أكد كتاب وإعلاميون عرب، أن وسائل الإعلام تلعب دورًا رئيسيًا في توجيه الرأي العام وصنع القرارات المجتمعية التي تسهم في ترسيخ قيم التعايش السلمي الدولي، وأنه متى ما كان الإعلام ملتزمًا بالقيم الأخلاقية، فإنه يصبح أداة لبناء مجتمع أكثر وعيًا وعدلاً، أما إذا غابت الأخلاقيات، فإنه قد يصبح مصدرًا للضرر.

جاء ذلك في مائدة مستديرة نظمتها لجنة الإعلام التابعة للمركز الدولي للقيم الانسانية والتعاون الحضاري في موضوع: "الإعلام والفاعلية الأخلاقية"، والتي بثت عبر حسابات المركز وصفحاته على مواقع ومنصات التفاعل الاجتماعية، يوم السبت 21 كانون أول/ ديسمبر الحجاري.



شارك في النقاش الذي أدارته الإعلامية شيماء التجاري، كل من الإعلامية إسراء الشيخ من إسطنبول، وعادل الحامدي من لندن، وعبد الله مشنون من روما.

وأكدت التجاري في تقديمها للحوار أن الإعلام هو صلة الوصل التي من شأنها مد جسور التواصل بين الناس في مختلف بقاع العالم، وأنه يلعب دورا أساسيا في الانفتاح على كل ما يجري في العالم والتفاعل معه وفق ما تقتضيه قناعات الأفراد باختلاف مرجعياتهم وثقافاتهم ولغاتهم وأجناسهم.

وأشارت إلى أنه في ظل ما يعرفه العالم من متغيرات متسارعة ساهمت في تجددها الطفرة التكنولوجية والتحول الرقمي الذي اكتسح كل مجالات الحياة، بحيث أفرزت هذه المتغيرات أزمات حقيقية أرخت بضلالها على الوجود الإنساني ككل فغيبت حقيقته وزيفت معناه وغيرت وجهته نحو التيه والانحلال الخلقي وغياب المعنى وظهور النزعات الفردية والجنسية المدمرة للفطرة السوية.

وأكدت أنه كثيرا ما نجد أن الاستغلال السيئ لسلطة الإعلام ونفوذه قد ساهم بشكل من الأشكال في مواصلة تغييب منظومة الأخلاق والقيم الإنسانية من حياة الناس عموما لتزيد من قوة الانتكاسة الأخلاقية التي يعرفها العالم بأسره.

وقالت: "أمام هذه الأوضاع وغيرها لم يعد أمام كل من له ضمير حي سوى التشمير عن السواعد من أجل إعادة لفت الأنظار نحو الدور الأخلاقي للإعلام.. وبناء عليه ترمي هذه المائدة المستديرة التي تنظمها لجنة الإعلام التابعة للمركز الدولي للقيم الإنسانية والتعاون الحضاري إلى تناول موضوع "الإعلام وسؤال الفاعلية الأخلاقية" من خلال محاور هي كالآتي:

1 ـ الأدوار المنوط بالإعلام القيام بها في ظل الأزمة الأخلاقية العالمية
2 ـ إسهامات الإعلام في تكريس الفعل الأخلاقي الإعلامي
3 ـ تحديات ورهانات المرحلة

وتحدثت إسراء الشيخ، وهي صحفية وإعلامية، ومقدمة برامج في إسطنبول بتركيا عن الأدوار الأساسية التي يجب أن يقوم بها الإعلام في تعزيز القيم الانسانية خلال الأزمات الأخلاقية العالمية. وأشارت إلى أن العالم لا يعيش أزمة أخلاقية عالمية فقط، وإنما يعيش واقعا يتم فيه تصفية وإبادة القيم، تصفية الانسان وإبادته إبادة جماعية، وتدعو إلى ذلك وتشارك فيه عدد من وسائل الإعلام بشكل مباشر، حيث تقوم بالتواطؤ والتحريض المباشر مثلا على المسلمين بالدول الغربية عامة، وبفلسطين خاصة كما يبث أمام مرأى ومسمع العالم.

