لماذا تتفوّق الولايات المتحدة اقتصاديا على الدول الغنية الأخرى؟
تاريخ النشر: 16th, October 2024 GMT
تناول تقرير حديث لصحيفة "إيكونوميست" التفوق الاقتصادي للولايات المتحدة على باقي الدول الغنية، مشيرا إلى أنه في تسعينيات القرن الماضي توقعت لجنة سياسات التنافسية الأميركية بأن اقتصاد البلاد سيعاني من نمو أبطأ مقارنةً بالدول الصناعية الأخرى على مدى المستقبل المنظور.
وكان هذا التقييم -وفق الصحيفة- يعكس القلق المتزايد آنذاك من تفوق الاقتصاديات الأخرى مثل اليابان وأوروبا.
ولكن الواقع أثبت خطأ هذه التوقعات، فبينما دخلت اليابان فترة طويلة من الركود وتباطؤ النمو في أوروبا، شهدت الولايات المتحدة نهضة اقتصادية مصغرة قادتها ثورة الإنترنت.
واليوم، رغم التحديات والمخاوف الجديدة من فقدان الولايات المتحدة موقعها الاقتصادي المهيمن في ظل الصعود الصيني فإن الاقتصاد الأميركي أثبت أنه لا يزال يتفوق على منافسيه حيث نما بوتيرة أسرع من الاقتصادات المتقدمة الأخرى طوال العقود الثلاثة الماضية، بحسب الصحيفة.
أداء اقتصادي أفضلومنذ بداية عام 2020، وقبل جائحة كوفيد-19، سجل الاقتصاد الأميركي نموًا حقيقيًا بلغ 10%، وهو ما يعادل 3 أضعاف متوسط النمو في باقي دول مجموعة السبع "جي 7" (G7).
وبحسب صندوق النقد الدولي، تُعد الولايات المتحدة الدولة الوحيدة ضمن مجموعة العشرين "جي 20" (G20) التي تجاوز ناتجها الاقتصادي وأرقام التوظيف فيها التوقعات قبل الجائحة.
وقد انعكست هذه الديناميكية الاقتصادية على الحياة اليومية للأميركيين، حيث زادت رحلاتهم وإنفاقهم بالخارج، مما يعكس مستوى الثقة في الاقتصاد الداخلي وقدرته على توفير الفرص والوظائف وفقا لذات المصدر.
قوة الدولار وزيادة الثقة بالاقتصادوترافق النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة مع تعزيز مكانة الدولار كعملة عالمية مهيمنة.
وبحسب إيكونوميست فإن قوة الدولار تعني قدرة الشركات الأميركية على الدخول بسهولة في التجارة الدولية، وكذلك قدرة المستثمرين الأجانب على الثقة في الأصول الأميركية.
وقد تجلى ذلك في الأعداد الكبيرة للأميركيين الذين يسافرون وينفقون مبالغ قياسية خارج البلاد، مما يعكس القوة الشرائية العالية للدولار.
ورغم التوقعات التي سادت قبل عقد مضى بأن الصين ستتجاوز الاقتصاد الأميركي لتصبح أكبر اقتصاد في العالم، إلا أن الواقع يشير إلى عكس ذلك. فقد شهدت الصين تباطؤًا في نمو ناتجها المحلي الإجمالي، الذي انخفض إلى حوالي 65% من الناتج الأميركي عام 2024 بعد أن كان 75% عام 2021.
مزايا جغرافية وبنية تحتية قويةووفق إيكونوميست يُعزى جزء كبير من هذا النجاح إلى ميزات جغرافية تتمتع بها الولايات المتحدة. وكاقتصاد شبه قاري يمتد عبر 50 ولاية، تستطيع الشركات الأميركية الوصول بسهولة إلى سوق استهلاكية ضخمة ومتنوعة.
وتتيح هذه السوق للشركات إطلاق منتجاتها أو تطبيق أفكارها بسرعة وكفاءة على نطاق واسع، من كاليفورنيا إلى ميشيغان وبقية الولايات.
بالإضافة إلى ذلك، تتمتع الولايات المتحدة بسوق عمل كبير ومتكامل يتيح للعمال التنقل إلى الوظائف الأفضل ويجذب القوى العاملة إلى القطاعات الأكثر إنتاجية.
كما يُعد امتلاك الولايات المتحدة حدودا مفتوحة نسبياً مع دول أميركا اللاتينية مصدراً لتعزيز القوى العاملة، حيث يوفر تدفق العمالة اليدوية المطلوبة للقطاعات الصعبة مثل الزراعة والبناء ما يعزز من قوة الاقتصاد الأميركي.
