تمثل "دار خولة"، أحدث أعمال الكويتية بثينة العيسى، عملًا أدبيًا يعكس الصراع العميق بين الذات والقيم المحيطة، فعبر شخصية "خولة"، قدمت الكاتبة نموذجا للمرأة العربية التي تعيش في عزلة نفسية وسط عائلتها، لتخوض مُجبَرة صراعًا داخليًا لاستعادة الشعور بهويتها، في ظل تأثيرات ثقافية واجتماعية تتغير بشكل متسارع، بسبب واقع تأثير "الآخر" على بناء الشخصية العربية وما ينجرُّ عن ذلك من صراع داخلي، كثيرا ما يؤثر سلبا على العلاقات المفترض أن تكون سويّة.

رواية "دار خولة" للكويتية بثينة العيسى، مرآة تعكس صراعات الإنسان (العربي) المعاصر مع هوية متغيرة تحت وطأة العولمة (الجزيرة) بداية الصراع

شخصية البطلة في "دار خولة" هي مثال للشخصية المركبة، فهي تعيش بين ماض تقليدي وحاضر متغيّر، ففي مشهد معبّر، تقول خولة "كنت أفتقد زوجي، وأردت التفرج على الأطفال الذين يرقصون بتلك الأزياء" (ص: 38)، يعكس هذا البوح، التوق لبناء علاقة قوية مع مَن تحبهم، ولكنها تشعر بتشتت عاطفي تجاههم، فأبناء خولة، كناصر ويوسف، يُجسدون التحول الاجتماعي الذي تكرَّس بتبني الشباب للقيم الغربية، حيث يعيش ناصر حياة "فردانية مطلقة" بعيدًا عن تواصل حقيقي مع والدته.

هذا التباعد يعمق من اغتراب خولة ويجعلها أمّا تتصارع مع ذاتها للحفاظ على هويتها التقليدية أمام تحول جذري، يشبه بنحو ما، ما رسمه قلم "د.هـ. لورانس" في عمله "أبناء وعشاق"، حين وصف علاقة بطلته "جيرترود موريل"  بأبنائها، حيث تسعى الأم إلى تحقيق سيطرة كاملة على حياة أبنائها، مما يؤدي إلى صدام مستمر.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2في الذكرى العاشرة لرحيل رضوى عاشور.. "الطنطورية" تنتظر العودة من الشتاتlist 2 of 2السرد المزدوج بين عمر وغابرييل.. رواية جون وايت "غزة: هذه الأرض النازفة"end of list

بيد أن الفرق هنا، هو أن خولة لا تسعى إلى تقييد أبنائها، بل كلّ ما ترجوه هو إيقاف انجرافهم نحو ثقافة لا تمتّ لها بصلة، مما يعكس خوفها من فقدان هويتها العائلية، التي حوّطتها العيسى بذكاء بأسوار من النوستالجيا المتماهية مع جدران "الدار"، فالمنزل في الرواية وظّفته الكاتبة ليكون رمزًا قويًا يعكس الصراع بين ما هو تقليدي وما هو حديث.

تشعر خولة بأن دارها لم تعد تحمل ذات المعنى، بل أصبحت فضاءً فارغًا؛ "بيت للعائلة لكنه فارغ" (ص: 38)، وكأنما يُفرغ ذلك الفراغ الروحي في ساكنيه خاصة أبناءها؛ ليَحضُر القارئ وهو يحاول تأمل رمزية المنزل في رواية دار خولة، ما سبق للمفكر عبد الوهاب المسيري أن أعلنه: "الحداثة تبتلع هوياتنا الأصلية"، وهو ما أدركته خولة أيضا، بعكس أبناء جيلها، مما يضفي على الرواية بعدًا فلسفيًا حول الهوية والصراع من أجل التمسك بالجذور.