وأكدت الشيخ على الانعكاسات الخطيرة لتحريف الحقائق التي تروج لها وسائل الإعلام على أرض الواقع، حيث تروج للسردية الصهيونية وللإرهاب بالمفهوم الغربي، مما يسوغ القتل والإبادة للمدنيين، وأن غزة خير شاهد على هذا التقتيل والتدمير والإبادة الجماعية. وهو خير دليل على انحراف دور هذه الوسائل الإعلامية في نقل الحقيقة. مما يفرض التساؤل عن دورنا كإعلاميين بالمجتمعات العربية والإسلامية ـ في إطار المشترك القيمي ـ أمام هذه الأزمات الأخلاقية العالمية، لتحدده في الأدوار التالية:

ـ الاستمرار في نقل الصورة والمعلومة الحقيقية كما هي دون مبالغة أو دراما، فهي خير معبر عن تلك الحقيقة.

ـ تجنب الخضوع لاستفزازات وسائل الإعلام التي تدعم السردية الصهيونية،

ـ استحضار البعد المهني والأخلاقي في عملنا الإعلامي والصحفي،

ـ مراعاة المصطلحات التي توظف في نقل المعلومة والخبر حول فلسطين مثلا، وما يتعلق بها من تاريخ وواقع ورواية ومصطلحات ينبغي الترويج لها لدحر الرواية الغربية والصهيونية المنحرفة.

أما عادل الحامدي، مسؤول قسم أفكار في صحيفة "عربي21"، فذكر أن الإعلام الآن أضحى السلطة الأولى وأنه مسؤول عن تشكيل الوعي، وتوجيه الرأي العام في أي قضية من القضايا، وأن أغلب المنابر الإعلامية والمنصات الاجتماعية: تعبر عن الرأي وعن وجهة النظر الخاصة باجهة التي أوجدتها. ونبه إلى سرعة تفاعل الوطن العربي الآن أكثر مما مضى مع كثير من قضاياه بالمظاهرات والندوات الفكرية والقضايا القانونية... بعد أن أصبح العالم قرية صغيرة بفعل ثورة الاتصالات، مما يعطى سرعة أكبر في انتشار المعلومة.

انتقل الحامدي في معرض حديثه إلى ذكر أهم الأدوار التي يلعبها الإعلام في ظل الانفتاح الإعلامي وثورة الاتصالات:

ـ الإعلام نفسه تحول إلى قضية جوهرية في صناعة الرأي وليس فقط وسيلة أو أداة للدفاع عن قضايا مجتمعنا العربي والإسلامي، ومثل لهذا بتعامل الإعلام مع الإبادة الجماعية التي يتعرض لها شعب فلسطين أمام أنظار العالم، حيث نلاحظ الزوايا المتضادة التي يتم التعامل بها مع هذه الجرائم التي يقوم بها الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني.

ـ الإعلام في وطننا العربي نستثمره حاليا لنصرة قضايا مجتمعنا دون أن نصل بعد إلى مرحلة إنتاج القنوات الإعلامية التي نتواصل بها مع العالم، بمعنى أن يكون العرب هم من يتحكمون في إيصال المعلومة إلى الرأي العام، وليس التعويل على قنوات عالمية مملوكة لجهات أجنبية تفتحها وتغلقها متى ما رأت ذلك في خدمة مصالحها.

ـ التعامل العربي والغربي على حد سواء مع منصات التواصل الاجتماعي يبين مستوى التردي القيمي والأخلاقي والإنساني الذي يعيشه العالم، وحجم التعدي على القيم الإنسانية الفطرية.

ـ بعض الجهات استثمرت وسائل التواصل الاجتماعي بغرض الترويج لمظلوميتهم، وتحدي محاولات منع وصول قضاياهم للعالم بسبب آلة القمع التي تحول بينهم وبين ذلك.

