العناوين العاجلة، والتقارير الإخبارية، والأفلام والمسلسلات، ليست معزولة عن هذا التاريخ، بل هي امتداد له داخل سياق تقني جديد. ما تغير هو الوسيط وسرعة الانتشار وكمية البيانات، لكن كثيراً من البُنى الذهنية التي حكمت نظرة الغرب إلى الشرق ما زالت حاضرة، وإن كانت تتخفى خلف لغة أكثر مهنية وموضوعية ظاهرياً.
من هنا، تصبح دراسة الاستشراق الرقمي محاولة لربط الماضي بالحاضر: رصد كيف انتقل خطاب قديم من الكتب والمستعمرات إلى الخوادم الرقمية ومنصات التواصل، وكيف ما زال الشرق يُعاد إنتاجه كصورة أكثر مما يُفهم كواقع. هذه الخلفية النظرية ليست سوى نقطة الانطلاق لقراءة أعمق لكيفية صناعة “شرق جديد” في زمن الإعلام الرقمي، وهو ما سيتناوله المقال في محاوره اللاحقة.
مفهوم الاستشراق الرقمي
يشير الاستشراق الرقمي إلى انتقال الخطاب الاستشراقي التقليدي—الذي كان يُنتج عبر الكتب والرحلات والدراسات الأكاديمية—إلى الفضاء الرقمي، حيث تتولى وسائل الإعلام الغربية، والمنصّات الاجتماعية، ومحركات البحث، وخوارزميات الذكاء الاصطناعي مهمة إعادة تشكيل صورة الشرق في الوعي العالمي. فوفقاً لتحليلات حديثة، فإن الاستشراق لم يختفِ، بل “اتخذ شكلاً جديداً في عصر الإعلام الرقمي” عبر ما يُسمّى Digital Orientalism، حيث تستمر الصور النمطية القديمة في الظهور، ولكن عبر وسائط أكثر حداثة وانتشاراً.
في هذا السياق، يصبح الشرق منتجاً رقمياً يُعاد تشكيله من خلال آليات تقنية لا تبدو سياسية في ظاهرها، لكنها تحمل في جوهرها تحيزات ثقافية ومعرفية. فخوارزميات المنصّات الكبرى—مثل فيسبوك، يوتيوب، إنستغرام، وتويتر—تعمل على تضخيم محتوى معين وإخفاء آخر، مما يؤدي إلى تكريس صورة محددة عن الشرق باعتباره فضاءً للأزمات، والصراعات، والغرابة الثقافية. وقد أشارت دراسات في مجال الإعلام إلى أن هذه التحيزات الرقمية ليست مجرد أخطاء تقنية، بل امتداد لبنية معرفية غربية ما زالت تنظر إلى الشرق من خلال ثنائية “الغرب/الآخر” التي تهيمن على كثير من التحليلات الإعلامية المعاصرة.
كما يبرز الاستشراق الرقمي في الرقابة على المحتوى، حيث تُظهر تقارير بحثية أن المحتوى العربي أو المتعلق بقضايا الشرق الأوسط يتعرض لحذف أو تقييد أكبر مقارنة بغيره، وهو ما وصفه باحثون بأنه “شكل جديد من الاستشراق في الفضاء الرقمي” نتيجة إخفاقات الحوكمة الرقمية وتحيزاتها البنيوية. هذا يعني أن الشرق لا يُعاد تمثيله فقط عبر الأخبار والصور، بل أيضاً عبر التحكم فيما يُسمح له بالظهور وما يُحجب، مما يجعل المنصّات الرقمية شريكاً في إنتاج “شرق افتراضي” يتوافق مع التصورات الغربية السائدة.
وبذلك، يمكن القول إن الاستشراق الرقمي هو عملية إعادة إنتاج للشرق كصورة أكثر منه كواقع، حيث تتداخل القوة التقنية مع القوة الرمزية لتشكيل وعي عالمي منحاز. إنه استشراق لا يُمارَس عبر المستشرق التقليدي، بل عبر الخوارزمية التي تختار ما نراه، والمنصة التي تحدد ما ينتشر، والإعلام الذي يصوغ سرديات جاهزة عن الشرق. وهذا ما يجعل الاستشراق الرقمي أكثر خطورة من سابقه: فهو غير مرئي، سريع، عالمي، ويعمل تحت غطاء “الحياد التقني” بينما يعيد إنتاج علاقات القوة القديمة في ثوب جديد.