فظاعة الاغتراب الداخلي وانسلاخ الهويّة

أحد الجوانب المحورية في الرواية هو طرح موضوع الهوية وما يعنيه من أن يفقد الإنسان إحساسه بالانتماء. نقرأ في أحد المقاطع:

"كلّ ما أرادته هو تنشئة أبناء فائقين… لكنها في نهاية المطاف، وجدت نفسها محاصرة بأبناء بلا جذور ولا سيقان"

(ص:43)

يعكس هذا الاقتباس مرارة الفجوة التي نشأت بين الأجيال. وهي نتيجة حتمية عن ابتعاد الإنسان المعاصر تدريجيًا عن جذوره، ليجد نفسه في عالم بلا روابط حقيقية، مثلما استنتج إريك فروم أو جورج ستاينر الذي اكتشف -وهو يدرس علاقة الاغتراب باللغة- أن اللغة نفسها قد تكون مصدرًا للاغتراب، إذ يصفها كـ"جسر غير مكتمل" بين الذات والآخر، مما يعمّق الشعور بالعزلة والفصل النفسي.

رواية "الساعة الخامسة والعشرون" لقسطنطين جيورجيو طرحت فكرة فقدان الذات أمام قسوة الحداثة وعزلة الإنسان في عالم متغير (الجزيرة)

رؤية تتناسب مع شخصية خولة التي -رغم محاولتها التعبير والتواصل مع أبنائها- تجد نفسها غريبة في بيتها ولغتها، حيث تصبح اللغة نفسها حاجزًا عاطفيًا. يبدو تواصلها مشوبًا بالقيود، وكأنها تعجز عن بناء جسور حقيقية معهم، مما يضفي بعدًا فلسفيًا على عزلة خولة.

هذا الاغتراب اللغوي يُشعرها أنها باتت غريبة وسط أفراد عائلتها، حتى ضمن إطار ثقافتها ولغتها الأم. تجربة خولة قد تكون فردية كما يحاول النص إيهامنا به، لكنها في الوقت ذاته تسلط الضوء على تصاعد تأثير الثقافة الغربية في الأوساط العربية، وهو تأثير لا يمكن تجاهله ولا تجاهل الوسائل الداعمة له، والتي أهمها السلطة الثقافية المهيمنة، أهمّ أدوات الغرب في تغريب الشعوب على حدّ تعبير جورج لوكاش، الذي تقاطعت رؤيته هذه مع رؤية قسطنطين جيورجيو في روايته "الساعة الخامسة والعشرون"، التي طرحت فكرة فقدان الذات أمام قسوة الحداثة وعزلة الإنسان في عالم متغير.

في رواية جيورجيو، يعاني الإنسان من امِّحاء هويته أمام قوة مهيمنة، حيث تُسلب منه ذاته وقيمه الأصيلة في دوامة الحداثة. في "دار خولة"، نجد تجربة مماثلة تتجسد في فقدان خولة لهويتها العائلية والأمومية، حيث ترى أبناءها يتبنون قيمًا وثقافات لا تمت بصلة إلى جذورها، وكأنها تخوض صراعًا للحفاظ على وجودها في مواجهة زحف عولمة تجعلها مجرد شخصية هامشية في عالم لا يشبهها.

لغة جميلة لواقع قبيح

تتميز "دار خولة" بلغة شاعرية، تختلط فيها مشاعر الألم والأمل، مما يجعل النص نابضًا بالحياة ومعبرًا بصدق عن الوجع النفسي لشخصية خولة. في مقطع من الرواية، نقرأ: "تكتشف أن الصمت وراء الصمتِ صمتٌ ثانٍ، وثالث، وعاشر" (ص:9). يظهر استخدام الكاتبة للغة كأداة لنقل العزلة والترددات النفسية التي تعيشها الشخصية.

وتذكرنا هذه اللغة بمقولة الشاعر محمود درويش: "في داخلي صوت يخبرني أن العزلة نوع من العودة إلى الذات". فالكاتبة تنجح في جعل اللغة جزءًا من رحلة البحث عن الذات، مستخدِمة إياها لتجسيد الحالة النفسية لخولة بكل وضوحها وتعقيداتها.