ـ النظام العربي الرسمي ظل يتعامل مع الإعلام بمختلف أنواعه على أنه ملكية خاصة للحاكم ولا يعرف أية استقلالية، ما يؤدي مباشرة إلى الانفراد بمصدر المعلومة، أي أن مصدر المعلومة جهة واحدة والقنوات التي يأتي من خلالها مملوكة لدات الكطراف، وهذا ما يفقد المعلومة مصداقيتها،

ـ  نقل بعض وسائل التواصل الاجتماعي للمعلومات من جهة واحدة: فيه تضليل للرأي العام، وعدم بث الحقيقة كما يجب. وهي ـ أي هذه الوسائل ـ بذلك تسيء لصاحبها،

ـ مكنت هذه الوسائل في عصرنا الحالي كل شخص يتملكها من صناعة محتوى وتوجيه الرأي من خلال ما يبثه من حساباته ومنصاته الاجتماعية،

ـ تفاعل الإنسان مع فطرته السليمة والصحيحة يجعله على الطريق الصحيح الذي ينعكس على مدى تشبثه بقيم عظيمة: كالمساواة والعدل والحرية والتعاطف مع الآخر ورفض الظلم... ثم يعمل على الانخراط في بثها وإشاعتها.

أما عبد الله مشنون وهو إعلامي وكاتب صحفي بالمؤسسة الأوروبية الإعلامية بإيطاليا، فتناول الحديث عن دور الإعلام في تعزيز قيم الحوار المجتمعي حول القضايا الأخلاقية التي تبرز خلال الأزمات، فعرج على ذكر ما يشهده العالم الآن من انتشار واسع للإعلام، ومدى قدرته القوية على تقريب وجهات النظر وتحقيق التقارب بين الشعوب، مع التنبيه إلى ما قد تؤول إليه هذه الوسائل من جعلها أداة سلبية لنشر الشائعات، أو الأكاذيب، أو التلاعب بمصير الناس حيث التأثير الرقمي السريع على الإنسان في ربوع العالم.

وتساءل عن مدى ثبات الإعلام على نشر الحقيقة دائما؟ وبين استحالة ذلك بسبب أن الاعلام الآن أضحى وسيلة لتحقيق الربح السريع دون الأخذ بعين الاعتبار لمصدر المعلومة أو الأجندة التي يخدمها في شتى المجالات.

وتساءل: ما هو الدور الحقيقي للإعلام اليوم؟ وكيف يمكنه أن يظل أداة للبناء بدل الهدم والتخريب والتزوير للحقائق؟

وسرد مشنون مجموعة من الأدوار التي يمكن أن يقوم بها الإعلام في الأزمات العالمية ومنها:

ـ نشر الحقيقة ومحاربة التضليل الإعلامي؛ الاعلام هو المصدر الأساسي للمعلومات بالنسبة للجمهور،

ـ  أن يكون الإعلام حارسا أمينا للحقائق كون هذه الأخيرة مسؤولية كبرى عند بث الأخبار،

ـ تعزيز القيم الإنسانية المشتركة، إذ الإعلام وسيلة لنشر قيم التسامح والتعاون والمساواة عندما يستخدم الإعلام قوته لإظهار الجوانب الإنسانية. بالتالي خلق مجتمع منسجم مدني مستوعب للتنوع،

ولكون المبادئ والمعايير الأخلاقية أساس الرسالة الإعلامية لبناء الثقة مع الجمهور المتلقي للخبر والمعلومة، وتعزيز الوعي المجتمعي وتحفيز النقاش حول القضايا التي تؤثر على المجتمع: قدم الضيوف في مداخلة ثانية مجموعة من الخطوات العملية لتكريس الفاعلية الأخلاقية للإعلام فجاءت كما يلي:

1 ـ ذكرت الإعلامية إسراء الشيخ أن تعزيز الفاعلية الأخلاقية للإعلام تبدأ من نقله للصورة كما هي بلا مواربة أو مبالغة، مع التأكيد على ضرورة الالتزام بالمصطلحات الإعلامية والسياسية كما هي والتي تخدم مختلف قضايانا العربية والإسلامية. كما اعتبرت السعي والبحث عن المعلومة بحد ذاته من الفاعلية الأخلاقية، ونبهت إلى خطورة الفجور في نشر الخصومة خصوصا في ظل الاختلاف الفكري أو الأيديولوجي لمكونات المجتمع، وأن تكون المنابر الإعلامية أبواقا لذلك. بل لابد من احترام مشاعر الآخر وكل آرائهم، والتحقق من كل خبر ومعلومة قبل بثها.

