في ظل الصراعات المستمرة في العديد من الدول العربية، ظهرت تحالفات سياسية وأحياناً سياسية-عسكرية تضم قوى مدنية معارضة للنظم الديكتاتورية، تطالب بالديمقراطية وترى أنها تمثل الثورات الشعبية والشرعية. هذه التحالفات شملت أحياناً تيارات إسلامية معتدلة وأحياناً متطرفة وأحياناً مليشيا عرقية مسلحة. في بعض الحالات، تم تشكيل حكومات منفى تسعى للحصول على الاعتراف السياسي ونزع الشرعية عن الأنظمة الحاكمة أو سلطات الأمر الواقع، بهدف تحقيق ما تصفه بمصالح شعوبها.
لكن هذه الحكومات واجهت تحديات كبيرة، مثل ضعف قدرتها على التأثير داخل البلاد. وبعضها استُغل من قوى خارجية لتحقيق مصالحها الخاصة. هذا المقال يستعرض تجارب حكومات المنفى في دول عربية، ويناقش ما إذا كانت هذه الفكرة مفيدة للسودان في ظل الظروف الحالية.
تجارب حكومات المنفى في المنطقة
في عام ٢٠١٢، بعد اندلاع الصراع السوري، شكّلت المعارضة السورية حكومة منفى في تركيا، ممثلة بـ"الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية". رغم الدعم الدولي، واجهت هذه الحكومة تحديات كبرى، أبرزها الانقسامات الداخلية، حيث تعددت الخلافات بين فصائل المعارضة السياسية والعسكرية، مما صعّب اتخاذ قرارات موحدة. كذلك تعرضت للاستغلال الخارجي حيث عمت قوى إقليمية ودولية حكومة المنفى، لكنها سعت لتحقيق أجنداتها الخاصة. مما أضعف وحدة الحكومة وزاد من الخلافات بين الفصائل السياسية والعسكرية المختلفة، فمثلاً تركيا استبعدت الأكراد ودعمت فصائل معينة، دول الخليج دعمت أطرافاً متباينة، كذلك التنافس بين القوى الدولية (أمريكا وروسيا) زاد من تعقيد المشهد.
بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء عام ٢٠١٤، انتقلت الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً إلى السعودية. حصلت على دعم التحالف العربي بقيادة السعودية، الذي تدخل عسكرياً عبر عملية "عاصفة الحزم". لكن ظهرت الانقسامات الداخلية أيضاً بين الفصائل اليمنية المدعومة من أطراف مختلفة. كذلك تعرضت الفصائل المختلفة لاستغلال خارجي مما زاد من حدة الإنقسامات، فالسعودية والإمارات تنافستا داخل التحالف نفسه، مما أضعف الحكومة. زادت التدخلات الخارجية من تعقيد الصراع بدلاً عن حله.
في ٢٠١٤ نقل "مجلس النواب الليبي" مقرّه إلى طبرق في شرق ليبيا (يمكن إعتباره منفى داخلي) بسبب النزاع مع القوى الإسلامية والمليشيات في طرابلس. رغم الدعم الدولي، واجهت الحكومة الليبية تحديات مشابهة: إنقسامات داخلية وصراع بين الفصائل، وتدخلات خارجية لتحقيق مصالح اقتصادية، خاصة في قطاع النفط.
استغلال حكومات المنفى من القوى الخارجية
حكومات المنفى في الدول العربية كانت في كثير من الأحيان أداة لتحقيق مصالح القوى الدولية والإقليمية. في سوريا دعمت دول مثل أمريكا وتركيا المعارضة لأهداف مختلفة مثل مواجهة الإرهاب، تحجيم النفوذ الإيراني، وتحجيم فصائل لها إرتباطات مع قوى تدعم قوى إنفصالية ومعارضة لها كالأكراد بين سوريا وتركيا. في اليمن دعمت السعودية الحكومة اليمنية لمواجهة الحوثيين، بينما دعمت الإمارات المجلس الانتقالي الجنوبي لتحقيق مصالحها مما زاد من إنقسام الفصائل. في ليبيا تنافست دول غربية وإقليمية لدعم فصائل مختلفة لتحقيق مصالح اقتصادية واستراتيجية.
