ايهاب شوقي

لا شك أن ما حدث في سورية وتطوراته المستمرة سيظل لفترة طويلة محل اهتمام كل وسائل الإعلام العالمية والإقليمية، كما سيتوقف مستقبل المنطقة والصراع الدولي على مآل هذه التطورات، خاصة وأن سورية تمثل عقدة للصراعين الإقليمي والدولي، وأن طريقة سقوط النظام تمثل نموذجاً يمكن تصديره وتكراره لدول أخرى بالمنطقة، وخاصة الدول المجاورة للكيان الصهيوني مثل الأردن ومصر، وكذلك ممالك الخليج التي تتربص بها تنظيمات تنتمي لذات مدرسة جبهة النصرة والفصائل التي أسقطت النظام في سورية، وبعد ما بدا وتكشف من أن أمريكا والكيان وتركيا أعدت صيغة لتسويقها بإدخال تحديثات على خطابها لنيل الشرعية الدولية.

ولا شك أن إعلان نتنياهو نواياه وإرفاقها بخرائط لشرق أوسط جديد وتزامن ما حدث في سورية وتوظيف الكيان له، وملامح تحركاته في سورية عبر اقتناص مزيد من الأراضي والتواصل مع قطاعات من الأكراد والدروز، يقود إلى قناعة بأن “إسرائيل” تنوي مواصلة تحركاتها باتجاه هذا المشروع الذي لايتوقف عند حدود سورية، بل يتسع ليشمل الحلم التاريخي الصهيوني من النيل إلى الفرات، وهو مشروع صهيوني قائم وتبلورت عدة إستراتيجيات له، وكان أهم خططه الإستراتيجية خطة ينون التي نشرت في مقال في فبراير 1982 في المجلة العبرية كيفونيم (الاتجاهات) بعنوان “إستراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات”، والتي كتبها عوديد ينون، المشهور كمستشار سابق لأرييل شارون، والمسؤول الكبير السابق في وزارة الخارجية الإسرائيلية، وتم الاستشهاد بالخطة كمثال مبكر لوصف المشاريع السياسية في الشرق الأوسط بمنطق الانقسامات الطائفية.

ولا شك أن تطبيق خطة الجنرالات في شمال غزة، وهي خطة للجنرال غيورا آيلاند، تشي بتهديد كبير لمصر، لأن هذا الجنرال هو صاحب خطة تهجير سكان غزة إلى مصر، والتي اقترحها وكان يعد لتنفيذها في العام 2005.

كما أن إشارة سموتريتش بأن العام 2025 هو عام ضم الضفة، لا بد أن يقرع جرس إنذار كبير وعاجل في الأردن، لأن خطط ضمها تتضمن تهجير أهلها إلى الأردن.

كما أن قوام مشروع الشرق الأوسط الجديد يقوم على أن تكون اليد الطولى للكيان، وهو ما لا يسمح بوجود نفوذ لممالك الخليج ويجب إعادتها لعصور مظلمة بحيث لا تشكل ندًّا للكيان.

وقبل الخوض في شواهد واحتمالات تكرار نفس السيناريو في دول أخرى، ينبغي إلقاء الضوء على بعض الملاحظات التي تحمل دلالات لافتة على طبيعة النظام الدولي والشرعية الانتقائية والازدواجية الفاضحة وحجم التنسيق والتواطؤ مع الكيان، وكذلك استغلال وتوظيف الكيان للأحداث بشكل سريع وخاطف، ثم الإشارة إلى علاقة خطة ينون ومخططات التقسيم بالدول الأخرى التي يمكن تكرار النموذج فيها، وذلك على النحو الآتي:

1- هناك استخفاف كبير بالمجتمع الدولي والشعوب عند الاعتراف بشرعية تنظيمات مارست الإرهاب وبشخص مصنف كإرهابي دولي مثل “أبي محمد الجولاني”، وهذا الاستخفاف يجعل من هذه البساطة التي تنال بها هذه التنظيمات الشرعية الدولية والرضا الإقليمي والدولي مؤشراً مرعباً للدول والجيوش التي اطمأنت لفترة طويلة على عرشها وشرعيتها الدولية باعتبارها تكافح الإرهاب، لأنه ببساطة يمكن اعتبار هذا الإرهاب ثورة وأنها دول تقمع الثورات وتنتقل في لحظة من خانة مكافحة الإرهاب لخانة الأنظمة المارقة عن الشرعية الدولية!