2 ـ أما عادل الحامدي فنبه إلى دور الإعلام الجديد والمؤثرين في صناعة المحتوى بعد أن كانت الوكالات الإعلامية الرسمية تنفرد ببث روايتها من جهة واحدة، كما هو شأن باقي المكونات التي تعتمد أدواتها الإعلامية الخاصة بها أيضا في بث مواقفها وآرائها.

وبين الحامدي أهمية المصداقية في التعامل مع الخبر وأثناء تحليله أو معالجة ملفات أخرى ذات أهمية من زوايا مختلفة، وختم بقوله إن الإعلام الجديد بجميع وسائله يمكنه أن يكون إحدى آليات التقارب والتفاعل والأمان والسلام بين المجتمعات. لكنه للأسف أزال كل الحجب التي كانت حائلا أمام الحديث عن الخصوصيات، وتجاوز كل الخطوط الحمراء التي لم يشملها الحديث سابقا. وحض الإعلاميين على التعالي عن الدخول في الخصوصيات الشخصية والانحياز للحقيقة.

3 ـ أما عبد الله مشنون فقد دعا إلى إطلاق مبادرات تدريبية، وتنظيم ورشات عمل ودورات  للصحفيين والإعلاميين حول الأخلاقيات المهنية وأدوات التحقق من الأخبار، وتعزيز التعاون الدولي بإنشاء شبكات إعلامية تعزز التبادل الثقافي وتعمل على تقديم محتوى يعكس التنوع الثقافي وقبول الآخر، وتحفيز كل ذي محتوى قيمي عبر المؤسسات الإعلامية، وتوظيف التكنولوجيا الحديثة وخاصة الذكاء الصناعي بحكمة كأدوات تخدم الإعلاميين والصحفيين على التحقق من الأخبار.

ويعرّف المركز الدولي للقيم الإنسانية والتعاون الحضاري نفسه بأنه مؤسسة تهدف إلى تعزيز القيم الإنسانية المشتركة وتشجيع التعاون بين الثقافات والحضارات المختلفة. ويسعى هذا المركز إلى بناء جسور التفاهم والاحترام بين الشعوب، وتعزيز السلام العالمي من خلال التركيز على المبادئ والقيم التي توحد الإنسانية.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير تقارير الأخلاقية الاعلام علاقات اعلام ندوة أخلاق تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القیم الإنسانیة وسائل الإعلام الدولی للقیم هذه الوسائل الإعلام فی من خلال

إقرأ أيضاً:

غزة.. انتصار الكرامة وتوحد الإنسانية

 

 

 

صالح بن سعيد الحمداني

 

ها هي غزة تلك البقعة الصغيرة على خارطة العالم تعود من تحت الركام شامخة كعهدها تحمل في ملامحها حكاية أمةٍ تنبض من جديد في عروقها الكرامة والإيمان ولم تمت، توقفت أصوات القنابل وخفت دويّ الصواريخ، لكنّ صوت النصر ارتفع من بين أنقاض البيوت ومن صدور الأمهات والآباء والأطفال، يُعلن أن غزة العزة لم تنكسر، وأنَّ المقاومة سطّرت صفحة جديدة من تاريخ الصمود العربي والإسلامي والإنساني.

لقد عمّت الفرحة المدن العربية والإسلامية وتسابقت القلوب قبل الكلمات في التعبير عن الفخر والاعتزاز بما أنجزه أبطال المقاومة في وجه آلة الدمار التي أرادت أن تطفئ نور الحياة في غزة لكنها لم تدرك أنَّ هذا الشعب الذي عاش على وقع الحصار والحرمان لسنوات طويلة لا يعرف الانحناء ولن يعرفه لأنهم أحفاد أبطال سطروا التاريخ بدمائهم وكرامتهم وبطولاتهم التي تغذي جيلًا بعد جيل معنى كل هذه المعاني السامية.