كذلك، يعيد أسلوب الكاتبة في وصف المنزل والجدران التي تروي..، قصصًا قديمة إلى الأذهان "بيت الأرواح" لإيزابيل الليندي، حيث تُروى القصص عبر تراكمات الماضي وسكون الحاضر. فبناء المنزل وصمته العميق يُكمل الصورة الرمزية للعزلة في حياة خولة.

دعوة للبحث عن الذات

رواية "دار خولة" للكويتية بثينة العيسى، مرآة تعكس صراعات الإنسان (العربي) المعاصر مع هوية متغيرة تحت وطأة العولمة. من خلال شخصية خولة، تُبرز الكاتبة ضرورة العودة إلى الجذور لإيجاد القوة الداخلية التي تحمي الذات من التلاشي في عصر الحداثة. الرواية تستحق التقدير لأصالتها في معالجة قضايا الهجرة الثقافية والعزلة الروحية، وتقدم صوتًا يعبر عن الحاجة إلى الارتباط بالجذور. إن هذا العمل الأدبي يعبر بحق عن قلق الإنسان العربي المعاصر، ويذكرنا بمقولة نيتشه الخالدة: "إذا قطعت جذورك، لن تستطيع الوقوف أبدا".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دار خولة فی عالم

إقرأ أيضاً:

العقل زينة

#العقل_زينة

د. #هاشم_غرايبه


كثيرا ما يحاول الذين يصدون عن منهج الله التذاكي بالادعاء أن سبب دعوتهم لفصل الدين عن السياسة هو عدم خلط المقدس بالمدنس أي تنزيه الدين والنأي به عن دنس البشر، لكن مسعاهم في حقيقته يهدف لتحنيط الدين بتجريده من التشريعات الضابطة للسلوك، وإبقائه مجرد قيم أخلاقية ودعوات للصلاح الفردي.
بالطبع الهدف من ذلك هو لمصلحة المترفين ذوي الأطماع، التي لا تتوقف عند حد، فلا يريدون للتشريعات الالهية أن تعيقها أو تضبطها، بل تترك لتشريعات البشر، والتي بحكم تنفذهم وسطوتهم يمكنهم تطويعها لصالحهم على الدوام، تحت مسمى ممكنات السياسة.
هذا هو جوهر المسألة، وأساس معاداة الدين، فليس الأمر متعلقا بعبادات مجهدة ولا تكاليف باهظة، فكل ذلك متروك للفرد، يزيد فيه أو ينقص بحسب همته، لكن الطامعين لا يتحركون إلا إن طولبوا بالامتثال للتشريعات العادلة التي جاء بها الدين لحماية الضعفاء من جور الأقوياء، عندها يتصدون للمطالبين بتطبيق منهج الله، وينشط المتنفذون وأدواتهم، وينضم إليهم الخلايا النائمة وهي فئة المنافقين التاريخيين المعادين لمنهج الله مبدئيا.
سألني احد هؤلاء – وهو يظن أنه أصاب مقتلا من المدافعين عن منهج الله -، فقال:
طالما أن الله خلق الإنسان ليسعده، فلماذا عرّضه لامتحان صعب، أوجد فيه غرائز قوية تدفعه لتلبية شهواتها دفعا، ثم طلب منه الصمود أمامها، واذا فشل سيلقي به في عذاب سرمدي!؟، كما أنه جعل ذاته خفيا على مدارك البشر، ثم طلب منهم أن يؤمنوا به ويتبعوا الدين الذي أنزله، ومن فشل في ذلك ينال عذابه.
الإجابة على تساؤله ليست صعبة لمن يفهم الحكمة من خلق البشر أصلا، فقد خلق الله قبلهم الملائكة، التي ارادها الله لخدمته وتنفيذ أوامره، لذلك جعلها مخلوقات مطيعة لله بفطرتها، ولا تملك الإرادة بالطاعة أو المعصية، وذلك يستوجب عدم المساءلة على أفعالها، وبالتالي فلا عقاب ولا ثواب ينتظرها.
هنالك مخلوقات أخرى خلقها الله لنفع الإنسان، وهي النباتات والحيوانات، وجعل لكل نوع منها مهمة تؤديها، ودورا محددا ضمن شبكة مترابطة بعلاقات محددة لا تتجاوزها، وتمثل هذه الشبكة النظام البيولوجي المتكامل، الذي يحقق مصالح للبشر دائمة ثابتة عبر كل الأزمان، متمثلة بتوفير الغذاء والمأوى وكافة الاحتياجات المعيشية لهم، مهما ازداد عددهم، ولأجل ذلك فقد خلق كل نوع منها لمهمة محددة تؤديها، من غير تقصير ولا إفراط، لذلك فهذه المخلوقات مفطورة لما خلقت له، ولا تملك الإرادة في تنفيذ المهمة أو رفضها، وعليه فلا حساب عليها، وبالطبع فلا ثواب ولا عقاب ينتظرها بعد انتهاء أجلها، لذلك لم يجعل الله لها حياة أخرى.
هكذا نجد أن الإنسان خلقه الله حر الإرادة، ولأجل أن يحسن الإختيار كرمه بميزات لم يعطها لغيره من المخلوقات، فقد جعله الأحسن تقويما بينها جميعا، فهو أجملها خلقة، ومنحه طباعا وأخلاقا أرقى منها، كما منحه العقل يحتكم اليه في تصرفاته وأفعاله، ووهبه قدرات خاصة كالقدرة على السير على قدميه وليس على أربع، كما وهبه أصابع ومفاصل تؤمن له استعمالات متعددة ليديه، كما وهبه النطق والتعبير بالكلام، كما وهبه قدرات فنية كالرسم والعزف والغناء ..الخ.
إزاء كل تلك الميزات والأكرامات، أيعقل أن يعامل الإنسان كما الحيوانات الأخرى المفطورة على ما خلقت له، من غير مطالبته بالتزام نحو المنعم والمتفضل بكل تلك الأعطيات الجزيلة؟.
أليس مطالبة الإنسان باستخدام هذه الأداة الثمينة (العقل وأدواته المنطقية)، في معرفة من وهبه كل ذلك، هو أقل القليل من تقدير لتلك التكريمات.
من محبة الخالق للإنسان، ومن تقديره له، أن جعل ذاته خفية عليه، فلا يستدل عليه بالمدركات الحسية التي أتاحها له كما لباقي الحيوانات، بل بالعقل، لذلك فمن استخدمه على الوجه الأرقى، عرف خالقه فأطاعه، فارتقى بذلك الى مصاف الملائكة، ومن فشل في ذلك فانقاد لشهواته، سقط الى مرتبة الدواب، ولذلك قال تعالى: “إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ” [الأنفال:55].
وفوق كل ذلك، ورحمة من الله بعباده، ولأنه لا يرضى لعباده جهل الكفر، فقد أودع الله في النفس البشرية فطرة الهداية، ثم أرسل لهم الرسالات منقذة، ثم أبقى لهم التوبة طوق نجاة.
وبعد، أليس الله رؤوف بالعباد!؟.

مقالات ذات صلة كلمة الرئيس الفلسطيني قطعت الطريق لإيقاف الحرب على غزة؟ 2025/05/18

مقالات مشابهة

  • فحص 744 ألف طفل ضمن المبادرة الرئاسية للكشف المبكر عن ضعف وفقدان السمع بالشرقية
  • فحص 744 ألف طفل للكشف المبكر عن ضعف وفقدان السمع بالشرقية
  • إجراء أول عملية لعلاج الجنف التنكسي بمستشفى نزوى
  • العقل زينة
  • حرية الاختيار: بين بناء الذات ومواجهة الضرورة
  • برج الحمل .. حظك اليوم الأحد 18 مايو 2025: تحقيق الذات
  • خالد العيسى يرد على هتافات الجمهور بضم ميسي .. فيديو
  • الأسس الفكرية في رواية مئة عام من العزلة لماركيز
  • “بسكويت مبتكر” لتقليل الشهية وفقدان الوزن
  • رواية جديدة للدانة البوهاشم السيد: «كان شغفي عطاء» إرادة تقهر الانكسار