2- بينت الأحداث أن هناك خلايا نائمة لكثير من الفصائل والتنظيمات التي يتصور الكثيرون أنها ملفوظة شعبياً ولا تحظى ببيئة حاضنة، كما تؤثر الأزمات الاقتصادية وصعوبة معيشة المواطنين على طبيعة التفافها حول الأنظمة، مما يجعل المقاومة الشعبية لهذه التنظيمات مقاومة ضعيفة وبالتالي قد تجد أنطمة مثل الأردن ومصر مخاطر كبيرة وتجد جيوشها معزولة في مواجهة هجمات من هذا النوع دون رديف شعبي، خاصة أن هناك تجارب سابقة وخلايا نائمة، ولا يمكن استثناء ممالك الخليج رغم ثرائها من هذه السيناريوهات لأن التقارير الاقتصادية الدولية تفيد بمؤشرات لافتة حول انخفاض مستوى معيشة المواطنين وارتفاع نسب البطالة، ويضاف إليها وجود قطاعات شعبية تتقارب إيديولوجيا مع هذه التنظيمات وتتربص بعروش الخليج، وتحمل ثارات كبيرة خاصة مع دولة الإمارات التي تتبعت هذه التنظيمات وساعدت على قمعها في عديد من الدول.

3- الأطماع التركية لا تقتصر على أطماع التوغل البري في سورية والعراق واستعادة نفوذ المجلس الملي وأمجاد الإمبراطورية العثمانية، بل تمتد جيو إستراتيجيًا لشرق المتوسط ومشروعات الغاز، وثقافياً لقيادة العالم الإسلامي عبر رعاية تنظيمات إخوانية وفصائل وحركات وأحزاب توالي تركيا، لها وجودها في الأردن ومصر ودول الخليج، وهو تمدد ثقافي تسعى تركيا عبره لخلق نفوذ ممتد في الإقليم يحمي مصالحها التوسعية المتسقة مع الأحلام الإمبراطورية التي لا تفارق الطغمة الحاكمة في تركيا، وهو ما يشكل خطراً على هذه الأنظمة، والتي يُؤخذ عليها أن معظم الخطابات الشعبية هاجمت الأنظمة الرسمية بسبب تخليها عن غزة، فيما لم توجه انتقادات لتركيا وأردوغان رغم عدم تقديم تركيا أي مساندة إلا بعض الشعارات والخطابات الديماغوجية الخالية من أي فعل على الأرض.

4- رعاية غرف العمليات الأمريكية والصهيونية لما حدث في سورية، وهو ما رصده السيد الخامنئي بالتعاون مع الدولة الجارة التركية، وهو ما يقود لوجود مصالح مشتركة، وهذه المصالح لا تقتصر على سورية، لأنها تقتسم النفوذ والكعكة، وهو ما يغري الأطراف الثلاثة لتوسيع هذا التنسيق والسعي لمزيد من المكتسبات الإقليمية في لحظة تاريخية مفصلية تشكل فرصة لهذه الأطراف مع الضعف الملحوظ للنظام الرسمي العربي واستسلامه للنتائج دون تدخل فاعل في مواجهة الهجمة المزدوجة على القضية الفلسطينية وعلى منطق الدولة القومية التي قوامها المؤسسات والجيوش الوطنية.