لم يكن انتصار غزة فرحة تخص الفلسطينيين وحدهم ولكنه عيد تتقاسمه الأمة بأسرها فرحة عمَّت القلوب في شوارع كل مدينة عربية وإسلامية بل والعالم أجمع، حيث الأحرار الذين سطروا للإنسانية صورًا مشرقة بمظاهراتهم ووقفاتهم، عمت الفرحة كل مدينة وخرجت الأصوات بالدعاء والتهليل رافعة راية المقاومة مشيدة ببطولة أولئك الذين واجهوا الموت بصدورهم العارية وإيمانهم الراسخ، في الأزقة الشعبية كما في الجامعات والمقاهي كانت غزة حديث الناس ومصدر إلهامٍ للأجيال الجديدة التي رأت في المقاومة درسًا في الكرامة والسيادة والإصرار. أما في العواصم الإسلامية فقد امتزجت الدموع بالفرح؛ إذ شعر المسلمون بأن جرح فلسطين هو جرحهم، وأن نصرها نصر لهم، وأن كل طلقة صمود أطلقت في وجه العدوان كانت دفاعًا عن عقيدة وعن أمةٍ بأكملها.

حتى أولئك الذين قد يكونون بعيدين عن الجغرافيا، لم يكونوا بعيدين عن الوجدان، فكُل إنسان حُر في هذا العالم أحسّ أن غزة لا تدافع عن نفسها فقط، وإنما عن قيمة الإنسان عن حقه في الحياة والكرامة وعن معاني العدالة التي حاولت القوى الظالمة طمسها لعقود طويلة، لقد أثبتت المقاومة الفلسطينية- بكل فصائلها وتنوعها- أن الإرادة أقوى من السلاح وأن العدل أقوى من الطغيان وصمدت في وجه أعتى الجيوش وأحدث التقنيات العسكرية لكنها كانت تمتلك ما لا يمكن قياسه بالمقاييس المادية الإيمان، إيمانٌ بعدالة القضية وبأنَّ النصر وعدٌ من الله لا يتحقق إلا بالصبر والثبات.

سقط الشهداء نعم، لكنهم ارتقوا وهم يرسمون ملامح مستقبلٍ جديدٍ للأمة، قادةٌ تركوا خلفهم وصاياهم بأن لا تُرفع راية الاستسلام ونساءٌ قدمن أبناءهن فداءً للوطن وشيخٌ يبتسم وسط الركام لأنه يعلم أنَّ الدم الطاهر لا يذهب سدى. أما الأطفال الذين حملوا حجارتهم الصغيرة في وجه الدبابات فقد علموا العالم كله أن الطفولة في غزة تولد وهي تعرف معنى البطولة، لقد تعلمنا من أولئك الأطفال الأبطال معنى الشجاعة وقول كلمة الحق وعدم الخنوع والجبن والعار.

إنَّ هذا النصر لم يكن عسكريًا فحسب، لقد كان نصرًا للروح والإيمان والإنسانية؛ إذ أعاد التوازن إلى الضمير العالمي وأجبر كثيرًا من الإعلام المُضلِّل على أن يُراجع روايته بعدما رأى الملايين حول العالم الحقيقة كما هي شعبٌ أعزل يقاتل من أجل حريته في مواجهة احتلالٍ لا يعرف سوى لغة القوة والعقاب الجماعي، وعندما توقفت الحرب تنفست الأمهات في غزة الصعداء، لكن الدموع لم تتوقف فقد كانت دموعًا من نوعٍ آخر دموع الفرح المشوب بالحزن والاعتزاز الممتزج بالحنين إلى الشهداء.

في كل بيتٍ غزّي، حكاية فخر وفي كل شارعٍ لوحة من بطولاتٍ لا تُحصى، وتحت وأسفل كل ركام جثث ما زالت تنتظر الدفن والإكرام، كل شبر في غزة يتحدث عن بطولات وظلم وعربدة وبطش، ولكن كان هناك رب يحفظ عباده، وعباد تمسكوا بوعد ربهم؛ فنالوا الكرامة؛ فالشهيد عند ربه مُكرَّم، والبطل يعيش ملامح النصر، ولا عزاء لكل صهيوني ملعون.