آليات عمل الاستشراق الرقمي
تعمل آليات الاستشراق الرقمي ضمن منظومة معقدة تجمع بين الإعلام، التكنولوجيا، والخوارزميات، بحيث تُعاد صياغة صورة الشرق داخل الفضاء الرقمي بطريقة تبدو “حديثة” لكنها تحمل جذوراً عميقة في الخطاب الاستشراقي التقليدي. وتشير الدراسات الحديثة إلى أن الاستشراق في العصر الرقمي لا يُمارَس فقط عبر النصوص أو التحليلات، بل عبر بُنى تقنية تتحكم في تدفق المعلومات، وتعيد ترتيبها، وتضفي عليها معنى محدداً يخدم رؤية غربية للعالم.
1ـإعادة إنتاج الصور النمطية عبر الإعلام الرقمي
وسائل الإعلام الغربية الرقمية—من المواقع الإخبارية إلى المنصّات الاجتماعية—تستمر في تقديم الشرق ضمن إطار جاهز: الشرق كمنطقة صراعات، وكفضاء للغرابة الثقافية، وكتهديد سياسي أو أمني
هذه التمثيلات ليست عشوائية، بل جزء من ممارسات تأطير إعلامي تُظهر الشرق من خلال عدسة تبسيطية، وهو ما أشارت إليه تحليلات نقدية لخطاب الإعلام العالمي الذي يعيد تدوير الصور النمطية القديمة في سياق رقمي جديد.
2ـ الخوارزميات كأدوات لإعادة تشكيل الوعي
الخوارزميات التي تدير المنصّات الرقمية—مثل فيسبوك، يوتيوب، ومحركات البحث—تلعب دوراً مركزياً في تكريس الاستشراق الرقمي. فهي: تضخّم المحتوى الذي ينسجم مع السرديات الغربية. وتقلل ظهور المحتوى الذي يعرض الشرق بصورة مختلفة. وتفضّل المحتوى المثير أو الصادم، ما يعزز الصور السلبية.
وبذلك، تصبح الخوارزمية فاعلًا ثقافياً يعيد إنتاج الشرق وفق منطق تجاري وسياسي، وليس وفق الواقع. هذا ما تؤكده دراسات تناولت كيفية تشكّل “الشرق الرقمي” عبر آليات تقنية غير محايدة.
3ـ الرقابة الرقمية والتحكم في المحتوى
تشير أبحاث حديثة إلى أن المحتوى المتعلق بالشرق الأوسط أو الصين أو المجتمعات الإسلامية يتعرض أحياناً لرقابة أو حذف أو تقييد أكبر من غيره، نتيجة تحيزات مضمّنة في سياسات المنصّات أو في آليات الإشراف على المحتوى. هذه الرقابة لا تُمارَس دائماً بشكل مباشر، بل قد تكون نتيجة: قواعد غير متوازنة. وأنظمة كشف تلقائي متحيزة. معايير “السلامة” التي تُطبّق بشكل غير متساوٍ. وهكذا، لا يتم فقط إعادة إنتاج الشرق، بل أيضاً إعادة تشكيل ما يُسمح له بالظهور.
4ـ التأطير الخطابي في التحليلات الغربية
التحليلات الغربية للأحداث في الشرق—سواء في الإعلام أو مراكز الأبحاث—تستخدم أحياناً لغة تُعيد إنتاج ثنائية “الغرب المتقدم” مقابل “الشرق المتخلّف”. هذا التأطير يظهر من خلال التغطيات السياسية، والتحليلات الأمنية، ولنقاشات حول التكنولوجيا والرقمنة في الشرق.
وقد أشارت دراسات مقارنة إلى أن هذا التأطير يُعدّ شكلاً من أشكال “الاستشراق الأخلاقي” الذي يقيّم الشرق وفق معايير غربية مسبقة.
5ـ الانتقائية في عرض الأحداث
الاستشراق الرقمي يعمل أيضاً عبر انتقاء ما يُعرض من الشرق، ولتركيز على العنف وإهمال الحياة اليومية، وإبراز التطرف وإخفاء الإبداع، وتضخيم الأزمات وتجاهل النجاحات.
