د. شهاب طه
لماذا التدخل الأممي ضرورة؟
في المقال السابق تحدثت عن المحركات الخمس المأججة للحرب وهي: الكيزان، والشعب المنقسم ما بين جيش وجنجويد، والتصنيف العرقي، والإتهامات الجزافية وإنعدام الثقة، والبرهان الذي يمثل السلطة، (راجع المقال) وهي دوافع حتماً ستضمن إستمرارية هذه الحرب والحروب التي ستليها إلى مالا نهاية.
نطالب بالتدخل الأممي قبل أن يفرض علينا. لماذا يبقى السودان كالطفل اليتيم الذي لا حول له ولا قوة ينتظر من يكفله ويتولى تدبير أموره وبذلك أقصد انتظارنا الغبي المهين لمخرجات إجتماعات مجلس فيما يخص سوداننا ونحن في مقدورنا، كأقدم المجتمعات البشرية عمراً وحضارةً على الإطلاق، أن نسخر كل الأمم المتحدة ومجلس الأمن وكل العالم ليكون في خدمتنا كشعب وليس كحكومات وساسة؟ لماذا لا نكون الفاعلون وغير المنتظرون لما يفعله الآخرون بنا؟ ما نتوقعه في يوم غدٍ يجب أن نبدأه اليوم نحن. لا بد من التقدم إلى الأمام دون خوف أو وجل. وإن لم نتقدم يعنى أننا نرجع للوراء لأن الذي نحن فيه لا يتوقف ولن يتوقف.
التدخل الأممي قد يفهمه البعض على أنه شيء مرحلي آني يهدف فقط لإيقاف الحرب الحالية بين الجيش ومليشيا الجنجويد، أو أنه تدخل قد تستفيد منه جهة أو جهات على حساب الآخرين ولكن ذلك غير صحيح، بل هو تدخل خارجي علاجي جذري بواسطة لجان تحكيم أممية لصالح الشعب وفقط الشعب، سيستمر على مدى عشر سنوات ونبذؤها بإنفاذ قرارات عاجلة من مجلس الأمن الدولي للوقف الفوري للعدائيات وعودة كل فرد لموطنه وإعادة كل النازحين لبيوتهم. هي تلك العشر سنوات التي قضتها سوريا وليبيا واليمن في تجويد حروبها الأهلية دون وعيّ لتعميق الأزمات وإحراق كل فرص السلام بزيادة الخراب والدمار الشامل للنسيج المجتمعي والبنيتين التحتية والفوقية. الذكاء هو أن نستفيد من تلك الدرس والعبر وأن نقضي تلك العشر سنوات في العلاج والإصلاح. في حقيقة الأمر هي عشر سنوات ضرورية لإنقاذ حياة رجل أفريقيا المريض "السودان" والذي دخل في غيبوبة تامة وموت سريريّ تستوجب التسفير للخارج أو جلب المعالجين للداخل، كواقع طبيعي لا مفر منه ودونه الموت.
سُمّي السودان رجل أفريقيا المريض، وهي تسمية ظلت سائدة على مدى عقود، وبصورة غير رسمية، في المحافل الدولية الدبلوماسية والإعلامية، وخاصة في جامعة الدول العربية. وهي مستوحاة من لقب "رجل أوروبا المريض" الذي أُطلق على الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر، في إشارة إلى ضعفها وتدهورها. التدخل العلاجي الأممي المطلوب يتوجب إعادة عجلة التاريخ لنقطة الصفر ومراجعة أمراض رجل أفريقيا المريض منذ الإستقلال ومعالجتها بطرق علمية وقانونية وعدلية وموضوعية للإشفاء والإصلاح ولتنفيذ ما يفيد الشعب كله، أولاً وأخيراً، فقط الشعب.، وذلك بخلق وطن فدرالي أو كنفدرالي أو الإنفصال الحتمي لمن أراد كما في قضية جنوب السودان، دون هلع أو جذع لأن كل أقاليم السودان ستظل متجاورة ولن يتم وضع أحدها في سفينة فضائية وإطلاقها لتستقر في كوكب زحل. هو تدخل ليس فيه مجال للتفاوض مع جهات بعينها دون الأخرى أو العمل على تمكينها أو غير ذاك، بل هو ترك المعالجون يعملون في صمت وخلوة كاملة. لماذا تعثرت العلاجات الداخلية الوطنية؟ نواصل في المقال (٣)
sfmtaha@msn.com
١٧ نوڤمبر ٢٠٢٤
رابط المقال الأول أدناه
https://www.facebook.com/share/p/18Gqh1qkY7/?