نجاح الاقتصاد الأميركي -وفق إيكونوميست- لا يقتصر على مزايا السوق الحر، فقد لعبت السياسات الحكومية دورًا محوريًا في تحفيز النمو وتعزيز الاستقرار الاقتصادي.
وفي أوقات الأزمات، مثل الأزمة المالية العالمية 2007-2009، اتخذت الحكومة الأميركية إجراءات حازمة لإنعاش الاقتصاد، مثل تنظيف الميزانيات العمومية للبنوك واستخدام السياسات النقدية بشكل مكثف لدعم النمو.
وخلال تباطؤ جائحة كوفيد-19، استجابت الحكومة بحزم من خلال تقديم حزم تحفيزية ضخمة ساعدت الاقتصاد الأميركي على التعافي بوتيرة أسرع من نظيراته في الدول الأخرى، وفق الصحيفة.
وعلى الرغم من أن هذا الدعم المالي أسهم في ارتفاع التضخم العالمي، إلا أنه يعكس استعداد الحكومة للتدخل عندما يتطلب الأمر ذلك.
تحديات وقلق حول الاستدامةورغم الأداء الاقتصادي القوي، إلا أن الولايات المتحدة تواجه تحديات كبيرة تعكس جوانب ضعف في النموذج الاقتصادي.
فمثلاً، يبلغ متوسط العمر المتوقع للمولودين في الولايات المتحدة 79 عامًا، أي أقل بـ3 سنوات مقارنةً بالمتوسط في أوروبا الغربية.
وهذا الفارق الكبير يعكس مشاكل صحية هيكلية مثل ارتفاع معدلات السمنة، وتفشي الأزمات الصحية المرتبطة بالمخدرات، بالإضافة إلى مشكلات تتعلق بالعنف المسلح وحوادث الطرق.
كما أن الأزمة الاقتصادية الأميركية ليست خالية من المساوئ الاجتماعية مثل عدم المساواة الاقتصادية، حيث لا يزال توزيع الثروة يمثل تحديًا كبيرًا على الرغم من النمو القوي.
توقعات مستقبليةرغم كل هذه التحديات، فإن الولايات المتحدة تتمتع بميزة فريدة تتمثل في الديناميكية الاقتصادية التي تعتبر المحرك الأساسي لنموها المستمر.
فعلى الرغم من التقلبات السياسية الداخلية ومخاوف العجز المالي، تظل الولايات المتحدة قادرة على مواجهة التحديات والتفوق على اقتصادات العالم الأخرى بفضل قدرتها على الابتكار واستثمار الموارد البشرية والطبيعية، وفق إيكونوميست.
وهذه المرونة الاقتصادية تمثل الأمل الأكبر لاستمرار التفوق الأميركي على الساحة العالمية، حتى في ظل تصاعد المنافسة من الاقتصادات الناشئة مثل الصين والهند.
ورغم التحديات والقلق المتزايد من تراجع القوة الاقتصادية للولايات المتحدة، إلا أن الحقائق تشير إلى أن اقتصاد هذا البلد لا يزال قادرًا على تقديم أداء متميز يفوق أقرانه، ويستمر في تشكيل وجه الاقتصاد العالمي بفضل ديناميكيته ومرونته.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الاقتصاد الأمیرکی الولایات المتحدة إلا أن
إقرأ أيضاً:
لماذا يريد الغرب تعميم نموذجه الفكري والسياسي؟
تعد السيادة داخل أي دولة في عصرنا الراهن فكرة قانونية، معبرة عن الجماعة السياسية المكتملة قانونيًا، وتعكس الكيان المعنوي في ما تقوم به من تصرفات سياسية وإدارية قانونية لصالح المواطنين، ومقتضى هذه السيادة أن سلطة الدولة وسيادتها سلطة أصلية، بمعنى أنها تنبع من ذات الدولة، ولا تستمد أصلها من سلطة أخرى مهما كانت، فالهيئات والأجهزة الأخرى في الداخل، تستمد سلطتها من الدولة التي تملك إنشاء مختلف الهيئات ومنح وتحديد اختصاصاتها، والدولة هي التي تنظم شؤون نفسها لأنها تملك السلطة التأسيسية، أي سلطة وضع الدستور.