هذه الانتقائية تُنتج شرقاً “مفبركاً” يتوافق مع توقعات الجمهور الغربي، ويعزز سرديات الهيمنة الثقافية. إن الاستشراق الرقمي ليس مجرد خطاب إعلامي، بل بنية تقنية–معرفية تعمل عبر الخوارزميات، التأطير الإعلامي، الرقابة، والانتقائية. إنه استمرار للاستشراق التقليدي، لكن بوسائل أكثر قوة وانتشاراً وتأثيراً.
أمثلة تطبيقية على الاستشراق الرقمي
هذه الأمثلة تُظهر كيف تعمل الخوارزميات، الإعلام، والمنصّات الرقمية على تكريس صورة “شرق جديد” يتوافق مع التصورات الغربية، كما تشير دراسات حديثة تناولت الظاهرة في سياق الإعلام الرقمي.
1 تغطية الشرق الأوسط كمنطقة أزمات فقط
تشير تحليلات نقدية إلى أن الإعلام الرقمي الغربي يركّز بشكل مفرط على الحروب، الإرهاب، والصراعات عند الحديث عن الشرق الأوسط، بينما يُهمل الحياة اليومية، الثقافة، الإبداع، والعلوم. هذا النمط من التغطية يعيد إنتاج صورة الشرق كفضاء دائم للعنف، وهو مثال مباشر على الاستشراق الرقمي الذي يختزل المنطقة في “أزمة مستمرة”.
2 الصور النمطية عن المسلمين في المنصّات الرقمية
تُظهر دراسات أن المحتوى المتعلق بالمسلمين غالباً ما يُقدَّم في سياق التطرف أو الأمن، مما يعزز صورة “المسلم الخطر” أو “المسلم الغريب”. هذا النوع من التمثيل الرقمي يعكس استمرار الصور الاستشراقية القديمة في بيئة الإنترنت الحديثة.
3 التركيز على “غرابة” الثقافات الآسيوية
تشير تحليلات حول “الاستشراق الافتراضي” إلى أن المنصّات الرقمية الغربية تُبرز الثقافات الآسيوية—مثل الصين والهند—كعالم غريب، غامض، أو غير مفهوم، خصوصاً في سياق التكنولوجيا أو السياسة. هذا ما وصفته دراسات بأنه “جغرافيا جديدة للتمثيل” في العصر الرقمي.
4 التحيّز الخوارزمي في نتائج البحث
عند البحث عن كلمات مثل “Arab” أو “Muslim”، تظهر نتائج مرتبطة بالعنف أو الصراعات أكثر من نتائج تتعلق بالثقافة أو الحياة اليومية. هذا مثال على تحيّز خوارزمي يعيد إنتاج الصور النمطية دون تدخل بشري مباشر، لكنه يعكس بنية معرفية غربية.
5 الرقابة غير المتوازنة على المحتوى الشرقي
تشير تقارير بحثية إلى أن المحتوى المتعلق بقضايا الشرق الأوسط يتعرض أحياناً لحذف أو تقييد أكبر من غيره، نتيجة تحيزات في سياسات الإشراف على المحتوى. هذا النوع من الرقابة الرقمية يُعد شكلاً من “الاستشراق الرقمي” لأنه يتحكم فيما يُسمح للشرق أن يقوله أو يظهره.
6 الترفيه الرقمي وصناعة “الشرق المتخيل”
تُظهر أمثلة من السينما والمسلسلات الغربية التي تُعرض على المنصّات الرقمية أن الشرق يُقدَّم غالباً كفضاء مليء بالغرابة، السحر، أو العنف. هذه الصور تُعاد تدويرها رقمياً وتنتشر بسرعة عبر المنصّات، مما يعزز “شرقاً افتراضياً” بعيداً عن الواقع.
نحو تفكيك الاستشراق الرقمي وإعادة بناء السردية
يكشف تحليل الاستشراق الرقمي عن تحوّل عميق في الطريقة التي يُعاد بها تشكيل الشرق داخل الفضاء الإعلامي المعاصر. فبدلاً من الخطابات الكلاسيكية التي كانت تُنتج عبر الكتب والرحلات والدراسات الأكاديمية، أصبح الشرق اليوم يُصاغ من خلال منظومة تقنية واسعة تتداخل فيها الخوارزميات مع سياسات المنصّات وأساليب التغطية الإخبارية. هذا التحوّل لا يعني اختفاء الاستشراق، بل انتقاله إلى مستوى أكثر خفاءً وتأثيراً، حيث تتولى التكنولوجيا مهمة إعادة إنتاج التمثيلات القديمة في قالب جديد يبدو محايداً لكنه يحمل في داخله نفس البُنى المعرفية التي حكمت علاقة الغرب بالشرق عبر قرون.
