زهير عثمان

ضياع الفكرة المركزية في السياسة السودانية و تشخيص الواقع واستشراف المستقبل
الفكرة المركزية في السياسة هي ذلك الإطار الجامع الذي يلتف حوله الجميع، يختزل رؤى وطنية مشتركة ويعكس طموحات الشعب وتطلعاته. إنها البوصلة التي توجه الدولة نحو الاستقرار والتنمية، وتضمن تماسكها في مواجهة التحديات. في السودان، الذي يتميز بتعدد عرقي وثقافي وديني واسع، غابت هذه الفكرة المركزية بشكل مؤلم، تاركة البلاد في حالة تيه سياسي واجتماعي.

هذا الغياب ليس مجرد نتيجة لتراكم الأزمات، بل يعكس مشكلة أعمق تتمثل في فشل القوى السياسية على مدى عقود في بناء مشروع وطني يتجاوز المصالح الذاتية نحو مصلحة السودان الكبير.
شهدت الدولة السودانية منذ الاستقلال تاريخًا سياسيًا مضطربًا، حيث تناوبت الحكومات العسكرية والمدنية في الحكم دون أن تنجح أي منها في ترسيخ رؤية وطنية طويلة المدى. ساهمت سياسات التهميش والإقصاء في تعزيز الانقسامات الداخلية، بينما عمقت التدخلات الخارجية من تعقيد الأوضاع. فالتنوع العرقي والديني الذي يمكن أن يكون مصدر قوة وتحفيز للتقدم، تحول إلى شرخ عميق نتيجة غياب العدالة الاجتماعية والسياسات المتوازنة. أضف إلى ذلك الفساد المؤسسي الذي أصاب مؤسسات الدولة بالشلل، مما جعلها غير قادرة على القيام بدورها في بناء الثقة بين المواطن والدولة.
تجلت الآثار السلبية لغياب الفكرة المركزية في سلسلة من الأزمات التي عانى منها السودان لعقود. كانت الصراعات المسلحة في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق أبرز ملامح هذه الأزمة، حيث أصبحت هذه المناطق بؤرًا للعنف والنزاع بدلًا من أن تكون شريكًا في التنمية. التخلف الاقتصادي، بدوره، كان نتيجة طبيعية لغياب الاستقرار السياسي، حيث أُهدرت الموارد في النزاعات بدلاً من استثمارها في مشاريع التنمية المستدامة. ومع هذا كله، تعمقت أزمة الهوية الوطنية، حيث بات السودانيون منقسمين على أنفسهم بين انتماءات ثقافية ودينية وسياسية متباينة.
إذا أردنا فهم هذه الأزمة بشكل أكثر شمولًا، يمكننا مقارنة التجربة السودانية بدول أخرى ذات تركيبة سكانية مشابهة. الهند، على سبيل المثال، استطاعت أن تتجاوز تنوعها العرقي والديني من خلال ترسيخ قيم الديمقراطية والعلمانية، مما جعلها نموذجًا يحتذى به. رواندا أيضًا قدمت درسًا مهمًا، حيث تجاوزت مآسي الإبادة الجماعية من خلال تعزيز المصالحة الوطنية وبناء مؤسسات قوية. على النقيض، ظل السودان رهين الأيديولوجيات السياسية المتناحرة، التي ساهمت في تفاقم الأزمة بدلاً من حلها.
كان للأحزاب السياسية السودانية دورٌ ملحوظ في تقويض الوحدة الوطنية. انشغلت معظم الأحزاب بصراعات السلطة والمكاسب الآنية، مما جعلها عاجزة عن تقديم مشروع وطني شامل. في المقابل، يمكن للمجتمع المدني أن يلعب دورًا حاسمًا في بناء الوعي الوطني وتعزيز قيم المواطنة. مؤسسات المجتمع المدني، إذا ما أُتيحت لها الفرصة، قادرة على أن تكون وسيطًا فعالًا بين الأطراف المتصارعة، وأن تسهم في صياغة رؤية وطنية مشتركة.
تحقيق النهضة الشاملة في السودان لا يمكن أن يتم دون توحيد الرؤية الوطنية. فالتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية هما أساس أي مشروع نهضوي حقيقي. ومع ذلك، فإن هذا الهدف يواجه تحديات كبيرة، منها استمرار النزاعات المسلحة، وضعف المؤسسات، والافتقار إلى الإرادة السياسية الحقيقية. لتحقيق هذا التغيير، يجب وضع أولويات واضحة تركز على تعزيز سيادة القانون، وتوفير الخدمات الأساسية، وإعادة بناء المؤسسات على أسس عادلة وشفافة.
النموذج التنموي الأمثل للسودان يجب أن يكون قائمًا على العدالة الاجتماعية، حيث يتم توزيع الموارد بشكل عادل بين جميع مناطق البلاد. يمكن للسودان أن يستلهم تجارب دول مثل ماليزيا، التي استطاعت أن توازن بين التنمية الاقتصادية والحفاظ على تنوعها الثقافي. التحديث لا يعني التخلي عن التراث، بل يمكن للسودان أن يحقق تقدمًا مستدامًا من خلال تبني سياسات تنموية تحترم الهوية الوطنية وتستجيب لمتطلبات العصر.
في خضم كل هذا، يبرز دور الشباب كأحد أهم عوامل التغيير. الشباب السوداني، بما يملكه من طاقة وطموح، قادر على قيادة عملية التحول، شريطة أن يتم تمكينه وإعطاؤه الفرصة للمشاركة الفاعلة في بناء مستقبل البلاد. الحوار الوطني الشامل هو أيضًا مفتاح الحل. إنه السبيل الأمثل لرأب الصدع وإيجاد حلول توافقية تُرضي الجميع، وتضع السودان على طريق الاستقرار والتنمية.
إن ضياع الفكرة المركزية في السياسة السودانية لم يكن مجرد حدث عابر، بل كان نتيجة تراكمات تاريخية وسياسية واجتماعية معقدة. ومع ذلك، فإن السودان ما زال يملك فرصة للخروج من أزماته إذا ما توفرت الإرادة السياسية والرؤية الاستراتيجية. السودان بحاجة إلى فكرة مركزية جامعة تعيد للمواطن ثقته بالدولة، وتضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. فقط من خلال هذه الرؤية المشتركة يمكن للسودان أن يبدأ رحلة التعافي نحو بناء دولة عادلة ومستقرة ومزدهرة.