5- الاستغلال الصهيوني بمزيد من التوغل وكسب الأراضي وانتهاك الاتفاقيات الدولية، لا بد وأن يشكل مؤشر خطر من الدرجة الأولى للدول التي ركنت إلى هذه الاتفاقيات مثل الأردن ومصر، وخاصة مع التلويح المستمر بضم الضفة الغربية وتهجير سكان غزة والتموضع الدائم للجيش الصهيوني في محور نتساريم وممر فيلادلفيا والسيطرة على المعابر، واستعداد إدارة يمثلها ترامب الذي لا يعبأ بالاتفاقيات الدولية لاستلام الحكم، وهو ما يشكل خطراً لتوغل صهيوني داخل خطوط فض الاشتباك برعاية أمريكية وترويج دعائي تركي لفصائل مماثلة لجبهة النصرة.

كما لا تشكل الاتفاقات “الإبراهيمية” حماية للأطراف التي وقعتها، لأن وجود نظام حكم تابع بشكل مباشر لأميركا والكيان ويدين بالشرعية والولاء لهما أفضل أمريكياً من جهد الابتزاز لأنظمة الخليج وأقصر طريقاً في جني الثمار.

6- وبالعودة إلى مخطط الشرق الأوسط الكبير وخطة ينون، نرى أن فيها تفصيلات تشير نصاً إلى دول أخرى، والخطورة هنا تتمثل في أن مقال ينون قد تم تبنيه من قبل أعضاء معهد الإستراتيجيات الصهيونية في الإدارة الأمريكية، حتى تم تناوله بشكل مفترض كوسيلة لتعزيز المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، وكذلك تحقيق الحلم اليهودي بدولة “من جدول مصر إلى نهر الفرات”، وتشمل غالبية الشرق الأوسط، كما هو مكتوب في الكتاب المقدس العبري، حيث كانت مجلة «كيفونيم» مُكرّسة لدراسة اليهودية والصهيونية، وقد ظهرت بين عامي 1978 و 1987، ونشرها قسم الإعلام في المنظمة الصهيونية العالمية في القدس.

وتتناول الخطة تفاصيل، نرى ظلالها في سياسات نتنياهو حالياً، ومما ورد فيها حول الأردن والعراق ومصر ولبنان، يمكن الاستشهاد بما يلي بشكل موجز:

أولاً: الأردن، اقترحت ورقة ينون أن السياسة الإسرائيلية، في كل من الحرب والسلام، يجب أن تهدف إلى هدف واحد هو “تصفية الأردن” كما تحكمها المملكة الهاشمية، إلى جانب زيادة الهجرة الفلسطينية من الضفة الغربية إلى شرق الأردن لوضع حد لمشكلة وجود تجمعات كثيفة للفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية التي احتلتها “إسرائيل” في حرب الأيام الستة عام 1967، مما يتيح لهم الانتقال إلى أراضي تلك المملكة السابقة.

ثانياً: لبنان، حيث دعت الخطة إلى خطة قديمة ضد وحدة أراضيها تعود إلى عام 1943، والتي بموجبها كان من المقرر أن يتم تجميع البلاد على أسس عرقية قومية، وتم تنفيذ جزء منها خلال السبعينيات، وخاصة بعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، وارتبطت بشخصية هنري كيسنجر، حيث تردد وقتها أنه يخطط لتقسيم لبنان إلى دولتين.

ثالثاً: العراق، حيث اعتبر ينون العراق بثروته النفطية التهديد الأكبر لإسرائيل، وكان يعتقد أن الحرب الإيرانية العراقية ستقسم العراق الذي يجب أن يكون حله هدفًا إسرائيليًا إستراتيجيًا، وتوقع ظهور ثلاثة مراكز عرقية: الشيعة الذين يحكمون من البصرة، والسنة في بغداد، والأكراد وعاصمتهم في الموصل، حيث كل منطقة تسير على غرار التقسيمات الإدارية للدولة العثمانية السابقة.

