جريدة الرؤية العمانية:
2025-05-11@01:01:07 GMT

هندسة التكوين المجتمعي الإنساني

تاريخ النشر: 15th, August 2023 GMT

هندسة التكوين المجتمعي الإنساني

 

 

إبراهيم بن عبد العزيز الزعبي

 

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (13: الحجرات).

في الحقيقة يدهشني البعض عندما يتجاوز المفهوم والمُراد الكلي من الآية السابقة فيجعل البشرية تنقسم إلى نوعين من حيث خلق الله لهم: الأول: مجهول النسب منفك عن الروابط الأسرية بعيدا في نمط وأسلوب حياته عن فلك الجماعة والقبيلة وهم الشعوب كما يزعمون.

والثاني: معروف ومحفوظ النسب وهم القبائل التي تهتم بأنسابها وروابطها وتوثيقها وتفعيلها مصورين بذلك أن روابط الدم والنسب خاصة بالقبيلة فقط.

ثم يحزنني التغييب المفتعل لدلالات "لتعارفوا" بالجملة وحصرها بمفاهيم ضيقة متعلقة بعوامل النسب وروابط الدم فقط دونما التطرق للوازم هذه المعرفة ومقتضياتها وضوابطها الشرعية والاجتماعية والعلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية التي تخضع للبيئات المرتهنة أصلا لعوامل ومؤثرات يتعرض لها الكيان الاجتماعي القبلي وغير القبلي على حد سواء (بعيدا عن روابط الدم) وهذه العوامل والمؤثرات من شأنها أن تؤسس للنظام الأسري والعائلي والقبلي والشعوبي بالشكل الذي يأخذ صورته ضمن المدخلات والمخرجات التراكمية والتي يعتبر رابط الدم أحدها وليس كلها وليس أهمها.

وما نراه أمرًا أكبر وأعظم وتصوراً أشمل بكثير مما درجت عليه أفهام البعض من تصورات قاصرة واستشهادات خاطئة حيث إن فهم عوامل تكوين المجتمعات مفهوم دقيق ومبحث علمي كبير خاضت به البشرية كلها ضل به من ضل واهتدى به من اهتدى.

لذلك كانت الحاجة ضرورية وملحة لإخبار الإنسان عن أصل خلقته وبدايته وطريقة تعايشه مع بني جنسه ونظامه المُحدد له في الخطاب القرآني وذلك بأنه ولد من ذكر وأنثى للدلالة على التزاوج والتكاثر وذلك طبقاً لما ورد في كتاب الله وأيضًا طبقًا للموروثات الثقافية والتراثة الإنسانية وللوثائق والدلائل والآثار والحفريات والتنقيب وما شابه ذلك؛ فالأصل في البشر أنهم ولدوا من ذكر وأنثى ثم تعاقبت البشرية من نسلهم ومنه فإنَّ البشرية كلها بهذا الشكل تنتسب إلى آباء وأجداد معروفين ومحددين تكاثروا وتناسلوا وتعاقبوا وشكلوا مجتمعاتهم ضمن نظام التعايش الجماعي الذي يظهر ابتداءً في الأسرة.

ومع ازدياد أعداد الأفراد الذين ينتمون إلى الأسرة تشكلت العائلة التي بدورها تحولت إلى بطون وعشائر وأفخاذ ومن ثم مجموعها تحول إلى قبيلة ومع تكرار هذه الحالة جيلا بعد جيل ومع توالد وتزايد الأفراد ضمن هذا التقسيم الفطري الطبيعي أصبحت القبيلة الأم تضم عددا كبيرا من البطون والأفخاذ التي بدورها تحولت إلى قبائل لكثرة أفرادها وازدياد أعدادهم ولظهور عوامل أخرى تتعلق بالنواحي السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها.

وهذه القبيلة التي أصبحت بطونها قبائل مستقلة للعوامل السابق ذكرها وضمن هذه المُعطيات يُطلق عليها اسم شعب فالشعب اسم يدل على صلة النسب البعيد بين عدد كبير من الأفراد الذين ينتسبون وينتمون إلى قبائل تعود بنسبها وانتمائها إما إلى قبيلة واحدة كبرى أو إلى جد واحد جامع ومثال ذلك عندما يقول المؤرخون (شعب مضر) يُراد به كل القبائل المضرية من ولد عدنان.