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
لماذا الرعب من ثورة النسوان؟
مقال / مها عوض
ما أن أعلنت النساء خروجهن تحت مسمى “ثورة النسوان” والتي هي تأخذ شكل ردة فعل تلقائية وعفوية تعكس حالة عدم الرضا العام والاحباط؛ تداعت لها النساء والشابات من مختلف الفئات العمرية؛ وتحمل أبعاد إنسانية حقوقية لا غير؛ أي أنها لا تعبر إلا عن الاحتجاج على استفحال الأوضاع الإنسانية والمعيشية غير المسبوقة في ظل الواقع الراهن المرتبط بالتدهور الممتد زمنياً وحتى وصلت إلى الحرمان من كل أسس الحياة الكريمة في انتهاكات للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بما فيها خدمات الكهرباء والماء والرواتب؛ إرتفاع مستويات الفقر وإنتشاره نتيجة الغلاء الفاحش وإنهيار العملة الوطنية وإنهيار نظم التعليم والصحة؛ ناهيك عن تفشي الفساد ومشاكله التي لا حصر لها؛ أثرت تداعياتها على الحياة ومقومات البقاء بشكل عام؛ مع فقدان القدرة على الصمود وتحمل ما لا يطاق من ضغوط هائلة متفاقمة على مستويات المعيشة انتهكت الحقوق والكرامة؛ وتسيد الظلم والقهر والاستبداد والاضطهاد؛ والحقيقة التي لا يمكن إغفالها بأنه بالرغم من تكرار هذه الأزمات التي كان يجب أن تُشكل بمثابة جرس إنذار لكي تضطلع السلطات الحكومية والمحلية وهي المسؤولة عن ذلك في المقام الأول في إعطائها الأولوية ببدل جهود حثيثة في التصدي لها والتركيز على اتخاذ المعالجات التي تضمن الاستجابة الفعالة وانتشال الناس من هذا الواقع؛ فضلاً عن إستباق إتخاذ الإجراءات اللازمة التي تحول وتمنع تكرارها قدر الإمكان؛ بدلاً ترسيخ ما يؤدي إلى تعاظمها ويزيد من حدتها ويدفع بها إلى أزمات متشابكة معقدة للغاية؛ ولكن هذا لم يحدث للأسف لعوامل وأسباب متعددة، على رأسها الفراغ المؤسسي في تولي زمام الأمور بسبب عدم قدرة الحكومة والسلطة المحلية على قيامها بأدوارها ومسؤوليتها المشتركة؛ مما يولّد غياب الثقة فيها؛ ومن هنا كان لابد لهذه الثورة أن تحدث؛ فهي تنُم عن حالة رفض بأنه لا يمكن الإبقاء في حالة إذعان وخضوع وترك الأمور تسير على النحو الذي هي عليه.
يبدو في الواقع اننا في هذه الثورة نشهد توجهاً إيجابياً ينُم عن توسع الوعي لدى النساء على مستوى القاعدة الشعبية في رفض الاستسلام والانقياد والتكيف مع أوضاع معيشية صعبة جداً ناتجة عن الظلم الاجتماعي والاقتصادي في خلق المعاناة “الجوع والفقر والحاجة” التي تلقي بظلالها على شرائح كبيرة من المواطنات والمواطنين في عدن الذين أصبحوا مهددين بزيادة معدلات الفقر؛ وغالباً ما تكون النساء الأكثر تضرراً من وطأة انهيار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وصعوبة الحصول على الخدمات؛ لا سيما من هن يقمن بدورهن في رعاية أسرهن؛ وبكونهن من بين الذين يجدون أنفسهم بشكل متزايد يواجهون ظروفاً قاسية وفرصاً محدودة وتحديات كبيرة في تحسين حياتهم التي تتبدد مع الحرمان من الحقوق الإنسانية الأساسية إذ لم يُعد بالإمكان احتمال هذا الضغط المتواصل.
استخدمت النساء حقهن في حرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي المكفول دستورياً وقانونياً في تنظيم المظاهرات والوقفات الاحتجاجية التي رفعت شعارات لرسائل ذات مغزى منها: (حقوقي شرعية دستورية ماء كهرباء صحة حياة كريمة- لا للجوع- ارفعوا الرواتب: مطالبنا حقوقية خدمية إنسانية – أريد حياة كريمة – لا لتجهيل الأجيال… وغيرها) وهي استحقاقات تطالب بها وتصر عليها ولا تقبل التفريط بها أو التنازل عنها والتقليل من أهميتها؛ وعملت على صياغة وتقديم البيانات للجهات المسؤولة والمعنية وهي تسعى بذلك الى إحداث تغيير واتخاذ إجراءات عاجلة لمعالجة هذا الوضع القائم والحد من سلبياته وآثاره الوخيمة.