الدروس المستفادة للسودان
إذا فكرت تقدم في تشكيل حكومة منفى، فعليها أن تتعلم من تجارب الدول الأخرى. فيجب توحيد الأطراف المدنية والسياسية السودانية لضمان وضوح الأهداف والرؤية. في ظل الانقسامات الحالية، يبدو هذا صعباً، مما يجعل فكرة حكومة المنفى غير مناسبة في الوقت الحالي. كما يجب أن تضمن الحكومة استقلال قرارها وألا تكون أداة لتحقيق مصالح دول أخرى. لكن في ظل حاجة حكومة المنفى للدعم الخارجي السياسي للضغط على المتحاربين، فإنها قد تتعرض للاستغلال أو الاختراق. أي حكومة منفى يجب أن تتمتع بقدرة حقيقية على تحسين الوضع داخل السودان، في الظروف الراهنة، قد تضطر للعمل في مناطق سيطرة مليشيا الدعم السريع، مما يعقّد الوضع، خاصة أن الدعم السريع لن يقبل تسليم السلطة لأي جهة أخرى وهو قد حارب عليها من صنعوه، مما يجعل أي حكومة منفى مجرد غطاء للمليشيا.
ختاماً، تجارب حكومات المنفى في سوريا واليمن وليبيا فشلت في تحقيق أهدافها لأسباب داخلية وخارجية، أبرزها الانقسامات بين مكوناتها وتعرضها للاستغلال من القوى الإقليمية والدولية. في الحالة السودانية، تشكيل حكومة منفى في ظل الانقسامات الحالية قد يجعلها أداة لقوى خارجية أو غطاءً سياسياً لمليشيات الدعم السريع، مما يفقدها الدعم الشعبي. بدلاً من ذلك، على القوى المدنية السودانية أن تبحث عن حلول مبتكرة تتجنب تكرار أخطاء حدثت من تجارب الشعوب حولنا، وتحقق السلام والعدالة والديمقراطية التي ينادي بها خطابها.
mkaawadalla@yahoo.com
محمد خالد
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: حکومة المنفى لتحقیق مصالح حکومة منفى
إقرأ أيضاً:
د. ثروت إمبابي يكتب: التحول الأخضر في الزراعة المصرية.. دور الطاقة المتجددة لتحقيق الاستدامة
في ظل التحديات البيئية والاقتصادية التي تواجه مصر، لا سيما في قطاع الزراعة، برزت الطاقة المتجددة كأحد الحلول الواعدة لتحقيق التنمية المستدامة. إن اعتماد مصادر الطاقة النظيفة مثل الطاقة الشمسية والرياح في العمليات الزراعية لم يعد رفاهية، بل ضرورة ملحّة لمواجهة ندرة المياه، وارتفاع تكلفة الوقود، وتغير المناخ.
ومن واقع اهتمامي الشخصي بالقضايا البيئية، أرى أن دمج الطاقة المتجددة في الزراعة يمثل نقطة تحول استراتيجية نحو مستقبل زراعي أكثر أمنًا وكفاءة واستدامة. يعاني القطاع الزراعي في مصر من عدة مشكلات مزمنة، أبرزها ندرة المياه نتيجة الاعتماد شبه الكامل على نهر النيل، وارتفاع تكلفة الإنتاج بسبب أسعار الوقود المستخدمة في تشغيل ماكينات الري والنقل، إضافة إلى ضعف البنية التحتية التكنولوجية، وتأثيرات التغير المناخي التي تهدد الإنتاجية الزراعية وتُخلّ بتوازن النظم البيئية.
ومن هنا، تأتي أهمية البحث عن حلول بديلة وفعالة. تتمتع مصر بإمكانات هائلة في مجال الطاقة المتجددة، خصوصًا الطاقة الشمسية التي توفر أكثر من 3,000 ساعة سطوع شمسي سنويًا، والطاقة الريحية في مناطق مثل خليج السويس وسيوة، إلى جانب إمكانية الاستفادة من الكتلة الحيوية عبر تحويل المخلفات الزراعية إلى مصادر طاقة. إن إدخال هذه التقنيات في العمليات الزراعية يمكن أن يُحدث تحولًا نوعيًا؛ إذ يمكن استخدام أنظمة الري بالطاقة الشمسية لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، وتشغيل البيوت المحمية بالطاقة النظيفة، فضلًا عن توليد الكهرباء من المخلفات الزراعية وتخزين المنتجات الزراعية في وحدات تبريد تعمل بالطاقة المتجددة، وهو ما يسهم في تقليل الفاقد وتحسين جودة المنتجات.
