مدحت العدل: الكاتب هو الشخص الوحيد المطلوب منه أن يكون مثقفا وموسوعيا (2)
تاريخ النشر: 26th, October 2024 GMT
تواصل «الوطن» نشر الجزء الثانى من حديث الكاتب والشاعر الدكتور مدحت العدل، ضمن سلسلة حوارات «أول الحكاية»، وتحدث «العدل» عن فيلمى «أمريكا شيكا بيكا» و«حرب الفراولة»، وعن حرصه على حضور الأفلام فى دور العرض، وعن التعلم والتجديد، وعن أزمة النصوص الدرامية وطقوس الكتابة، وعن الورش التى انتشرت مؤخراً.
المتعة.. الهدف الوحيد للدراما
كل عمل درامى له فكرة، لكن ليس له هدف. الهدف كلمة تناسب المؤتمرات والندوات والخطط السياسية. لكن الدراما هدفها الوحيد المتعة. وقلت لابنى: الأساس فى الحياة والفن والكتابة الاستمتاع، إذا كنت لا تجد متعتك فى كتاب أو فيلم أو مسلسل فانصرف عنه فوراً.
لا أخشى الفشلأنا لا أخاف من عدم النجاح والفشل، مَن يخاف عليه أن يجلس فى بيته ولا يغادره.
الأفكار رزق.. مفيش كتالوجالأفكار رزق يأتى إلى صاحبه، قد تأتى الفكرة من خلال خبر تقرأه أو موقف تمر به أو جلسة دردشة مع بعض الأصدقاء. مفيش كتالوج الفكرة بتجيلك إزاى؟.. اللى يقول لك فيه كتالوج للأفكار بيضحك عليك، ولا يوجد إلهام ولا وحى.
مثلاً فى فيلم «أمريكا شيكا بيكا» قرأت خبراً فى مجلة «صباح الخير» عن بعض المواطنين سافروا إلى أوروبا من أجل فرصة عمل، وأنهم ضلوا طريقهم فى الغابات وتجمدوا وقطعوا لهم أصابعهم، قصة واقعية مؤلمة، فقررت أن أكتب فيلماً، كان هو الفيلم الأول الذى يناقش قضية الهجرة غير الشرعية سنة 1992.
لكنى لم أناقش القضية بشكل مباشر ولا سطحى، بل توقفت عند النماذج المشاركة فى هذه الرحلة المأساوية؛ الشاب والفلاح والفتاة، إلى آخره.
أما فيلم «حرب الفراولة»، فجاءتنى فكرته من كتاب لكاتب ألمانى اسمه هرمان هيسه، الكتاب يتناول موضوع السعادة، وفى نفس التوقيت، ودون اتفاق، اكتشفت أن خيرى بشارة كان يقرأ نفس الكتاب، فتقابلنا على قهوة، وتحدثنا، وقررنا نعمل هذا الفيلم.
أما عن الإلهام -إذا جاز التعبير- فهو حالة قد تصنع مشهداً داخل الحدوتة نفسها، لكنه لا يصنع الحدوتة من الأساس، مثلاً الفيلم العظيم Shawshank redemption، من الأفلام العالمية التى أقوم بتدريسها، هناك مشهد أتحدى أن كاتب السيناريو كان يفكر فيه من الأساس، مشهد البطل عندما يقرر أن يضع أسطوانة الموسيقى ويغلق الباب ويرفع الصوت لأعلى درجة والسجن كله يسمع، ده مشهد فيه إلهام، جاء فجأة دون إعداد مسبق. فى «حارة اليهود» أيضاً هناك مشهد مشابه عندما كانت منة شلبى نائمة فى المعبد اليهودى، ودخلت موسيقى بها خليط بين تراتيل مسيحية وتواشيح صوفية ومزامير يهودية، هذا المشهد لم يخطر فى بالى أثناء كتابة السيناريو.