رابعاً: مصر، حيث اعتقد ينون أن اتفاقيات كامب ديفيد 1978، التي وقعها مناحم بيجن وأنور السادات، كانت خطأ، وكان أحد أهداف “إسرائيل” في الثمانينيات، تقطيع أوصال مصر، الدولة التي وصفها بأنها “جثة”، وتهدف الخطة لتشكيل دولة قبطية مسيحية على الحدود الشمالية لمصر، وإعادة الغزو الإسرائيلي السريع لسيناء.

ربما بدأت الأنظمة تستشعر خطورة هذه التطورات بسرعة عقدها لاجتماع العقبة ولكنه اجتماع يخلو من الفاعلية بسبب عدم امتلاك أدوات ضغط فاعلة وسبب ابتعاد هذه الأنظمة وتخليها عن المقاومة وهو ما عراها أمام أميركا والصهاينة وأدخلها تحت قاعدة “أكلت يوم أكل الثور الأبيض”، ولكن على الأنظمة أن تفطن إلى أن كلفة المقاومة رغم كل التضحيات أقل من كلفة التماهي والاستسلام، بدليل أن الحركات والقوى التي تقاوم مثل حزب الله تحافظ على الردع مع الكيان وتخرج دوماً بأقل الخسائر في ما يمس السيادة، رغم التضحيات والشهداء والخسائر المادية، وهو ما يفرض استفاقة وصياغة سياسات وإستراتيجيات جديدة للأنظمة تتسق مع هذه الهجمة التاريخية الاستعمارية الكبرى.

 

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: هذه التنظیمات الشرق الأوسط الأردن ومصر فی سوریة وهو ما

إقرأ أيضاً:

هل الإسلاميون شركات انتخابية؟

لا نصدر في الكتابة عن الإسلاميين من "متلازمة الإخوان"، لذلك فهذه القراءة ليست مشاركة في السحل الأزلي الذي يتعرضون له، إنما هي سؤال عن جدوى السير في نفس الطريق دون تغيير الخطة التي لم تقدم نتيجة. وقد حدث في سوريا حدث عظيم يفرض إعادة النظر في المنهج والوسيلة. الإسلاميون الذين نعني هم الإخوان المسلمون وتفريعاتهم القُطرية التي تميزت ببعض الاجتهادات السياسية لكن دون الخروج عن اجتهادات الحركة الأم في مصر.

يظهر لنا الإسلاميون المعنيون بالقراءة إذا تأملت تاريخهم شركات انتخابية بلا مشروع تغيير. إن قدراتهم التنظيمية باهرة وهم يفلحون أمام الصناديق الانتخابية، وقد تأكد ذلك بعد ثورة الربيع العربي. لكن أثرهم يتلاشي بعد الصندوق فيصيرون جمهورا يقتفي ولا يسبق، ويبررون ذلك بالتوافق وبالسلمية. هل يعود العجز إلى الأشخاص القادة أم إلى الفكرة المؤسسة؟ هذه من معضلات اللحظة العربية المضطربة التي طالت فلم يَصِر فيها الصندوق الانتخابي حَكَما مستقرا فلم تبلغ مبلغ الديمقراطية.

هل على الإسلاميين والحال هذه أن يتوقفوا عن المشاركة في العمل السياسي وينسحبوا من المشهد في بلدانهم، خاصة وأن كل مشاركة كشفتهم وعرضتهم للتنكيل؟ أم عليهم أن يبدأوا من منطقة أخرى مثل تسويق أنفسهم للغرب باعتبارهم غير معادين وليس لديهم خطط قطيعة مضمرة مع اقتصاد الغرب ومع ثقافته؟
الإسلاميون قبل الصندوق

في تجارب الانتخابات العربية في المغرب والمشرق، وهي تجارب قليلة إذا وزعناها على طول عمر الدول التي نشأت بعد الاستقلال عن الاحتلالات المباشرة والمسماة دولا وطنية، شارك الإسلاميون بشكل مباشر أو من وراء حجاب، وكانت مشاركاتهم دوما مضبوطة برخص تمنحها الأنظمة على وجه الفضل والمن، فيدعمون وجوها سياسية مستقلة أو أحزابا صغيرة مرخصا لها ضمن تقاليد المعارضة المضبوطة. غالبا تكون رخص المشاركة لإخراج الإسلاميين من مكامنهم وقياس وزنهم ثم معاودة تحجيمهم.