إن خطورة هذا الشكل الجديد من الاستشراق تكمن في قدرته على الانتشار السريع، وفي تأثيره المباشر على تشكيل الوعي العالمي. فالصورة التي تُبنى رقمياً لا تبقى داخل حدود الإعلام، بل تتحول إلى مرجع ثقافي وسياسي يؤثر في السياسات العامة، وفي تصورات الشعوب، وفي العلاقات الدولية. ومع كل عملية بحث، أو مشاركة، أو توصية خوارزمية، تتكرّس صورة “شرق رقمي” يبتعد عن الواقع، ويقترب من الخيال الذي صاغته القوى المهيمنة.
ومع ذلك، فإن هذا الواقع لا يعني استسلام الشرق لتمثيلات الآخر. فالمشهد الرقمي نفسه يتيح إمكانات واسعة لإنتاج سرديات بديلة، ولإعادة تقديم الذات بعيداً عن الفلاتر الغربية. إن الوعي بآليات الاستشراق الرقمي هو الخطوة الأولى نحو تفكيكه، أما الخطوة التالية فهي بناء حضور رقمي قادر على تقديم الشرق كما هو: متنوعاً، معقداً، نابضاً بالحياة، وغير قابل للاختزال في صورة واحدة.
بهذا المعنى، يصبح فهم الاستشراق الرقمي ضرورة معرفية وأخلاقية في زمن تتشكل فيه الحقائق عبر الشاشات. فالمعركة لم تعد فقط حول من يملك القوة، بل حول من يملك القدرة على رواية القصة.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: وسائل الإعلام الغربية وسائل الإعلام الغربیة الحیاة الیومیة الإعلام الرقمی الصور النمطیة من الاستشراق الشرق الأوسط إعادة إنتاج على المحتوى صورة الشرق القدیمة فی یعید إنتاج أن المحتوى عن الشرق من خلال م الشرق ل الشرق فی سیاق وهو ما التی ت س صورة إلى أن فی هذا
إقرأ أيضاً:
الهيئة الوطنية تدعو وسائل الإعلام لحضور مؤتمر إعلان نتيجة المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب
تدعو الهيئة الوطنية للانتخابات جميع وسائل الإعلام المحلية والأجنبية والصحفيين والإعلاميين لحضور وقائع المؤتمر الصحفي الذي تعقده الهيئة بمسرح التليفزيون المصري - ماسبيرو غدا الثلاثاء في تمام الساعة الثانية ظهراً، لإعلان نتائج الجولة الأولي للمرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب 2025.
واصل المصريون بالخارج التصويت فى إعادة المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب 2025 بـ19 دائرة ألغتها الهيئة الوطنية للانتخابات خلال الإعلان عن نتيجة تلك المرحلة، والإعادة بالدائرة الثانية ومقرها مركز إطسا بمحافظة الفيوم على أن يبدأ التصويت بها يومى الأربعاء والخميس الموافقين 3 و4 ديسمبر الجارى.
وفى سياق متصل، تعلن الهيئة الوطنية للانتخابات برئاسة القاضى حازم بدوى، نتيجة المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب فى الساعة الثانية ظهرا غدا الثلاثاء فى مؤتمر صحفى حسب الجدول الزمنى المحدد، ومن المتوقع أن تعلن الجدول الزمنى للدوائر التى تم إلغاء نتائجها بالمرحلة الأولى والتى أصدرتها المحكمة الإدارية العليا.
بدأت أول دولة فتح مقرها الانتخابي بسفارة دولة نيوزيلندا، فى مقر سفارة مصر بالعاصمة ويلينجتون، حتى فتح آخر اللجان فى لوس أنجلوس، وقام السفير خالد الأبيض سفير مصر لدى الأردن ورئيس اللجنة الانتخابية، قبيل بدء عملية التصويت، بالإشراف على التجهيزات والتأكد من توافر جميع التسهيلات أمام الناخبين، بما يضمن إدلاءهم بأصواتهم خلال يومي التصويت بكل سهولة ويسر.