وبهذا التصور وضمن هذه المعاني يتضح لنا أن بيان منظومة "هندسة التكوين المجتمعي الإنساني" قائم على التعايش الجماعي.

والباحث في علم الاجتماع وفي مجالات العلوم ذات الصلة والمتتبع لحركة التغيير الاجتماعي يلاحظ عملية التشويه والإفساد والعبث التي تمارسها اليد البشرية من خلال الحرب الضروس وبكافة الأسلحة التي قد مورست ضد مفهوم الشعب والقبيلة والعائلة والأسرة حتى تخلت معظم البشرية عن هذا الرابط الاجتماعي الفطري الطبيعي المقدس ثم خضعت أحياناً إلى حالة انحلال العقد وانفراطه ودمار المجتمع وضربه بالصميم وبدأت بذلك المشاكل وحلت الكوارث في كثير من المجتمعات بسبب العبثية تلك والتي أثرت مباشرة على الحالة السياسية والاقتصادية بالذات فضلاً عن غيرها.

وعندما تصدر أصحاب الفكر والنخب الثقافية لوضع حل لتلك الأزمة وترتيب المجتمعات البشرية من جديد قالوا عودا على بدء إنَّ الحل هو إنشاء كيانات جماعية وتجميع البشر فيها فطرحوا فكرة الأحزاب والتيارات والحركات والأسر (السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها) وبهذا هم حاربوا القبيلة بل حاربوا الأسرة التي هي نواة القبيلة والعيش الجماعي والمجتمع واتهموا أفرادها بالعصبية وأنشأوا عوضا عنها الأحزاب التي بنوها أصلاً على مبدأ التحزب و التعصب وتحقيق المصلحة.

وكان البعض وللأسف من أبناء جلدتنا يساهم في هذه الحرب ضد "هندسة التكوين المجتمعي الإنساني" من خلال القول بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أن لا قيمة للنظام الأسري أو العائلي أو القبلي أو حتى الاجتماعي عامة ومخرجاته من حيث التنظيم الهرمي والقيمي والمادي والعلمي والثقافي والذي يخضع فيه الكل لمعايير صارمة ودقيقة ومحددة ابتداءً من الأمير أو الزعيم أو الشيخ أو عميد الأسرة أو الكبير أو الوجيه إلى أصغر أفراد المجتمع في القبيلة مرورا بكل الشرائح المنضوية في هذا المجتمع ضاربين بعرض الحائط الإرث القيمي المهول والذي خضع لكل المقومات الحضارية عبر العصور ضمن الإمكانيات المتاحة آنذاك.

والقبيلة تخضع لعوامل النهوض والانحطاط حالهم كحال بقية المجتمعات الأخرى

لكن السؤال المهم هنا:

هل من العقلانية أن يلقى اللوم على "هندسة التكوين المجتمعي الإنساني" عندما يتقاعس أفرادها عن حركة النهوض ويتأخر ركبهم الحضاري؟

أم هل من العقلانية والموضوعية أن يربط فشل البيئات المجتمعة والممارسات الخاطئة المرتبطة بها بهندسة التكوين المجتمعي الإنساني؟

أليس من القصور في التصور والمحاكاة والمحاكمات العقلية أن نجعل البيئة الاجتماعية و"هندسة التكوين المجتمعي الإنساني" شيئًا واحدًا.

وبالوقت الذي نرى فيه أنَّ حالة البداوة التي تحياها قبيلة ما في بيئات خضعت لعوامل عدة والتي يرى فيها البعض مظاهر التخلف والجهل وحالة من الهمجية فإننا نرى أنه يقابلها حالة من التخلف والجهل المزري والهمجية اللامعقولة بطريقة أو بأخرى تحياها شريحة مدنية (متحضرة!!)