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فی بناء من خلال

إقرأ أيضاً:

عناوين الصحف السودانية الخميس 31 يوليو 2025

متابعات-  تاق برس- عناوين الصحف السودانية اليوم الأربعاء 31 يوليو 2025

 

مصر تؤكد دعمها لسيادة السودان وترفض أي خطوات تهدد وحدته

علاقة ميليشيا البراء بالنظام الإيراني تضع إعلانها الأخير في دائرة الشك

مصر تُفشل اجتماع الرباعية بشأن السودان وترفض المبادرة الأميركية لاستعادة الحكم المدني

الخارجية تشيد بمساندة مصر للسودان في المنابر الدولية

الاتحاد الإفريقي يؤكد دعمه وحدة السودان واستقراره

خبيرة بالشأن السوداني تعلق على اسباب إلغاء اجتماع اللجنة الرباعية

مصادر دبلوماسية توضح اسباب تأجيل اجتماع رباعي بشأن السودان

خلاف مصر والإمارات يؤجل اجتماع الرباعية بشأن السودان

السودان يطالب بإنهاء بعثة تقصي الحقائق في البلاد

بعد اختراقهم الحدود.. عناصر من الدعـ.ـم تثير أزمة في دولة مجاورة

اشتباكات حدودية بين أوغندا وجنوب السودان تثير مخاوف من تصعيد إقليمي

جريدة لندنية : وسط أزمة ثقة داخل معسكر الجيش مناوي يغازل “صمود” والــ.ــدعم.. مناورة سياسية أم تحول استراتيجي؟

السودان على حافة الانهيار السياسي: الشيوعي يرفض شرعية حكومتي الشرق والغرب

كشف صفقة بين الإسلاميين والبرهان تعيد وجوه نظام البشير إلى المشهد في السودان عبر الحرب