وأنهت السفارة المصرية في عمان استعداداتها النهائية لاستقبال الناخبين، للتصويت في مقر السفارة المصرية في عمان وفي مقر القنصلية المصرية في العقبة، باستخدام جواز السفر المصري الساري أو بطاقة الرقم القومي الأصلية سواء كانت سارية أو غير سارية.
من جانبه، أكد قنصل مصر فى دبى السفير حسام حسين أن البعثات الدبلوماسية والقنصلية المصرية فى الإمارات فتحت أبوابها لبدء عملية تصويت أبناء الجالية المصرية المقيدين فى الدوائر التى تقرر إلغاء نتائجها بالتنسيق مع الجهات المصرية المعنية للانتخابات ووزارة الخارجية والدولة المضيفة، موضحا أن القنصلية المصرية في دبي تعمل على توفير كافة الاحتياجات للمواطنين خلال الإدلاء بأصواتهم سواء من كبار السن أو ذوى الاحتياجات الخاصة مثل توفير الكراسي المتحركة وتنظيم الأماكن المخصصة لهم، مشيرا إلى أن نسبة الإقبال مقارنة بالجولة الأولى من الانتخابات قد زادت، وهناك توافد من الناخبين المصريين على مراكز الاقتراع، لافتا إلى أن الفترة من 1-2 ديسمبر عطلة رسمية في الإمارات، مما يساعد في سهولة حضور المواطنين، وتم رصد أعداد كثيرة من المواطنين جاءوا من مناطق مختلفة مثل الفجيرة وعجمان ورأس الخيمة.
وتضم الدوائر الدائرة الثامنة ومقرها قسم إمبابة بمحافظة الجيزة، الدائرة الأولى ومقرها مركز الفيوم، والدائرة الرابعة ومقرها مركز أبشواى بمحافظة الفيوم، وبمحافظة أسيوط الدائرة الثالثة ومقرها مركز الفتح، وبمحافظة سوهاج الدائرة الأولى ومقرها مركز سوهاج، الدائرة الثانية ومقرها مركز أخميم، الدائرة الثالثة ومقرها مركز المراغة، الدائرة الرابعة ومقرها مركز طهطا، الدائرة الخامسة ومقرها مركز جرجا، الدائرة السادسة ومقرها مركز المنشأة، الدائرة الثامنة ومقرها مركز دار السلام، وبمحافظة قنا الدائرة الأولى ومقرها مركز قنا، الدائرة الثانية ومقرها مركز قوص، الدائرة الثالثة ومقرها مركز نجع حمادي، الدائرة الرابعة ومقرها مركز أبو تشت، وبمحافظة الإسكندرية الدائرة الثانية ومقرها قسم أول الرمل، وبمحافظة البحيرة الدائرة الأولى ومقرها قسم دمنهور، الدائرة الثالثة ومقرها مركز أبو حمص، الدائرة الثامنة ومقرها مركز إيتاي البارود، كما تجرى في ذات التوقيئات جولة الإعادة للمرحلة الأولى في الدائرة الثانية ومقرها مركز إطسا بمحافظة الفيوم.
وتجرى الإعادة فى الدائرة الثانية ومقرها مركز إطسا بمحافظة الفيوم بين 4 مرشحين، وهم : ياسر عبد التواب سلومه محمد وشهرته اللواء ياسر سلومه عن حزب حماة وطن ومصطفى عبد اللطيف محمود مصطفى وشهرته مصطفى البنا «مستقل»، حسام خليل عبد الرازق أبو بكر وشهرته دكتور حسام خليل «مستقل»، أكرم محمد على عبد العال وشهرته أكرم شعت عن حزب مستقبل وطن.
وأكدت الهيئة الوطنية للانتخابات أنه بمناسبة صدور الأحكام القضائية عن المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة فى الطعون المقدمة إليها على إعلان النتائج بعدد من دوائر المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب، وضمن الإطار الزمني المحدد طبقا للجدول الإجرائي والزمني للانتخابات الصادر عن مجلس إدارة الهيئة والمعلن فى أكتوبر من العام الجارى.