ولسيادة الدولة وجهان، داخلي وخارجي. فالسيادة الداخلية، أي في علاقات الدولة بالأفراد والهيئات في الداخل تعني السلطة العليا التي تفرض نفسها على الجميع ولا تنازعها سلطة أخرى. أما السيادة الخارجية، فإنها تعني أن تكون الدولة مستقلة وأن تتعامل على قدم المساواة مع غيرها من الدول. أي أن السيادة الخارجية مرادفة للاستقلال. وعلى ذلك فإن السيادة الخارجية لها معنى سلبي، لأنها تعني مجرد عدم خضوع الدولة لغيرها من الدول، أما السيادة الداخلية فيبدو أن لها معنى إيجابيا، لأنها سلطة آمرة عليا تفرض إرادتها على الجميع. على أن البعض قد ذهب إلى أن للسيادة الداخلية بدورها معنى سلبي لأنها وصف لسلطة عليا دون تحديد لمضمون هذه السلطة. أي أنها لا تبين الاختصاصات التي تملك الدولة مباشرتها في الداخل. وعلى ذلك فإن هذه السيادة ـ في جوهرها ـ إنما تفيد استبعاد أي عقبات يقيمها الأفراد أو الجماعات في سبيل ممارسة الدولة لسلطتها العليا. ولذلك فإن بعض فقهاء القانون الدولي، يرون أن سلطة الدولة بغير سيادة أو بسيادة ناقصة، ويذهبون إلى أن السيادة شيء غير السلطة السياسية، وإنه إذا كانت السلطة السياسية ركنًا من أركان الدولة فإن السيادة ليست كذلك، إذ قد توجد الدولة بغير سيادة ذلك على حين لا توجد دولة بغير سلطة.
وهذا الرأي الأخير يلتقي مع مفاهيم العولمة ومفاهيمها التي من أهدافها الانتقاص من سلطة الدول، بحكم ما تمثله من توجهات وتدخلات، تحت مسميات الحرية الاقتصادية أو الديمقراطية، أو تعميم الانفتاح السياسي الليبرالي من خلال إلغاء الحواجز والأبواب المغلقة، التي تنتهجه الدولة القومية أو الدولة الاشتراكية، التي تدور آنذاك في فلك المعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفييتي سابقًا، لذلك فإن سيادة الدول ستتناقص تدريجيًا بدرجات متفاوتة فيما يتعلق بممارسة سيادتها في ضبط عمليات تدفق الأفكار والمعلومات والسلع والأموال والبشر عبر حدودها.
فالثورة الهائلة في مجالات الاتصال والمعلومات والإعلام حدت من أهمية حواجز الحدود والجغرافيا. وإذا كان بمقدور بعض الدول أن تحد في الوقت الراهن وبصورة جزئية من التدفق الإعلامي والمعلوماتي القادم إليها من الخارج، فإن هذه القدرة سوف تتراجع إلى حد كبير وقد تنعدم في المستقبل، خاصة في ظل وجود العشرات من الأقمار الصناعية التي تتنافس على الفضاء. كما أن توظيف التكنولوجيا الحديثة في عمليات التبادل التجاري والمعاملات المالية يحد من قدرة الحكومات عل ضبط هذه الأمور، مما سيكون له تأثيره بالطبع على سياساتها المالية والضريبية وقدرتها على محاربة الجرائم المالية والاقتصادية، وبالإضافة إلى ما سبق فإن القوة الاقتصادية والمالية، التي تمثلها الشركات متعددة الجنسية، خاصة مع اتجاه بعضها نحو الاندماج والتكتل في كيانات أكبر، إنما تسمح لها بممارسة المزيد من الضغط على الحكومات، وبخاصة في العالم الثالث، والتأثير على سياساتها وقراراتها السيادية، وليس بجديد القول إن رأسمال شركة واحدة من الشركات العالمية العملاقة، يفوق إجمالي الدخل القومي لعشر أو خمس عشرة دولة إفريقية مجتمعة، وهو ما يجعل هذه الكيانات في وضع أقوى من الدول. ومن هذه المنطلقات الجديدة للعولمة أيضًا ستصبح المقدرة السيادية للدول ـ خاصة في العالم الثالث ـ تتغير لمصالح هذه التحولات التي يشهدها العالم في الوقت الراهن.