لقد برزت “ثورة النسوان” كمعطى جديد في التعبئة المجتمعية؛ حيث ساهمت في تحفيز فئات عريضة من المجتمع نساء ورجال وشباب بناء على قواسم مشتركة في مشروعية الاستحقاقات المطالب بها؛ بالإضافة الى انها أسهمت في توسيع جغرافية مساحة الثورة من خلال تشجيع النساء في المحافظات أبين، لحج وتعز على الخروج واسماع أصواتهن بذات الاستحقاقات المطالبة برفع الظلم المستمر في تدهور الأوضاع المعيشية الاقتصادية والاجتماعية ومعاناة الحرمان من الخدمات الأساسية والتي تتباين درجة شدتها بين تلك المحافظات؛ وحيث أنه لا يوجد ثمة مجال للتشكيك والتزوير بشرعية ونوايا هذه الثورة؛ لذلك نجد ما أثير حولها من ردود أفعال ومواقف متناقضة تراوحت بين التأييد والإشادة والتنمر والامتعاض؛ ولن اتحدث هنا عن مظاهر الإعتراف بقوة هذه الثورة والتأييد والاشادة الواسعة حتى من الحكومة والسلطة المحلية التي حظيت بها “ثورة النسوان” باعتبار أهميتها الجوهرية وكيف أنها جسدت ملحمة نضالية وبطولية والأدلة على ذلك كثيرة جداً قد لا يسعني المجال لذكرها هنا؛ ولكن سأتحدث عن ذلك التنمر والامتعاض الذي أظهرها البعض بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي في محاولة بث سموم أفكارهم ومعتقداتهم في استهداف مقيت موجه ضد النساء من جهة؛ وكذلك الامتعاض أو السخط غير المبرر في الوصول الى خدمة غايات وأجندات بما يضمن حفاظهم على مصالحهم من جهة أخرى؛ ناهيك عن التضليل والاختراق المباشر لمساحة حرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي بشكل استغلالي للثورة بما يضمن الإبقاء والحفاظ على سلطة ونفوذ وامتلاك عناصر القوة للسيطرة على هذه الثورة وتقييدها؛ فإن هذا الاختراق بحد ذاته يشكل انتهاك فظيع وخرق كبير للحريات والحقوق الإنسانية .
أما على مستوى الفعل الأكبر فهو يتمثل بذلك الإجراء المتخذ من اللجنة الأمنية في عدن الذي قررت منع المظاهرات بما فيها “ثورة النسوان” والتي تعاملت معها النساء بإصرار على الخروج ولكنها فوجئت بما جرى من تطويق ساحة العروض بالحواجز الأمنية وقطع طرق الوصول اليها والانتشار الكبير للأفراد من النساء والرجال العسكريين والأمنين في صورة مشهد ترهيبي أقل ما يمكن وصفه كأننا تحت سلطة حرب؛ وهو ما أدى الى انصراف عدد كبير من النساء في مشاعر مختلطة برهبة من المشهد والانكسار النفسي في تقييد حقوهن وحرياتهن في الحركة والتجمع السلمي للتعبير عن رأيهن بشأن حقوق إنسانية لا يجب تقييدها؛ ومع ذلك فأن النساء اللواتي اتخذن مساحة هامشية لتجمعهن بعيداً عن ساحة العروض لم تسلم من مواجهة القمع والاعتداء السافر بالضرب من قبل النساء الأمنيات اللاتي بحسب قولهن لديهن تعليمات للتعامل بصرامة وحزم شديدين؛ وهذا انتهاك أخر باستخدام السلطة والقوة ضد النساء المدنيات العزل.
فالسؤال الرئيس هنا هو ما مدى فعالية هذه الأجراء في الاستجابة للاستحقاقات العادلة في الحياة الكريمة التي تضمنتها مطالب “ثورة النسوان”؛ ام هو بذلك تعبير عن خوف من هذه الثورة التي تمتلك فيها النساء الأسباب المقنعة والحجج المتينة والمثبتة لشرعية تجمعهن السلمي وهو الأمر الذي أدى إلى استخدام سلطة القرار في فرض القيود بمنعها ووقف الاستمرار فيها.
ما يمكن القول فيه هي “ثورة النسوان” التي أنطلقت من محيطها الخاص والعام؛ والتي استطاعت النساء أن توصل من خلالها أصواتهن؛ بالتالي ليس من الأجدى على اللجنة الأمنية منعها وإيقافها؛ بل على العكس من ذلك فأن الأحرى بها أن تقوم بواجبها في تأمين الحماية اللازمة وبكل ما من شأنه ان يسهل انجاحها.