التنمية المستقلة ضرورة من أجل إنهاء حالة الاستعمار الاقتصادي والحد للتبعية في الدول النامية
تاريخ النشر: 1st, January 2025 GMT
شاطئ السلام
د. إبراهيم عمر(صاروخ)
كاتب وباحث في قضايا السلام والتنمية
الأربعاء ١ يناير/ ٢٠٢٥م
*التنمية المستقلة ضرورة من أجل إنهاء حالة الاستعمار الاقتصادي والحد للتبعية في الدول النامية.*
--------------‐-‐----‐----‐-‐-------
تُعرف التنمية المستقلة بأنها الإطار الذي يُمكّن المجتمعات والدول النامية من تحقيق نموها وتطورها من خلال الاستغلال الأمثل لمواردها وقدراتها المحلية بعيداً عن التبعية للخارج وذلك عبر العديد من المحاور، منها: تعزيز المهارات والقدرات، الاستخدام الراشد للموارد المحلية والمشاركة الديمقراطية في التنمية؛ كما يركز هذا النموذج على ضرورة الاستغلال الأمثل للموارد بشكل مستدام ومستقل بطريقة مبتكرة ومدروسة تضمن تلبية إحتياجات الحاضر دون المساس بحقوق الأجيال القادمة، بما يتماشى مع القيم والمبادئ الوطنية العليا.
فالاستعمار في المعنى الاقتصادي هو شكل من أشكال الهيمنة الاقتصادية التي تمارسها الدول الرأسمالية الكبرى طمعاً في اقتصاديات وموارد الدول النامية لمصلحة شعوبها. غير أنه في الأدبيات السياسية يعرف بأنه قُمع الشعوب وإخضاعهم قسراً وبقوة قهرية بهدف نهب خيرات وثروات الدول النامية والعمل على النيل من استقلالها السياسي والانتهاك من سيادتها الوطنية والتحطيم من كرامة شعوبها. بينما من الناحية العسكرية فالاستعمار هو تلك السياسة التي تتسم باستخدام القوة العسكرية في الميدان بهدف استدامة وضمان انسياب الموارد والخيرات إلى مقر الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة.
...وقد تجلت هذه السياسات من خلال احتلال أراضي الغير، وفرض النفوذ والعمل على إقامة نظم دكتاتورية قمعية عن طريق الاستخدام للقوة العسكرية في الساحة الدولية، وارتبطت هذه السياسات بمفهوم "الاستعلاء الحضاري" أي ما عرف منذ القدم بادعاءات الرجل الأبيض الذي كان يعتقد أنه يحمل رسالة التمدن والحضارة للشعوب المستعمرة عرفت حينها باسم الفتوحات التي استُخدم المستعمر كذريعة لتبرير جرائمه وسياساته بزرائع إصلاحية بحجة أن الشعوب المستعمرة تعيش في التخلف وتحتاج الى التقدم. كما قام المستعمر بفرض لغته وتشويه التاريخ بجانب توظيف الفن والأدب كوسيلة لنشر ثقافته مما ساهم في تعزيز وجه نظره حول التفوق الثقافي والاجتماعي.
من خلال ما سبق اتضح جلياً بأن هنالك إختلافاُ جوهريا ما بين المعنى اللغوي الذي يحمل بين طياته معناً إيجابياً والمصطلح الذي يأخذ شكلا مضاداً له. لقد أخذ الاستعمار بالمعنى السلبي للكلمة مما جعله يتناقض مع المفهوم الذي كان يُسوقّه المستعمر مستخدماً لذكائه الذي يظهر أمام الشعوب المستعمرة بأنه يحترم إداراتهم التقليدية وثقافاتهم (نمط حياتهم).