في انتخابات المنظمات المهنية كالمحاماة والهندسة والأطباء يشارك إسلاميون غالبا بوجوههم المهنية دون تضييق كبير من الأنظمة، ولم يكن ذلك قبولا لهم ولكن لاستهانة الأنظمة بمؤسسات المجتمع المدني وتهميش أداورها. هل فعل الإسلاميون شيئا بالنقابات التي فازوا بها وأداروها لدورات كثيرة؟ إنه سؤال في عمق المراجعات المطلوبة بلا عُجْبٍ ولا مكابرة.

نذكر بأنه بخلاف الاتحاد العام التونسي للشغل النقابة الأشهر عربيا والتي لم يمكن لإسلاميي تونس دخولها، فإن المنظمات لا تلعب دورا سياسيا مباشرا، وبالتالي فإن الأنظمة لا تخشى هذه النقابات أو تغض الطرف عن نشاطاتها غير المزعجة سياسيا بما في ذلك المحاماة والصحافة التي تراوح بين المولاة والمعارضة المهذبة. وكلما تبين للأنظمة أن النقابات تتسيس منعت بيدها أو بواسطة أنصارها المباشرين الإسلاميين من الفوز بها. وقد استعانت الأنظمة دوما بتحالفات مع كتل يسارية صغيرة فعالة على قاعدة إقصاء الإسلاميين أولا.

يلفت انتباهنا هنا دوما قدرة الإسلاميين على تنظيم أنفسهم فيتقدمون في كل هذه المواعيد منظمين جدا، يحسنون التحشيد والدعاية ويجدون جمهورا ثابتا يتفوقون به على كل منافسة، إنهم مبدعون في ما قبل الصندوق الانتخابي، ولكن لم نسجل أن النقابات التي فازوا بها قد أحدثت اختراقات مهنية لافتة أو لعبت أدوارا سياسية مؤثرة في مسار بناء الديمقراطية من القاعدة، بل كانت مهامها تقف عند الأدوار القانونية المحددة للنقابات.

في الانتخابات البرلمانية وجد الإسلاميون أنفسهم دوما في وضع الممنوع من المشاركة إلا من وراء ستار، فيدعمون شخصيات مستقل. وقد حدث هذا كثيرا في تونس في 1981 وفي 1989، وفي الأردن وفي أفضل حالات السماح بالمشاركة كانت توضع لهم سقوف مسبقة لا يتجاوزونها، وكانوا يقبلون دور المعارض المهذب في البرلمانات خاصة في مصر والأردن والمغرب والكويت. والسمت الغالب على كل مشاركتهم هي "اقبلونا معكم فنحن قوم طيبون ولا نؤذي النظام".

ما بعد الصندوق الانتخابي

لم تزد مشاركات الإسلاميين في كل الانتخابات العربية إلا يقينا بقوتهم في الشارع وحضور جمهورهم ذهنيا وعقائديا وبالتالي تنظيميا، ولكن هذه القوة ظلت دوما مرتبكة وتفضل المناورة من بعيد دون الدخول في مواجهات سياسية مع الأنظمة.

ونحن هنا أمام معضلة تتعلق بالخيارات، فمن ناحية نجد الأنظمة تسقط نتائج مشاركاتهم السياسية بالقوة مثل انتخابات تونس البرلمانية في 81 و89 وفي الجزائر التسعينات، وحتى في المغرب والكويت؛ حيث تم حل البرلمان في أكثر من دورة كان الإسلاميون يشكلون فيها قوة معارضة. يجد الإسلاميون أنفسهم دوما بين مطرقة وسندان، فإذا صعّدوا ضد الأنظمة قُمعوا وإذا ناوروا متراجعين أو مكتفين بالمشاركة المهذبة لم يؤثروا في بلدانهم ولم يخدموا من صوّت لهم؛ منهم ومن خارجهم. وهذا الأمر يجعل الحديث عن تردد الإسلاميين نوعا من المزايدة الكسولة، لكن من حقنا السؤال: ماذا يقترح الإسلاميون على ناخبيهم؟