مَن الذى يكتب التاريخ؟كتابة السير الذاتية أو كتابة التاريخ عموماً فيها جانب من الذاتية، ومن الصعب تحقيق التجرد بشكل كامل، فمَن الذى يكتب التاريخ؟ ومَن الذى يحكم أن هذا التاريخ صادق أم كاذب؟
اعتذرت لـ«الخطيب» عن عدم كتابة أغنية للنادى الأهلى فى مئويته.. قلت له: «مش هقدر.. أنا زملكاوى»مثلاً الزملكاوى يكتب للزمالك والأهلاوى يكتب للأهلى، لن نستطيع أن نقفز على ميولنا الشخصية، على سبيل المثال، سبق وطلب منى محمود الخطيب كتابة أغنية للأهلى فى مئوية النادى، اعتذرت له وقلت: مش هقدر، هكتب إزاى إنه نادى مبادئ، ومن المؤكد أن له انتصارات عظيمة، لكنى لا أحبه، وأشجع فريقاً آخر منافساً له. وفى مسلسل «العندليب» لم أنقل حياة عبدالحليم كما هى، هناك خيال ومساحات انتقيتها ومساحات أخرى تجاهلتها، لو نقلت حياته كما هى يبقى باعمل فيلم تسجيلى.
الجمهور هو الأستاذ الحقيقىأحرص على حضور الفيلم فى دور العرض؛ لكى أتعلم، حينها اكتشف أشياء عظيمة، تعليقات لا تخطر لك على بال، فى بعض الأحيان أكون جالساً فى قاعة السينما أسمع تعليقات من أحد المتفرجين لم أتوقعها، وبعضها يكون صحيحاً، أقول فى بالى: يا نهار أسود، إزاى كلنا ماخدناش بالنا وهو خد باله.
فيلم «أمريكا شيكا بيكا» الأقرب لقلبى.. ولا أحب «بلية ودماغه العالية»السينما فن جماهيرى، والجمهور هو الأستاذ الحقيقى الذى نتعلم منه، أنا لا أؤمن على الإطلاق أن أقوم بعمل فيلم ليحصد 100 جائزة ولكنه لا يعجب الجمهور، ما الفائدة حينذاك؟ الجمهور هو الهدف الرئيسى من صناعة السينما، وإلا قلّتها يبقى أحسن.
فيلم كتبته.. الأقرب إلى قلبك؟يفكر قليلاً، ثم يقول: كتير.. لكن أعتقد أن «أمريكا شيكا بيكا» الأقرب لقلبى.
فيلم كتبته.. غير راضٍٍ عنه؟«بلية ودماغه العالية»، لا أحبه إطلاقاً، أنا كنت عامله بطريقة، وخرج بطريقة أخرى تماماً، الفيلم تفرق دمه بين القبائل.
وقعت فى حب شخصية «عم مخلوف» فى مسلسل «لأعلى سعر» «لآخر نفس، قلبى بيحب الناس، بيعشقهاهناك شخصيات كتبتها، واكتشفت أنها تمثلنى بشكل شخصى، مثلاً «عم مخلوف»، الشخصية التى أداها نبيل الحلفاوى فى «لأعلى سعر»، هذه الشخصية تشبهنى جداً، خاصة فى علاقتى مع بناتى وفى طريقتى، وأنا طبيب وتركت الطب من أجل السينما، و«عم مخلوف» كان مهندساً وترك الهندسة من أجل المزيكا، كتبت «عم مخلوف» ووقعت فى حبه.
شخصية المثقف فى فيلم «إشارة مرور»، التى قدمها عماد رشاد، أحب هذه الشخصية لأنها تشبه كثيراً من المثقفين العرب، الذين وصفهم أحمد فؤاد نجم فى إحدى قصائده فقال: «يعيش المثقف على مقهى ريش، محفلط مزفلط كتير الكلام، عديم الممارسة، عدو الزحام، بكام كلمة فاضية وكام اصطلاح يفبرك حلول المشاكل قوام»، هؤلاء هم المثقفون العرب، قاعد فى حتة لوحده بعيدة عن الناس، وهذه الشخصية كانت قريبة لقلبى.
من محفوظ وإدريس إلى.. «مفيش»!كثير من الكتّاب أثروا فى شخصيتى وفكرى واهتماماتى. مثلاً كاتب يونانى اسمه نيكوس كازانتزاكيس، كتبت عنه قصيدة، هذا الكاتب قدم لنا رائعة اسمها «زوربا»، وبالمناسبة أنا عملت Zorba the Greek سهرة إذاعية فى البرنامج الثانى الإذاعى، الذى كان يقدم كل خميس سهرة مع واحدة من القصص العالمية، كان عمرى وقتها 16 سنة.