فارس النور يرد عن منتقدي اول قراره في الخرطوم ويقول السودان الجديد دولة مدنية تتسع للجميع

قائد ميداني في الدعـ.ــم يختفي في ظروف غامضة وسط أنباء عن تمرده او اعتقاله

مجلس السلم والأمن الافريقي يدين اعلان حكومة تأسيس ويطالب بوقف فوري لإطلاق النار في السودان

محامو دارفور: لا شرعية لحكومات بورتسودان وغرب السودان والحرب قضت على شعارات الثورة

تجار الفاشر يتهمون عناصر الجيش بسرقة متاجر سوق المواشي في وضح النهار

الجيش السوداني يسيطر على رهيد النوبة في شمال كردفان

تعقيدات المشهد السوداني الداخلي عقب اعلان حكومة تأسيس يؤجل اجتماع الرباعية في واشنطن اليوم

إلغاء اجتماع الرباعية حول السودان يثير جدلاً واسعاً وسط غياب الأسباب الرسمية

الاعلامي بحيري يقضي 6 أشهر في معتقل الجيش دون محاكمة والأسرة تكشف تفاصيل ما يتعرض له

الدقير يعلق.. تصريحات مناوي تفتح باب الحوار بين الأطراف السودانية وسط تصاعد الأزمة السياسية

مخاوف من انفصال غير معلن في السودان مع حديث حكومة “تأسيس” عن عملة وجوازات جديدة

زيارة نويصر لبورتسودان تثير تساؤلات حول جدية الحكومة في وقف الانتهاكات ومحاسبة المسؤولين

غارات مسيرة مكثفة للجيش على أبو زبد تسفر عن خسائر بشرية وتثير الذعر بين السكان

لجنة طوارئ الخريف بالخرطوم توجه بمراجعة كفاءة المصارف

رئيس مفوضية السلام يلتقي ممثل الاتحاد الأفريقي بالسودان

وزير الزراعة بالنيل الازرق يثمن جهود اللجنة العليا لانجاح الموسم الزراعي

عودة مظاهر الحياة من جديد في شوارع العاصمة الخرطوم وأسواقها

رئيس الوزراء يدعو الاتحاد الإفريقي للتعامل مع رفع تعليق عضوية السودان كحق مكتسب

راصد جوي يحذر من رياح نشطة مثيرة للأتربة في عدة مناطق سودانية

هيئة النظافة تبدأ العمل رغم فقدان الآليات ..الخرطوم تطلق حملة إسعافية للنظافة

انعدام تام لمحصولي الدخن والذرة في أسواق الفاشر

طائرة جديدة لطيران بدر تتأهب للرحلات الداخلية في السودان

لجنة تناقش ضبط الطبالي المخالفة لشروط الأمتعة الشخصية للمغتربين وضبط استيراد السيارات

سفير سوداني سابق يسخر من الترويج للاستثمار وسط الحرب عقب طرح بورتسودان فرصاً استثمارية للبرازيل

تحذيرات دولية من الطيران فوق السودان تدفع شركات كبرى لتعليق رحلاتها إلى مطار بورتسودان

النيابة العامة تحذر من تحويل الأموال إلى نقد بأقل من قيمتها عبر التطبيقات المالية وتصفه بالربا

أقوال الصحفعناوين الصحف السودانية

مقالات مشابهة

  • كتاب «أسرار الصراع السياسي في السودان».. رؤية تحليلية لجذور الأزمة السياسية السودانية
  • مبادرة “أممية” لتأهيل 40 موقعا للمياه في شرق السودان
  • «الجبهة الوطنية» يعلن تشكيل أمانة الفلاحين المركزية بالحزب
  • رجال دين: “الجبادات” حرام شرعا
  • الطيور تمتلك “ثقافة” و”تراثا” تتناقله الأجيال
  • إزالة “741” مقذوفا من مخلفات الحرب بولاية في وسط السودان
  • “الدعم السريع” تنشئ كلية حربية في إحدى مدن غرب السودان
  • تحالف “صمود” ينزع الشرعية عن الجميع
  • “الديمقراطية” تدين المجزرة الصهيونية البشعة في منطقة السودانية
  • عناوين الصحف السودانية الخميس 31 يوليو 2025