...تعيش معظم مجتمعات الدول النامية منذ استقلالها الوطنى حتى الآن الكثير من المشكلات الاقتصادية والاضطرابات السياسية، ولعل الحظ الأوفر لهذه الأسباب يعود إلى عهد المستعمر الذي عمد على خلق ما يعرف باقتصاديات الريعية التي من خلالها يقوم على تصدير المواد الأولية (الخام) بدلاً من بناء قاعدة لصناعات وطنية متطورة في تلك البلدان، وأسباب أخرى تعود إلى المستعمر الذي عمد على صنع مخططات وسياسات للنخبة الصفوية الحاكمة بشقيها:(المدنية والعسكرية) وكلاء الاستعمار التقليدي، وقد لعب هؤلاء النخب دوراً بارزاً في الوصول بالوضع الاقتصادي إلى ما هو عليه الآن وذلك بسبب ما تم من سوء التخطيط والإدارة، فظهر الفساد الإداري والمالي والأخلاقي في القطاع العام، والمحسوبية في الخاص، وأدى ذلك في نهاية المطاف إلى دخول هذه الدول في دوامة من الأزمات والاضطرابات (الفقر، البطالة، الجوع، الجهل، المرض، القبلية، الحروب وانتشار ظاهرة الانقلابات العسكرية وغيرها من المحن). وفي هذا الصدد لقد ساهم المستعمر عندما شعر بحاجته الماسة لنخبة متعلمة لتقود العمل البيروقراطي في الخدمة المدنية، فٓتح معاهد التعليم( كلية كولومبيا- الفلبين 1901م، كلية غردون التذكارية- السودان 1902، ومدرسة كولبر في السنغال 1950 وغيره من دُور التعليم) لتخرج فئة متعلمة تعليما غربيا للعمل كموظفين عموميين أو كقيادات وسيطة، هذه النخب أصبحت مشكلة في حد ذاتها مما مهد لعدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. وفي هذا المضمار يؤكد الدكتور/ حمد عمر حاوي أستاذ العلوم السياسية بجامعة بحري في كتابه(التكامل السياسي) بأن هؤلاء النخب قد عمدوا على ربط اقتصاديات بلدانهم بمصلحة الدول الرأسمالية بعد رحيل المستعمر مباشرة وبشكل مجحف، حيث اصطفوا الخطط والسياسات التنموية والمشاريع الاقتصادية بما يتماشى مع أهداف وتوجهات الدوائر الرأسمالية الامبريالية، الأمر الذي دعا إليه بعض المختصين والباحثين في حقل دراسات التنمية السياسية والاقتصادية أن يطلقوا على تسمية الدولة التي اعقبت الاستعمار القديم في الدول النامية بالاستعمار الوطني الجديد ويضيفون بأن هؤلاء النخب قد انشغلوا كسابقاتهم (الاستعمار التقليدي) بفرض القانون بالقوة وجمع الثروات القومية لمصلحتهم الشخصية والحزبية والطائفية والمحسوبية الضيقة بالتغلغل في مفاصل الدول باعتبار أن الدولة هي الطريق الوحيد للغنى، إذ جعلوا منها اقطاعية خاصة بهم. لذا فمن الطبيعي أن تجد مصانع ومناجم ومشاريع الوطنية العملاقة دون أن تمس ثمارها حياة المواطنين حولها، فعمالها أجانب وإنتاجها يصدر إلى الخارج حتى لا يستفيد منها المواطن بأي فائدة؛ في مقابل هناك بعض النخب الصفوية استطاعوا أن يجابهوا العديد من التحديات والمشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية كالفقر، البطالة، ضعف البنية التحتية، نقص الخدمات، التضخم، الديون، فقدان الأسواق، الصراعات الداخلية، وأزمة الهوية، فكانت النتيجة دون الطموح المطلوب.
...وعلى صعيدٍ متصل ناقش الكاتب الفرنسي والفيلسوف فرانز فانون قضية الاستعمار الوطني الجديد حيث ركز دراسته على تحليل التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية في مجتمعات الدول النامية فتوصل إلى النتيجة التي مفادها أن جل المشكلات التي تعاني منها هذه الدول، تعود أسبابها إلى هؤلاء النخب الذين حكموا بلدانهم حيث ظلوا ولا يزالون يتحكمون في مصائر شعوبهم ما بعد رحيل المستعمر الأجنبي فتبنوا ذات الأساليب والسياسات التي مارسها المستعمر من قبل (قمع داخلي، استمرار في استغلال الموارد ونهبها، الاعتماد على القوى الرأسمالية، العبث بالمال العام، الاستبداد والظلم، الفساد والمحسوبية) وزاد قائلاً إن بقيت تحتفل بأعياد الاستقلال. هذا ما كان يعتقده الكثير من أبناء وبنات شعوب الدول النامية بأن زمانه قد ولى وانقضى بلا رجعة، هذا ما دعته إلى المطالبة بضرورة قيام ثورات شعبية من أجل إسقاط هذه السياسات وتغيير الأنظمة الفاسدة، مشددة في ذلك على أن تكون الثورة حقيقة وشاملة بحيث ألا تقتصر على تغيير السلطة واستبدالها من يد المستعمر إلى يد مستعمر آخر فحسب، بل أن تمتد جذوتها حتى يمكنها من إحداث تغيير جزري في أبينة السلطة؛ لأن الاستقلال بالنسبة للشعوب المستعمرة كان ولا يزال يعني لهم: الحرية- العدل الاجتماعي-السلام المستدام والديموقراطية الحقة- والتخطيط الاقتصادي السليم.
هذه الوضعية أبقت العديد من الدول النامية ككيانات تابعة وخاضعة ترزح تحت رحمة القوى الصناعية المتقدمة التي رسخت اقدامها في ميدان الاقتصاد ومخزناً للمواد الأولية (الخام) التي تزود مصانع المركز الرأسمالي، ومن ثم بعد صناعتها تعود اليها لتشتريها بأبهظ الأثمان، أي أن الفوائد والحقوق من نصيب المستعمِرين أما المستعمُرون ليس لديهم سوى الخسائر والواجبات والالتزامات. إلاّ أن هناك قلة من النخب الوطنية من أمثال: جمال عبدالناصر- مصر، وليام راندولف- غانا، توفيل زير- برازيل، هوشي منه- فيتنام وغيرهم من القادة الذين تمكنوا من مقاومة سياسات التبعية والاستعمار الاقتصادي الجديد أثناء الحكم الوطني حيث استخدموا مجموعة من السياسات والاستراتيجيات، منها: -التأميم-تعزيز الصناعات المحلية-دعم المشاريع البحثية-تطوير المناهج التعليمية-تحسين البنية التحتية-تطويع أساليب المتابعة والتقييم.