أيضاً هناك عدد من الفلاسفة أثروا فى تفكيرى مثل جان بول سارتر، ومن الكتّاب المصريين يوسف إدريس طبعاً، وكنت حافظاً لكل شخصيات قصصه، وأيضاً نجيب محفوظ الملهم، الذى كنت أنظر إليه باعتباره مجرد كاتب كويس وأنا صغير، لكن عندما كبرت أدركت لماذا يستحق «نوبل»؟.. لأنه رجل ملهم.
أزمة ثقافة.. وليست أزمة ورقأزمة الورق موجودة طول الوقت، بس ليه فيه أزمة ورق؟ لأن المخرج من الممكن أن يكون عظيماً فى مهنته لكنه غير مثقف، بعكس الكاتب، الكاتب ماينفعش بس يبقى حريف، لازم يبقى مثقف، هذه هى حقيقة الأزمة.
أزمة ثقافة وفكرالكاتب هو الشخص الوحيد المطلوب منه أن يكون مثقفاً وموسوعياً، يقرأ فى كل حاجة ويسمع موسيقى، ويحلل ويكون صاحب تجربة، حتى يكون الورق به تنوع بين الشخصيات، وعمق فى كل شخصية. هذا ما نفتقده. من الممكن أن أذكر لك مليون مخرج شاطر، بس أذكر لك كام كاتب كويس.. مش هلاقى.
طقوس الكتابة.. فيروز الصبح و«الست» بالليلعندى بعض الطقوس فى الكتابة، مثلاً أحب أن أسمع الجميلة فيروز فى أوقات الصباح، وأسمع الست أم كلثوم إذا كنت أكتب ليلاً، من وجهة نظرى الكتابة يا إما الصبح بدرى يا إما فى الليل وآخره، وأنا غالباً أحب الكتابة صباحاً، فى الصباح باكتب أحلى كتابة، من وجهة نظرى أول ما تصحى من النوم قبل أن تلاحقك التليفونات والرسائل والسوشيال ميديا.
أسرة محمد على.. المشروع المؤجلهناك 100 مشروع مؤجل الواحد نفسه يعمله، يعنى مثلاً مسلسل «حارة اليهود» كان مشروع منذ 10 سنوات قبل خروجه للنور، كنت أفكر فيه وأستعد له، هناك أفكار مؤجلة بالفعل، يعنى مثلاً نفسى أعمل سيرة أسرة محمد على التى حكمتنا على مدار نحو 150 سنة، نفسى أعمل 4 أو 5 أجزاء عن هذه الأسرة.
ورش الكتابة تحولت إلى «سبوبة».. و«كل واحد كتب مسلسلين عايز يعمل ورشة وهو أساساً مابيعرفش يكتب»ورش الكتابة موجودة فى العالم كله، المهم ماذا ستنتج هذه الورشة؟ ومَن الكاتب المشرف عليها؟ بعض الورش تحولت إلى سبوبة، «ده كل واحد كتب مسلسلين عايز يعمل ورشة كتابة، وهو أساساً مابيعرفش يكتب». فكرة ورشة الكتابة لست ضدها، وهى موجودة فى كل العالم، لكن مع مَن؟.. ومَن هو المنتج؟.. هذا هو المعيار.
الإنتاج هو الحكم بين المخرج والكاتبإذا حدث خلاف بين الكاتب والمخرج، فشركة الإنتاج هى الحكم، لكن أنا شخصياً تعلمت شيئاً مهماً جداً من تجربة بعض الأفلام التى كتبتها ولم أحبها على الشاشة، تعلمت أننى لا أعمل إلا مع مخرج أجيد التفاهم معه وأثق به وهناك أرضية مشتركة بيننا، هناك مخرجون أصحابى لكن لا أعمل معهم، بدون ذكر أسماء، لأنه لا توجد أرضية عمل مشتركة بيننا.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: أول الحكاية الكاتب مدحت العدل أمريكا شيكا بيكا
إقرأ أيضاً:
الكتابة من تحت الأنقاض.. يوسف القدرة: في الشعر لغة فرط صوتية ضد عار العالم
في عرف الشاعر، تغدو القصيدة في زمن الجوع رغيفا من الكلام. واللغة لا تُطعِم، لكنها تذكّرنا، كما يقول، "بأننا بشر، لا مجرد أهداف حرارية". هكذا، وبلغة طازجة في أصالتها النابضة، يصرّح يوسف القدرة -للجزيرة نت- قائلا: "أنا رجل نجا بالصدفة، لا أكثر".