أوضحت الهيئة الحرص الكامل من جانبها على تنفيذ الأحكام القضائية التي تخص الطعون الانتخابية باعتبارها جزءا أساسيا لا يتجزأ من مجريات العملية الانتخابية، وتعكف الهيئة بعد تسلم أحكام المحكمة الإدارية العليا على دراستها وإعداد التقرير اللازم في شأن تنفيذ تلك الأحكام، والمقترحات التي تخص مواعيد وتوقيتات إجرائها فىي الداخل والخارج، تمهيدا لعرضه على مجلس إدارة الهيئة لاتخاذ ما يراه مناسبا.
وستقوم الهيئة بالاعلان فورا عن كافة القرارات التي تتخذها في شأن تلك الدوائر الانتخابية، وتعاود الهيئة التذكير أن المرجعية الأساسية لكافة ما تتخذه من قرارات وإجراءات في الدستور والقانون، مع الحرص على إعلاء مبادىء الشفافية والنزاهة، وأن مرحلة الطعن أمام قضاء مجلس الدولة، تمثل ضمانة بوصفها رقابة قضائية لاحقة.
تصريحات المستشار أحمد بندارى رئيس الجهاز التنفيذي للهيئة
قال المستشار أحمد بندارى، المدير التنفيذى للهيئة الوطنية للانتخابات، ردا على موقف فوز القائمة الوطنية من أجل مصر بعد إلغاء دوائر بالمرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب إن الأمر مختلف تماما لأن النظام الفردى مستقل ونظام القائمة المطلقة نظام آخر تماما حيث يتم إعداد اللجان الفرعية بصندوقين، أحدهما للنظام الفردى والآخر لنظام القوائم وهو النظام القانونى للإدلاء بالصوت بجمهورية مصر العربية.
وأوضح أن تصويت الناخب على نظام القائمة مختلف عن الفردى وبالتالي عندما يُبطل الفردى لا يتعرض لنظام القوائم والعكس صحيح فلو أُبطل صندوق القوائم لا يبطل صندوق الفردى.
وأكد أنه يمكن إبطال القائمة فى حالة وجود أكثر من قائمة ساعتها سيكون هنك تنافس وقد يحدث ماحدث بالنسبة للفردى خاصة وأن النظام الفردى يحدث به تنافس بين أكثر من مرشح وتأثير على الأصوات أكثر، أما القائمة باعتبارها واحدة فى 4 قطاعات فعملية إبطال التصويت فى القائمة مختلفة وهذا لا يحدث لأنه لم يكن هناك تأثير على إرادة الناخبين.
وأضاف أنه ستجرى جولة الإعادة فى دائرة واحدة وهى إطسا بمحافظة الفيوم، بينما الهيئة قررت إلغاء 19 دائرة، فى محافظات الجيزة، الفيوم، أسيوط، سوهاج، قنا، الإسكندرية، البحيرة، وتجرى الانتخابات فى تلك الدوائر فى الخارج يومى 1 و2 ديسمبر وفى الداخل 3 و4 ديسمبر الجارى.
وأشار بندارى إلى أن الهيئة تدرس حاليًا الأحكام الصادرة عن المحكمة الإدارية العليا بإلغاء 30 دائرة انتخابية، وأنه جارى إعداد تقرير وجدول زمنى مقترح لمجلس إدارة الهيئة الوطنية للانتخابات لإقراره وإطلاع الرأى العام على مجريات العملية الانتخابية فى هذه الدوائر.
وفى رده على سؤال حول تأثير تعدد الطعون على الجدول الزمنى للانتخابات، أكد بندارى أن الهيئة تعد خططًا افتراضية تشمل احتمال إلغاء دوائر أو صدور أحكام قضائية، موضحًا أن الجدول الزمنى الذى أعلن فى 4 أكتوبر يتيح للهيئة التعامل مع أى تعديل أو إعادة فى أى دائرة ضمن المدد القانونية لتنفيذ الاستحقاق الدستورى.
وأكد أن أى أحكام قضائية أو تعديلات فى بعض الدوائر لن تؤثر على موعد الانتخابات المقرر أو على سير العملية الانتخابية، مشددًا على أن الهيئة ملتزمة بتنفيذ الاستحقاق الدستورى فى موعده المعلن، بما يضمن استكمال المجلس التشريعى قبل 12 يناير 2026.