إنَّ عوامل النهوض والترقي والتراكم الفكري ترتبط بالنواحي العقلية والعلمية والمعرفية ولا تخضع لروابط الدم أو النسب وأمثلة ذلك جلية واضحة لاسيما في الدول التي تقوم على أساس التجمع والتحالف القبلي الذي أدى الى الاستقرار والازدهار والتحضر المدني وظهور قامات فكرية وعلمية وعقلية قدمت الكثير للحضارة الإنسانية وبكل بساطة ما يزال هؤلاء أبناء قبائل وعوائل وأسر وما يزالون يحافظون على روابط الدم النسب ولو أردنا الاستفاضة لقلنا إن أكثر الدول تحضرًا أو استقرارًا في العالم وأذكر مثال (بريطانيا- السويد- أسبانيا- بلجيكا- ودول الخليج العربي غيرها) تحكمها أسر تنتمي إلى قبائل لكن هذا الانتماء لم يكن أبدًا عائقًا أمام الحالة الفكرية والعقلية والعلمية.. فتأمل!

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

هل الموارد البشرية جاهزة لقيادة الاستدامة؟

 

 

 

 

د. سعيد الدرمكي

في ظل التحديات البيئية المتسارعة كتغير المناخ وشُح الموارد، والضغوط الاجتماعية المتزايدة لتحقيق العدالة والمسؤولية المؤسسية، أضحت المؤسسات مطالبة بإعادة النظر في طريقة عملها ونموذجها الإداري. لم تعد الاستدامة خيارًا هامشيًا أو مسؤوليةً حصريةً على الإدارات البيئية أو المجتمعية، بل أضحت خيارًا استراتيجيًا من خلاله يُعاد تصميم السياسات والعمليات لمواكبة متطلبات المستقبل. وبهذا التحول يبرز سؤال جوهري: هل إدارة الموارد البشرية مستعدة للعب دور قيادي في تعزيز الاستدامة المؤسسية؟ هل تمتلك الأدوات والوعي الكافي لتقود التغيير في الثقافة التنظيمية وسلوك الموظفين ونظم الحوافز والتطوير؟

فمن خلال تبني ممارسات تسهم في تقليل الأثر البيئي وتعزيز الوعي المجتمعي، أصبحت قيادة الاستدامة في سياق الموارد البشرية شريكًا فاعلًا في تحقيق الأهداف البيئية والاجتماعية للمؤسسة. ويُعرف هذا التوجه بمفهوم "الموارد البشرية الخضراء"، الذي يتمثل في دمج مبادئ الاستدامة ضمن جميع وظائف الموارد البشرية، بدءًا من التوظيف الأخضر الذي يُركز على استقطاب كفاءات ذات وعي بيئي، مرورًا بتصميم برامج تدريبية تعزز الوعي البيئي والسلوك المسؤول، وانتهاءً بإدراج مؤشرات أداء ترتبط بالممارسات المستدامة.

علاوة على ذلك، تسهم الموارد البشرية في ترسيخ ثقافة تنظيمية تشجع على الترشيد، والابتكار، والمسؤولية المجتمعية. وترتبط هذه الأدوار ارتباطًا مباشرًا بأهداف التنمية المستدامة التي أقرتها الأمم المتحدة (SDGs) وتحديدًا: العمل (الهدف 8)، والاستهلاك والإنتاج المسؤولين (الهدف 12)، والعمل المناخي (الهدف 13). ولهذا، فإنَّ إدارة الموارد البشرية أصبحت محورًا استراتيجيًا.

وتشير الممارسات الحديثة إلى تزايد تفاعل إدارات الموارد البشرية مع قضايا الاستدامة، حيث بدأت تلعب دورًا محوريًا في دعم التحول الأخضر داخل المؤسسات. عالميًا، اعتمدت شركات رائدة مثل يونيليفر ومايكروسوفت سياسات توظيف تستند إلى الأهداف البيئية والاجتماعية، وخصصت برامج لبناء كفاءات مستدامة، إضافة إلى ربط الحوافز الوظيفية بمؤشرات أداء بيئية. محليًا، برزت مبادرات نوعية في سلطنة عُمان، مثل جهود شركة "بيئة" في خلق وظائف خضراء، ومبادرة "تنمية نفط عُمان" في دمج الاستدامة ضمن برامج التدريب. كما يبرز دور جيل الشباب من المهنيين، الذين يدفعون نحو سياسات أكثر شفافية ووعيًا بيئيًا. ويعزز هذا التوجه ما أشار إليه تقرير "مستقبل الوظائف 2025" للمنتدى الاقتصادي العالمي، بأن التحول الرقمي والمهارات الخضراء سيُعيدان تشكيل سوق العمل، مما يتطلب تطويرًا مستمرًا للمهارات. تعكس هذه المؤشرات أن الموارد البشرية تخطو بثبات نحو دور قيادي في الاستدامة، رغم الحاجة إلى مزيد من التكامل والتمكين المؤسسي.