هكذا يعرّف في البدء نفسه، وسط أكثر من عدوان مستمر على غزة: "كنت واحدا من كثيرين عاشوا أكثر من 560 يوما من الحصار والقصف والموت البطيء في غزة".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2فلسفة الهجاء.. كيف جسّد العرب الشتم في الشعر والأدب؟list 2 of 2من بغداد إلى القاهرة.. دروس الروح الأدبية في منافسات الشعراءend of listوبالتأكيد، فإن ما يكتبه يوسف القدرة ليس كتابة بالمعنى التقليدي، إنها شكل من أشكال البقاء. فهو، كما عُرف عنه وعن تجربته، صوت وسط أصوات كثيرة اختنقت، لكنه بصورة أو بأخرى أصرّ على "أن يتكلم"، لا عن نفسه فقط، بل "عنّا جميعا"، كما يقول: "أكتب لأنني لا أريد أن أموت صامتا".
عندما تدلف إلى عالم يوسف القدرة، تجد نفسك لا أمام نصوص أدبية فقط، بل داخل غرفة تتنفس فيها غزة— الحجارة، الأمهات، الشهداء، الصمت.
صدر له مطلع العام، عن دار الأدهم بالقاهرة، "كتاب غزة: يوميات ورسائل وقصائد من غزة"، و"عشبة الشغف"، كتابه الشعري الكثيف الصادر حديثا عن دار الرقمية برام الله. وفي هذين العملين، تمزج التجربة بين توثيق يومي مرّ من تحت الرّدم، وبين صياغة شعرية تتجاوز الخاص إلى العام.
ومن خلالهما، ورؤيته للكتابة بين خطوط النار والعدوان الإسرائيلي، نجول في هذا الحوار معه، لنتوقف عند تجربته الأدبية، وقضايا تخصّه بوصفه مثقفا وباحثا فلسطينيا، ورؤيته وفلسفته في الكتابة التي تختزل ما ترى دون إسهاب. ذلك أنها تجربة تُكتب من داخل لهب النيران، لتوثّق الشهادة والقضية والشعر معا، لا كحدث، بل كأسلوب حياة. فإلى الحوار:
"كتاب غزة" لم يُكتب كفكرة، بل كفعل بقاء يومي. كل نص فيه خرج من مشهد حقيقي، من لحظة تحت الركام، من يوم فقدنا فيه شخصا أو حيّا كاملا.
الكتاب فيه 3 أصوات: اليوميات، التي توثّق ما جرى لحظة بلحظة، والرسائل، التي تتوجه إلى العالم، والقصائد، التي تحاول أن تقول ما لا يمكن أن يُقال.
أما "عُشبة الشغف"، فهو نصّ آخر، أكثر كثافة، وأكثر شعرا.
كُتب بصيغة الجمع، من "نحن"، لا من "أنا".
هو عمل يعبّر عن مدينة تُحِبّ وتحترق في آنٍ واحد.
هو ليس عن الحرب فقط، إنّه عن الحب في زمن الدمار، عن رغبةٍ مكبوتة وسط الركام، وعن رجلٍ يفنى ببطء على مرأى من نساءٍ يُنقذن روحه بالكلمات.
اللغة المباشرة لم تعد كافية. كنتُ بحاجة إلى لغة تهرب من الألم، ولكن لا تنكره، لغة قادرة على حمل مفارقة أن نحبّ في لحظة موت، وأن نحلم بينما ندفن أحباءنا. الشعر هنا ليس ترفا، إنّه ضرورة، وسيلة للعبور من الألم دون أن نتحطم. وأرى أن الكتابة عن غزة ليست قيدا، ولا اختيارا. هي قَدَر، كما قلتُ سابقا. هي الطريقة الوحيدة لأحمي الوجوه التي رأيتها من النسيان.
في "عُشبة الشغف"، مثلا، هناك تحوّل أسلوبي واضح نحو التجريد واللغة الكثيفة. لماذا اخترت هذه النبرة؟لأن الواقع كان فظيعا لدرجة أن اللغة المباشرة لم تعد كافية. كنتُ بحاجة إلى لغة تهرب من الألم، ولكن لا تنكره، لغة قادرة على حمل مفارقة أن نحبّ في لحظة موت، وأن نحلم بينما ندفن أحباءنا.