ومن التجارب التي أتابعها باهتمام، هناك مشروع تركيب أنظمة ري تعمل بالطاقة الشمسية في بعض قرى الصعيد، بتمويل مشترك بين الدولة وبعض المنظمات الدولية، وقد ساهم في تقليل استهلاك الديزل، وزيادة ساعات تشغيل المضخات دون الحاجة إلى وقود خارجي. هذا النوع من المشروعات لا يوفر فقط الطاقة، بل يمنح المزارع الصغير شعورًا بالاستقلالية ويقلل من اعتماده على دعم حكومي دائم. كذلك، فإن الطاقة المتجددة تسهم في تمكين المرأة الريفية، حيث إن وجود مصدر طاقة موثوق ومستدام داخل المزارع والمنازل الريفية يساعد في تحسين جودة الحياة، وتمكين النساء من الدخول في مشاريع صغيرة مثل إنتاج الأغذية المصنعة أو إدارة وحدات تبريد وحفظ المنتجات، ما يفتح آفاقًا اقتصادية جديدة في المجتمعات الزراعية.
ومن الجوانب التي لا يمكن إغفالها كذلك، أن استخدام الطاقة المتجددة في الزراعة يحد بشكل كبير من الأثر البيئي السلبي الناجم عن الاعتماد على الوقود الأحفوري. فالمحركات التي تعمل بالديزل تطلق كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون وغيره من الغازات الدفيئة، مما يسهم في تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري. أما التحول إلى الطاقة الشمسية والرياح، فهو يقلل من البصمة الكربونية للأنشطة الزراعية، ويحافظ على نقاء الهواء والتربة والمياه.
وهذا أمر بالغ الأهمية، خاصة في المناطق الزراعية التي تعتمد على مصادر المياه الجوفية والسطحية، إذ أن تقليل التلوث يعني الحفاظ على جودة الموارد الطبيعية وضمان استدامتها للاستخدام البشري والزراعي على حد سواء. ومن ناحية أخرى، فإن إدخال الطاقة المتجددة في الزراعة له أثر اقتصادي مباشر على المزارع الصغير.
فخفض تكلفة تشغيل المضخات ووحدات التبريد والتخزين ينعكس على خفض تكلفة الإنتاج، وزيادة القدرة التنافسية للمنتجات الزراعية في الأسواق المحلية والدولية. كما أن التخلص من تقلبات أسعار الوقود يعني استقرارًا أكبر في ميزانية المزارع، ما يشجعه على الاستثمار والتوسع، ويقلل من مخاطر الديون والاعتماد على التمويل الخارجي. ومن وجهة نظري، لا يكفي الحديث عن الطاقة المتجددة كحل تقني فحسب، بل يجب أن يكون هناك إرادة سياسية قوية واستثمار طويل الأمد في البنية التحتية، إلى جانب رفع وعي المزارعين بأهمية الطاقة النظيفة. إنني أؤمن بأن مستقبل الزراعة في مصر سيكون مرهونًا بمدى قدرتنا على استيعاب هذا التحول الأخضر، لا بوصفه خيارًا بيئيًا فحسب، بل كحل اقتصادي استراتيجي يحافظ على الأمن الغذائي ويخلق فرص عمل جديدة في الريف.
كما أرى ضرورة أن تتكامل الجهود بين وزارات الزراعة والكهرباء والبيئة والتعليم، لتنشئة جيل جديد من المزارعين على أسس المعرفة التكنولوجية والاستدامة.
وفي ضوء ما سبق، يتضح أن للطاقة المتجددة دورًا محوريًا في إنقاذ الزراعة المصرية من التحديات المتفاقمة التي تواجهها. ومع أن الطريق لا يزال طويلاً، فإن الخطوات الأولى قد بدأت، وما علينا إلا أن نسرّع هذا المسار برؤية واضحة وتعاون جاد بين الدولة والمجتمع والمزارعين أنفسهم. إن الزراعة المستدامة ليست حلمًا بعيدًا، بل مشروعًا واقعيًا يبدأ من ألواح شمسية في حقل صغير، وينتهي بمنظومة زراعية حديثة تضمن الأمن الغذائي للأجيال القادمة.