ورغم وجود مؤشرات إيجابية تعكس استعداد بعض إدارات الموارد البشرية للانخراط في مسار الاستدامة، إلا أن الواقع يكشف عن تحديات تعيق هذا الدور القيادي. أبرزها ضعف المعرفة والتدريب المتخصص في مفاهيم الاستدامة البيئية والاجتماعية، مما يحدّ من قدرتها على دمجها ضمن العمليات التشغيلية. كما أن غياب المؤشرات البيئية في تقييم الأداء يقلل من ربط إنجازات الموظفين بأهداف المؤسسة البيئية، ما يؤثر سلبًا على التحفيز والممارسة اليومية. إضافة إلى ذلك، لا تزال الاستدامة منفصلة عن استراتيجية الموارد البشرية في العديد من المؤسسات، حيث تُعالج كقضية جانبية تُدار من جهات أخرى، بدلًا من دمجها ضمن التخطيط المؤسسي بعيد المدى.

ولكي تتمكن إدارات الموارد البشرية من أداء دور قيادي حقيقي في دعم الاستدامة، هناك مجموعة من المتطلبات الأساسية التي يجب العمل عليها لتعزيز جاهزيتها. أولًا، من الضروري بناء القدرات البيئية لموظفي الموارد البشرية، وذلك من خلال توفير برامج تدريب متخصصة تُعزز فهمهم لمفاهيم الاستدامة مثل التغير المناخي، الاقتصاد الأخضر، والمسؤولية المجتمعية، إلى جانب مهارات قياس الأثر البيئي. ثانيًا، ينبغي دمج الاستدامة في السياسات الداخلية للمؤسسة، بحيث تصبح جزءًا من أنظمة العمل اليومية، مثل ربط المكافآت بأداء الموظف في المجال البيئي، وتضمين مفاهيم الاستدامة في برامج التهيئة والتدريب المستمر. وأخيرًا، يجب إشراك الموارد البشرية في فرق القيادة الاستراتيجية المسؤولة عن تنفيذ خطط التحول الأخضر داخل المؤسسة، مما يُعزز دورها كشريك فاعل في رسم السياسات وصناعة القرار، بدلًا من أن تكون مجرد جهة تنفيذية. تحقيق هذه المتطلبات يفتح المجال أمام الموارد البشرية لتقود التحول نحو بيئة عمل مستدامة ومتكاملة.

في الختام.. يبرز التساؤل: هل نحن مستعدون فعلًا لتمكين الموارد البشرية من قيادة مسار الاستدامة؟ لم يعد دورها تقليديًا، بل بات محوريًا في تحفيز ثقافة العمل المستدام وصياغة السياسات المواكبة للتغيرات العالمية. وعليه، فإن تمكين الموارد البشرية لم يعد خيارًا، بل ضرورة ملحّة لبناء مستقبل مؤسسي أكثر شمولًا واستدامة.

مقالات مشابهة

  • القبيلة اليمنية الرديف للقوات المسلحة في معركة إسناد غزة والتصدي للعدوان الأمريكي الإسرائيلي
  • موريتانيا ترغب في استفادة أكبر من التجربة المغربية في مجال التكوين المهني
  • 3 ساعات .. فصل التيار الكهربائي غدًا عن محطة مياه إبشان بكفر الشيخ
  • هل الموارد البشرية جاهزة لقيادة الاستدامة؟
  • فصل الكهرباء غداً عن 9 مناطق بمدينة ببيلا بكفر الشيخ
  • فصل الكهرباء عن 5 قرى بكفر الشيخ .. اعرف المواعيد والأماكن
  • قبائل مذيخرة بإب تؤكد نصرة غزة وتعلن البراءة من الخونة والعملاء
  • قبائل مذيخرة في إب تجدد دعم غزة وتتبرأ من الخونة والعملاء
  • مدير تعليم سوهاج يتفقد لقاءات توعية لمعلمات التعليم المجتمعي
  • «أبوظبي للدفاع المدني» تُرسِّخ الوعي المجتمعي بالسلامة الوقائية من خلال حملة «حصَّنتُك للمنازل»