الشعر هنا ليس ترفا، إنّه ضرورة، وسيلة للعبور من الألم دون أن نتحطم. وأرى أن الكتابة عن غزة ليست قيدا، ولا اختيارا. هي قَدَر، كما قلتُ سابقا. هي الطريقة الوحيدة لأحمي الوجوه التي رأيتها من النسيان.
"كتاب غزة" هو محاولة للقول: نحن كُنّا هنا، وشهدنا. و"عُشبة الشغف" هو محاولة لقول: حتى في أقصى الفقد، نحن نحبّ ونحلم ونتمسك بإنسانيتنا.
الحرب لا تأتي بنبرة واحدة. هناك ما لا يُقال إلا نثرا، وهناك ما لا يُحتمل إلا شعرا. في "كتاب غزة"، كتبتُ يوميات لكي لا أجنّ، وكتبتُ الرسائل لكي لا أنفجر في العزلة. أما القصائد، فهي لحظات الانهيار الصامت، عندما يتكلم شيء داخلك بلغة لا تُشبهك.
تمزج بين الشعر والنثر، اليوميات والرسائل والقصائد، في كتاب واحد. لماذا؟لأن الحرب لا تأتي بنبرة واحدة. هناك ما لا يُقال إلا نثرا، وهناك ما لا يُحتمل إلا شعرا. في "كتاب غزة"، كتبتُ يوميات لكي لا أجنّ، وكتبتُ الرسائل لكي لا أنفجر في العزلة.
أما القصائد، فهي لحظات الانهيار الصامت، عندما يتكلم شيء داخلك بلغة لا تُشبهك.
وما الفرق إذا في التجربة الشعورية بين كتاب "عُشبة الشغف" و"كتاب غزة"؟ وكيف يحضر كلٌّ من الموت والحياة؟ كيف تصفهما في كتابيك هذين؟في "كتاب غزة"، كنتُ أكتب من العراء. لا وقت للتفكير، فقط تسجيل لما يحدث. أما في "عُشبة الشغف"، فقد كتبتُ من داخل الجرح.
كان العمل أشبه بمواجهة مع الذات، مع الحب، مع العار، مع الرغبة، مع ما تبقّى من إنسانية وسط كل هذا الجنون.
في غزة، الموت ليس نهاية، والحياة ليست ضمانا. الموت يزورنا كل يوم، والحياة تلوّح لنا من بعيد.
إعلانفي الكتابين، حاولت أن أكتب هذه المفارقة: كيف نغسل ملابسنا بينما الطائرات تحوم، كيف نُحبّ وسط المقابر، وكيف نحاول بناء شيء بينما يُهدَم كل شيء.
الأدب لا يوقف الطائرات، لكنه يوقف النسيان.
عندما أكتب، أنا لا أغيّر الواقع، لكني أغيّر طريقة النظر إليه. هذا كافٍ في بعض الأحيان
وماذا عن دور الأدب؟ هل ترى أنه ما زال قادرا على إحداث فرق أو أثر ما، وسط عجز في كل شيء، حتى الموت ذاته؟ وما الرسائل التي توجهها إلى سكان العالم؟الأدب لا يوقف الطائرات، لكنه يوقف النسيان.
عندما أكتب، أنا لا أغيّر الواقع، لكني أغيّر طريقة النظر إليه. هذا كافٍ في بعض الأحيان. القارئ البعيد ربما لا يُنقذنا، لكنه قد يتعلّم ألّا يصمت.
ورسالتي هنا: اقرؤوا غزة، لا كخبر، بل كمرآة.
في "كتاب غزة"، ستجدون التفاصيل التي خفيت عن الكاميرا. وفي "عُشبة الشغف"، ستسمعون الهمس الذي لا يصل في صخب الحرب. هذا ليس أدبا فقط، هذا أثر بشريّ في عالم ينسى بسرعة.
أنتظر أن نعيد لغزة مكانها في الذاكرة الجماعية، لا كمأساة، بل ككائن حيّ. والتوقيع ليس مناسبة احتفالية، إنه لحظة اعتراف: هذا كتاب كُتب من تحت الأنقاض، وهذا صوت حاول أن يبقى.