أما في العالم العربي والإسلامي، فقد كان وقف الحرب بمثابة لحظة صحوة، شعر الكثيرون أن الأمة لا تزال حيّة، رغم محاولات التشويه وإشاعة اليأس، وأن فلسطين لا تزال البوصلة التي يمكن أن توحد الصفوف، مهما تفرقت السياسات واختلفت الأجندات. لقد جاءت فرحة النصر في غزة لتوقظ الضمائر، ولتذكِّرنا أنَّ العروبة ليست شعارًا، لكنها موقف، وأن الإسلام ليس طقوسًا فحسب، وإنما قيم عدل ورحمة ونصرة للمظلوم. ولذا رأينا كيف تفاعل الناس من كل الأديان والألوان من أوروبا إلى أمريكا اللاتينية مع مأساة غزة، وكيف تحوّلت المعاناة إلى منصةٍ عالمية للحق والحرية، فكان انتصار الإنسانية قبل السياسة.

ما حدث في غزة لم يكن مجرد نصر عسكري أو سياسي، وإنما نصر أخلاقي وإنساني بكل المقاييس. لقد فضحت الحرب القيم الزائفة التي ترفعها بعض الدول تحت شعارات "حقوق الإنسان"، بينما كانت تتواطأ بالصمت أو الدعم للعدوان. وفي المقابل أضاءت غزة وجه الإنسانية الحقيقي، حين توحدت الشعوب الحرة من المسلمين والمسيحيين واليهود الأحرار والملحدين في رفض الظلم والمطالبة بوقف القتل، فكُل لافتة رُفعت في لندن أو نيويورك أو جوهانسبرج، كانت تقول بصوت واحد "غزة ليست وحدها".

لقد انتصرت الإنسانية حين رأى العالم أن هناك من لا يبيع مواقفه، وأن الضمير الإنساني لا يزال قادرًا على الحياة، رغم كل محاولات التزييف. غزة اليوم تتحول من وجع الحصار إلى فجر الكرامة، وستبقى غزة رمزًا للكرامة العربية وصوتًا لا يخبو في ذاكرة الأمة؟ لقد علَّمت غزة الجميع أن النصر لا يأتي من قصور السياسة، ولا من موائد المفاوضات؛ بل من الميدان ومن صبر الأمهات ومن سواعد المقاتلين ومن دماء الشهداء التي تكتب التاريخ بمدادٍ من العزة. وها هو العالم اليوم يرى أن الواقع قد تغيّر. لقد أثبتت المقاومة أنها رقمٌ صعب لا يمكن تجاوزه وأن إرادة الشعوب أقوى من أي تطبيعٍ أو تواطؤٍ أو خذلان، وأن نصر غزة هو نصر لكل حُر ولكل قلبٍ ما زال يؤمن أن الحق لا يموت مهما طال ليله.

 

وبعد عامين من المذابح والتهجير والجوع والعطش والحرمان والحصار، نعيش فرحة وقف الحرب وانتصار المقاومة لا نحتفل بنهاية معركة فقط، وإنما ببداية وعيٍ جديد.. وعيٌ بأن الأمل لا يموت، وأن الشعوب الحرة قادرة على صنع التاريخ، متى ما آمنت بعدالة قضاياها وتمسكت بوحدتها. غزة لم تنتصر وحدها، فقد انتصرت الأمة فيها، وانتصر الإنسان في كل مكان، وستظل كلماتها خالدة في وجداننا "هنا صمدنا وهنا قاومنا وهنا انتصرنا لأننا آمنا بالله أولًا وبأن الحرية لا تُمنح؛ بل تُنتزع بدماء الأحرار".

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • مفوض الأونروا يدعو إلى تكثيف إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة
  • اليمن: «الحوثي» لا يمكن أن تخضع للسلام أو التعايش
  • صحافة المواطن: صالح الجعفراوي أنموذجًا
  • الرئيس السيسي يدعو ترامب لدعم ورعاية المؤتمر الدولي لإعادة إعمار غزة
  • لافروف: روسيا تزود إيران بالمعدات التي تحتاجها وتعاوننا العسكري معها ضمن القانون الدولي
  • أفلام المركز القومي للسينما تشارك في مهرجان بيونج يانج الدولي 2025
  • «قيم التسامح والتعايش السلمي» ضمن مناقشات «دوري المكتبات» في الغربية
  • غزة.. انتصار الكرامة وتوحد الإنسانية
  • وزير الدولة للتعاون الدولي تجتمع مع المشرف العام على مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية
  • سيف خليل يحرز المركز الثالث ببطولة العالم فى سباق رمى الرمح