ويرى الباحث د/ تركي الحمد أن هذا التوجه الجديد في مسألة انحسار سيادة الدول أو الانتقاص من سلطتها هو نوع من الانقلاب الجذري ـ في العلاقات بين الدول، على اعتبار أن هذا التحول الجديد هو تغيير محتمل «في شكل الدولة ونمط الحكم المعتبر شرعيًا»، بحيث يمكن القول إن مثل هذا الانقلاب لا يقل في أهميته المستقبلية، عن ذلك الانقلاب في التاريخ الأوروبي، الذي أدى في النهاية إلى انتهاء عصر وبداية عصر جديد، مع ما يرافق ذلك من بداية ظهور مفاهيم سياسية جديدة، أو مضامين جديدة لمفاهيم قديمة، تصف هذا الانقلاب والتحوّل، وتحاول أن تضعه في إطار نظري سياسي جديد ، كما فعل منظرو تلك الحقبة، فبعيدًا عن مستوى التحليل الآني والجزئي للسياسة، والمواقف السياسية بصفتها فن الممكن، فإن الإفرازات السياسية بعيدة المدى منظور إلى المسألة من زاوية كلية لعصر العولمة وخاصة في أعقاب حرب الخليج الثانية وانهيار آخر الإمبراطوريات التقليدية الاتحاد السوفييتي».
ويرى البعض أن التدخلات في شؤون الدول إنما هو عبارة نوع من الشعور بالقدر الإنساني المشترك في عصرنا الراهن، ليست القضية هنا تدخل هذه الدولة في الشأن الداخلي لتلك الدولة، بقدر ما هو في ذلك الشعور المتنامي بالمصير المشترك لكل بني الإنسان، نعم إن لمثل هذه العولمة التي تحولت للتغريب المكشوف نتائجها السلبية العديدة على الدولة في العالم الثالث خاصة، وما يثيره ذلك من أسئلة وإشكالات الهوية والمصير الوطني أو القومي أو نحو ذلك.
لكن الكثيرين يختلفون مع الباحث د/ تركي الحمد فيما طرحه في هذه القضية، ويرون أن العولمة يمكن أن تكتسب طابع العمومية والانتشار في كل الأمم والحضارات والدول بحكم إمكانياتها العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية مع احتفاظ هذه الدول والشعوب بسلطتها وتراثها السياسي والاقتصادي مع ضرورة انفتاحها السياسي وإقرارها التعددية وغيرها من المضامين التي لا تختلف حولها الأمم والشعوب الأخرى.
وإذا ضعفت الدول وانتقصت سيادتها مع بروز سلبيات العولمة التي من آثارها تسريح العمالة، وتراجعت الصناعات الوطنية أمام الصناعات العالمية المتقدمة وغيرها من المؤثرات، فإن المشكلات الداخلية ستتفاقم وسيصبح الكلام عن الانفتاح السياسي والديمقراطي والرفاه الاقتصادي مجرد أحلام وردية، وستحل القلاقل بدل الاستقرار والرفاه وغيرها من مقولات أدعياء فكرة الغرب.
فتعميم النموذج الغربي ليس خاليًا من الأيديولوجيا لأنها تقاد من مجموعات لها استراتيجيتها وأفكارها وطموحاتها السياسية والاقتصادية والفكرية، ولذلك فإن التطبيقات ستكون مختلفة، وليست بالصورة الوردية التي يطلقها مؤيدوها بطبيعة الحال تبدو هذه العملية المستحدثة في التاريخ، بأنها تدعم فرضية التقارب بل وترسّخها. والواقع أنها تكشف عن العديد من أنواع التنافر وعدم الاتساق حين تحدد نطاق هذا النظام، فعندما تحثّ على استيراد نماذج غربية إلى مجتمعات الجنوب تكشف بذلك عن عدم ملاءمة هذه النماذج.
وعندما تحرّض المجتمعات الطرفية على التكيّف، وتوقظ أيضًا آمال التجدد، مع المخاطر، في الوقت ذاته بخداعها وحين تعجّل بتوحيد العالم، فإنها تحبّذ ظهور التفردات وتزيد تأكيدها، وحين تمنح النظام الدولي مركزًا للسلطة، مركّبًا أكثر من أي وقت مضى، فإنها تتجه نحو زيادة حدة منازعاته وشدة صراعاته، وحين يسعى الغرب فرض نموذجه ويطرح نهاية التاريخ عند هذا النموذج، فهذا يعني بلا شك يجعل هويته وفكره هو الذي يفرض على الثقافات والحضارات الأخرى، لا سيما المجتمعات غير الغربية، أو التي تنتمي ـ عرفًا ـ إلى ما يسمى العالم الثالث، فهذا النظرة الفكرية الفوقية التي يريدها الغرب، تناقض وتعترض على التعددية الفكرية والسياسية، التي هي سمة إنسانية لكل الثقافات البشرية منذ أن وجدت، فمسألة تعميم النموذج الغربي على الأمم الأخرى، لا يمكن يجد القبول والاستجابة، سواء بالترغيب أو الترهيب، وتلك ضمن مسائل مبدئية في الأفكار والنظرات والهويات لا يمكن التخلي عنها.