في دواوينك، يظهر الموت كظلٍّ مقيم لا يغيب. كيف تحافظ القصيدة على توازنها الجمالي وسط كل هذه الأنقاض، وهذه الأدخنة المتصاعدة، والدفائن، وأسئلة الحيرة ذاتها؟الموت كظلّ مقيم، والقصيدة ككائن هشّ وسط الأنقاض. الموت لا يغيب لأنه لا يُستدعى، بل يسكن في التفاصيل: في تنفّس الطفل لرماد الصاروخ، في جسد لم يُلملم، في عين لم تُغلق.
القصيدة عندي تمشي على حواف العدم، لا لتُزيّن الدمار، بل لتكشطه من الداخل. جمالها ليس زينة، بل جرحٌ مفتوح يُبقي المعنى حيّا.
هل الكلمة عندك تذكار نجاة، أم مرآة لفقد لا يرمَّم، وأنت تشهد أرض الشعر كمعادل للوجع والألم اليومي؟الكلمة تذكار نجاة حين تُكتب من تحت الردم، لكنها مرآة لفقد لا يرمَّم حين نعيد قراءتها. أنا أكتب لكي لا أموت بالصمت، ولكي لا أزيّن القبر بالبلاغة. الشعر ليس عزاء، بل إنه احتجاج على ضرورة العزاء.
ما الذي تعنيه عبارة: "أن تكتب في غزة، يعني ألا تفصل القصيدة عن الجثة"؟"أن تكتب في غزة يعني ألا تفصل القصيدة عن الجثة"، تعني ببساطة: لا توجد استعارة أنقى من الجثة. القصيدة عندنا لا تُكتب على ورق، بل على بقايا الحائط، على حواف الخوف، على دم الطفل في الممر. لا توجد مسافة بين الشاعر والميت. نحن نكتب بينما نشيح بنظرنا عن أشلاء أقاربنا.
بين البحث والقصيدة، هناك ما يشبه انشطار الذات. وهنا، كونك باحثا فلسطينيا إلى جانب كونك شاعرا، كيف تؤثر هاتان المنطقتان في بعضهما لديك؟أنا لا أرى انقساما بينهما. الباحث يبحث عن المعنى، والشاعر يهجس بما لا يُقال. في لحظات معيّنة، تُعلّق اللغة بينهما. البحث يضيء الخلفية، والشعر يفتح الشقوق. لكنهما معا يشبهان شخصا يحمل مصباحا ليبحث عن نفسه في خرابٍ بلا نوافذ.
هل يهرب الشعر أحيانا من سلطة اللغة؟ ومتى يتحوّل النص النقدي إلى ما يشبه القصيدة المكتومة؟يهرب الشعر من سلطة اللغة حين تكون اللغة مطفأة، متأخرة عن الجرح. حين يُقال "انفجار محدود"، بينما أمي لا تجد بيتا تعود إليه. حينها، الشعر يفرّ من البلاغة ليصبح همسا، أو شظية، أو حتى صمتا.
النص النقدي قد يتحوّل إلى قصيدة حين يعترف بعجزه ويتخفف من غروره التحليلي.
الشعر الآن أشبه بسكين صغيرة في بطن الوحش. لا تقتله، لكن تُبقيه يقظا. نعم، في زمن الجوع، تصبح القصيدة رغيفا من الكلام، تكفي لقلبٍ واحد لكي لا ينهار.
اللغة لا تُطعم، لكنها تذكّرنا بأننا بشر، ولسنا مجرد أهداف حرارية.
هل ازداد صوت الشعراء الفلسطينيين تحت القصف، أم خفّ وخفت وتلاشى حضوره بالرغم من اتساع رقعة العدوان ومراوغة الحدث ذاته؟بل تعرّى. لم يخفت، لكنه لم يعد يملك متّسعا للزخرفة. بعضهم مات قبل أن يكتب، وبعضهم كتب لأن لا أحد سواه بقي حيّا. الصورة الآن تسبق القصيدة، لكن من يعيد بناء الروح بعد الخسارة؟
هذا دور الشعر، وإن كان بأصواتٍ متقطعة.
نعم. إنها لغة تصرخ حين لا يُسمع الصوت، تُكتب في الهواء، ضد الصمت الدولي، ضد بيانات الشجب، ضد عار العالم. قصائدنا تُطلق في الهواء كرصاصة احتجاج. تصل متأخرة، لكنها تصل.