يطيب للإسلاميين هنا ترديد اللازمة بأن هناك خطا أحمر غربيا على مشاركتهم في إدارة بلدا،نهم وأن من يمنعهم من الحكم فعلا هي قوى خارجية وليست فقط أنظمة وكيلة للخارج تتحرك بأمر منه، وبالتالي فهم ضحية الغرب وليس ضحية للأنظمة وحلفائها من الداخل فحسب. والاستراحة في موقع الضحية لا ينتج بدائل.

هل على الإسلاميين والحال هذه أن يتوقفوا عن المشاركة في العمل السياسي وينسحبوا من المشهد في بلدانهم، خاصة وأن كل مشاركة كشفتهم وعرضتهم للتنكيل؟ أم عليهم أن يبدأوا من منطقة أخرى مثل تسويق أنفسهم للغرب باعتبارهم غير معادين وليس لديهم خطط قطيعة مضمرة مع اقتصاد الغرب ومع ثقافته؟ هل سيصير الشرع وهيئته في سوريا طريقا ثالثة؟

حرب الطوفان والثورة السورية وتغيير الخطة

خيار السلمية لم يؤت نتيجة ولا نراه يؤتيها ولو بعد ألف انتخابات، وقياس الأنظمة العربية على الكيان الصهيوني وإعلان الكفاح المسلح على طريقة غزة غير مقبول شعبيا، وقد سبق الاجتهاد في الأمر بفتاوى واضحة وثابتة عن تحريم قتل المسلم فهذه طريق مقطوعة سلفا، والخروج على طريقة الثورة السورية أيضا يبدو مستحيلا فتهم الإرهاب موضوعة في الأدراج رغم أنه لا فارق بين النظام السوري وبقية الأنظمة إلا في درجة القمع. فما الحل إذن؟

هناك ملاحظة مهمة ترسخت كحقيقة بعد الربيع العربي الذي فتح باب مشاركة ديمقراطية لأول مرة، وهي أن تجربة الإسلاميين في مصر وتونس قد كشفت أن ليس لهم بديل مختلف عن سياسات الأنظمة الساقطة. لقد أعادوا إنتاج السياسات التي ثار عليها الناس، وقصر مدة التجربة لا يبدو حجة كافية للتبرير، خاصة على ضوء ما يفعله المنتصرون في سوريا. وإذا كان فصيل سياسي يعارض ليعيد إنتاج النظام بعد ثورة فالسؤال يتجه للمعارض وليس لغيره: من أجل أي بديل عارضت النظام؟

هذه الحقيقة تدعو الإسلاميين إلى مراجعة جذرية حول سبب وجودهم وجدوى مشروعهم الذي يدَّعون. لم يعد الأمر متعلقا بإنجاز تحرر من احتلال أجنبي كما قبل 1952 ولا غزة الطوفان، وإنما صار متعلقا بإدارة الدول المستقرة وتنفيذ بدائل أفضل. فماذا يقترح الإسلاميون على شعوب مسلمة؟

مهما كانت البدائل فإن الإسلاميين يواجهون هنا تاريخهم الخاص كإسلاميين، أي أن إدارة دولة بخلفية إسلامية صار حديثا غير ذي معنى. إن ورطتهم في تاريخهم الذي يعجزون عن الخروج منه ليكونوا شيئا مختلفا، لقد سيّجوا أنفسهم في فكرة لم يمكن لهم تجاوز أسوارها، وكان من المنتظر أن يؤدي انكشاف العجز عن التغيير في تجربة الربيع العربي إلى مراجعة عميقة. إنهم يضعون أمامهم الآن قائمة طويلة من شهدائهم الذين سقطوا على هذه الطريق وهذا يربك كل مراجعة. والحل هنا يمكن أن يكون في طريقين:

هنا تؤسس المراجعات الجذرية التي تعني إعادة تأسيس العمل السياسي. ليضرب كل إسلامي بكفيه على جبينه؛ ما معنى دولة إسلامية؟ لينظر هذا الإسلامي الغارق في مشروع مبني على نموذج تاريخي متخيل
الأولى، أن ينصرف الإسلاميون إلى مشروع دعوي سلمي يحدثون فيه الناس عن دينهم وعباداتهم في شكل أقرب إلى حركة التبليغ والدعوة التي يرفضونها لأنها حركة غير سياسية، وهذا خروج من الدولة/ السياسة إلى اندماج في المجتمع. إن تقديم الإحسان إلى الناس باسم الدعوي ثم انتظارهم في الصندوق الانتخابي عملية غش سياسي يحق للشركاء في الوطن أن يرفضوها.

والثانية، أن يخرجوا من كل عمل دعوي وأن يتحولوا إلى حركة سياسية غير ذات مرجعية إسلامية. وهذا يعني أن يقبل الإسلاميون بعقل بارد تجاوز تاريخهم المؤسس وينقضوا مشروعهم إلى مشروع جديد ومختلف. إن فشل التجربة قد شوه القوم تشويها لا يمكن لجيل كامل أن يبرأ من أثره ما لم تتغير الخطة والوسائل.

هنا تؤسس المراجعات الجذرية التي تعني إعادة تأسيس العمل السياسي. ليضرب كل إسلامي بكفيه على جبينه؛ ما معنى دولة إسلامية؟ لينظر هذا الإسلامي الغارق في مشروع مبني على نموذج تاريخي متخيل. لقد قيل إن الخميني أنجز ثورة إسلامية، لكن هل إيران الآن دولة إسلامية؟ ويجري الآن في سوريا شيء مماثل؛ ثورة قادها إسلاميون يبنون اللحظة شيئا وضعيا هو الوحيد المتاح. وقبل ذلك والإسلاميون يراقبون بحماس النجاح التركي، فهل سألوا أنفسهم هل تركيا أردوغان دولة إسلامية مطابقة للمشروع الذي أسسوا عليه عملهم منذ قرن؟

ليسمع الإسلاميون منا هذه الجملة القاسية: ليعلنوا حل أنفسهم والتخلي عن مشروعهم الأول، وليعثروا على باب الحزب السياسي الوضعي وليطرقوه بلا فتوح ولا أسلمة، فالمجتمعات المسلمة لم تزدد إسلاما بتأثير الإسلاميين، وقد حدثت ردات فعل معاكسة تماما بعد مشاركتهم في الربيع العربي.

مقالات مشابهة

  • قصف إسرائيلي يستهدف أحد عناصر حماس في سوريا
  • سوريا.. وزير الأوقاف يشعل ضجة بما قاله أمام محمد بن سلمان ورد فعل الأخير
  • سوريا تحدد سعر التأشيرة للعراقيين بـ250 دولاراً وتعفي مواطني الأردن ولبنان
  • سوريا تعلن تفكيك مخيم الركبان على الحدود مع الأردن
  • تحذير إسرائيلي: مشاهد الجوع غير الأخلاقية في غزة أفقدتنا الشرعية الدولية التي نحتاجها
  • ننشر مخططات المالية لتحفيز القطاع الخاص
  • نشرة المرأة والمنوعات| صحتك في خطر لا تؤجل وجبة الإفطار بعيد الأضحي طريقة لتجنب آلام الساق.. ومخاطر أدوات التجميل في العيد
  • هل الإسلاميون شركات انتخابية؟
  • مباحثات سورية أوروبية: التحضير لاتفاقية شراكة جديدة بين سوريا والاتحاد الأوروبي
  • الملك يثمن العمل المشترك الذي يقوم به الأردن والمملكة المتحدة