عن صنعاء وملتقاها الشعري العربي، ما الذي تتذكره؟ وكيف تلقيتَ المكان والشعراء والمدينة؟صنعاء كانت استراحة قلبٍ منجرف. لا شيء يُشبه مدينة تفوح منها القهوة والبارود في آن. الشعراء هناك كانوا كمن يكتبون الحنين بلغة الماء. تعلّمت أن القصيدة حين تُقال على جبل، تصدح أبعد.
نعم. أن ترى أنك لست وحدك، أن الحبر مشترك، وأن الألم له لهجات متعددة. الملتقى جعلني أُصدّق أن الشعر لا يُكتب فقط في الغرف المغلقة، بل يُعاش في العيون التي لا تخاف.
ما الذي بقي من تلك الزيارة: قصيدة؟ صورة؟ رائحة تذكار؟ صداقة لا تبلى؟رائحة. نَفَس. ظلّ. صورة لشارعٍ في الفجر. صداقة لم تشخ. وقصيدة ما زالت تتخلّق كلما سمعتُ "صنعاء".
هل للقصيدة التي تُلقى من غزة طعمٌ آخر حين تُلقى في مدينة تنهض من رمادها؟نعم، للقصيدة هنا طعم آخر. القصيدة الخارجة من غزة تحمل جرحا لا يُترجم، لكنها حين تُلقى في مدينة تحلم، تصير مرآة لما يمكن أن يُبنى على الرماد. مدينة تنهض من رمادها تستقبل القصيدة كما تستقبل نجمة.
حول ثلاثية الأم، الوطن، الغياب… كيف تحضر الأم في شعر يوسف القدرة؟الأم ليست رمزا، هي اللغة الأصلية للنجاة. حين أكتب عنها، لا أبحث عن استعارة. يكفيني أن ألمح عينيها على باب البيت الذي لم يبقَ. هي الذاكرة، وهي الوطن، وهي الغياب الذي لا يُشفى منه.
في قصائدك، يبدو الوطن يُلملم ذاته المكلومة؟الوطن عندي ليس مكانا فقط، بل إنه جسد. وكلما تكسّر، نحاول بلغة القصيدة أن نُعيد تشكيل ملامحه. الكتابة عنه محاولة لترميم الصور المبعثرة، لكن الخريطة دوما ناقصة. ربما لأن القلب لا يعترف بالحدود.
كيف تنظر إلى المنفى الداخلي؟المنفى الداخلي هو الأخطر. منفى داخل بيتك، داخل لهجتك، داخل جسدك. أن تكون هنا، لكنك خارج كل شيء. غزة ليست فقط حصارا جغرافيا، بل إنها استعمار داخلي لذاكرتنا.
الشعر الفلسطيني يُعيد خلق نفسه من الردم. نعم، هناك انكسارات، لكن أيضا هناك ولادات قاسية. لا صوت يخفت إلا إذا اختنق. الآن، تتشكّل جماليات جديدة: موجعة، مشوشة، لكنها أكثر صدقا.
كيف ترى المشهد الشعري الفلسطيني الآن؟الشعر الفلسطيني يُعيد خلق نفسه من الردم. نعم، هناك انكسارات، لكن أيضا هناك ولادات قاسية. لا صوت يخفت إلا إذا اختنق. الآن، تتشكّل جماليات جديدة: موجعة، مشوشة، لكنها أكثر صدقا.
أصوات تتابعها وتجد فيها تمردا فنيّا جسورا في شعر اللحظة؟الأصوات التي أتابعها، أصوات تكتب بالسكين لا بالقلم. لا أريد أن أذكر أسماء هنا، فكل من يكتب بعد أن دفن حبيبا هو شاعرٌ جدير بالذكر. المفارقة أن الشعر أصبح يلمع حين ينكسر.
لو خُيّرت أن تترك سطرا على بوابة غزة، فماذا سيكون؟سطر على بوابة غزة: "هنا كتبتُ آخر نبضي… والباقي للسماء".
هل خانتك القصيدة في لحظة كنتَ بأمسّ الحاجة إليها؟خانتني القصيدة كثيرا، لكنها تعود، أحيانا على هيئة ندم. شغفي باللغة لم يخفت، لكنه تعلّم الصمت. أنا أكتب حين لا أستطيع أن أتكلم.
ما الذي يُوجع أكثر؟ما يُوجع أكثر هو التعود على الغياب. النسيان له دواء، أما التعود، فهو موتٌ بطيء.