... تبرز أهمية التنمية المستقلة في قدرتها على تمكين الدولة من الاعتماد على مواردها وإمكانياتها المحلية وتحويلها إلى أدوات وطاقات فعالة منتجة تخدم مصلحة شعبها في المقام الأول ضماناً لتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي بشكل متوازن ومسؤول، لذا يعتبر العلماء في مجال العلوم الاجتماعية بأن تطبيق هذا النموذج هو المدخل السليم والمسار الصحيح لاختراق جدران التخلف والتبعية؛ بل كحقيقة التي تؤمن بموجبها للانطلاق نحو رحاب النهضة التنموية الشاملة التي من خلالها تستطيع الدول النامية كسر طوق تخلفها الاقتصادي والتنموي، وهو الأمر الذي لا يمكن إحداثه إلاّ إذا تم استخدام الموارد المحلية استخداماً أمثل ورشيدا بطريقة شرعية صحيحة ومرضية. *وللخروج* من هذا الواقع الأليم الذي تعيشه البلدان النامية والتي تضم في مجموعها جميع الدول الأفريقية وأمريكا اللاتينية وبعض دول القارة الآسيوية والجزء الشرقي من أوربا ذكر الدكتور/إبراهيم العيسوي الخبير الاقتصادي والأستاذ بمعهد التخطيط القومي بالقاهرة العديد من الشروط الكفيلة بإنهاء حالة التبعية الاقتصادية والاستعمار الداخلي، بأنه: لا بد لشعوب الدول النامية أن تسعى إلى تحرير نفسها من الهيمنة الصفوية(الشريحة البرجوازية) المسيطرة على مفاصل الدولة الوطنية- التحرر من قيود التبعية وذلك بعدم الانصياع للسياسات الاستعمارية التي تتبناها المؤسسات الدولية لمصلحة الدول الرأسمالية المتوحشه-ضرورة اصطفاء نموذج تنموي مستقل المبني على احترام الإرادة الوطنية عن طريق إقامة علاقات خارجية تعزز من الاستقلال الاقتصادي وتوثق عرى التعاون الاقتصادي على هدى التكافؤ-توحيد الرؤى من أجل إنجاز مهام الاستقلال الوطن- ضرورة اتباع سياسات اقتصادية جديدة مستقلة تنطلق من إمكانيات الدولة المحلية فتأخذ في الاعتبار الأجندات الداخلية وحقوق السيادة وليس المعتمدة على الإملاءات الخارجية- العمل بكل إخلاص والتفاني للانعتاق من السيطرة الأجنبية كأساس متين لإعادة بناء الثقة في النفوس الذي لا يتأتى إلاّ بتبني قيم ومبادئ الحكم الراشد القائمة على سيادة حكم القانون، الشفافية، المساءلة، الكفاءة، المشاركة الديموقراطية، الاستجابة للإحتياجات وتطلعات الشعوب.
وفي سياق ما تقدم ذكره هل يستطيع شعوب الدول النامية التحرر من الاستعمار الاقتصادي الجديد وإنهاء حالة التبعية الاقتصادية؟!! E-mail:[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: التنمیة المستقلة البنیة التحتیة الدول النامیة هؤلاء النخب العدید من من أجل فی هذا
إقرأ أيضاً:
دولة فلسطين المستقلة
حاتم الطائي
◄ الشعب الفلسطيني يئِن من أشد ظلم في تاريخ البشرية
◄ التحركات الدولية للاعتراف بالدولة الفلسطينية بريق يضيء دروب الأمل
◄ معاقبة إسرائيل ومحاكمة مجرمي الحرب خطوة لا مناص منها مهما طال الأمد
ظلَّ مطلب إقامة دولة فلسطين المُستقلة نقطة محورية في المفاوضات العبثية الدائرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين لعقود طويلة، دون أي تقدُّم مُحرَز أو إنجاز يُذكر، باستثناء اعتراف الدول العربية بالدولة الفلسطينية المُستقلة، الذي ظلَّ اعترافًا صوريًا إلى حد كبير، في ظل عدم اعتراف أي منظمة دولية بها، باستثناء بعض المنظمات المتخصصة في أمور ثقافية أو تعليمية أو إغاثية!
ورغم الاعتراف العربي بفلسطين دولةً وشعبًا، إلّا أنَّ عدم الاعتراف الغربي وخاصةً الأممي، تسبب في تفاقم معاناة الشعب الفلسطيني، وأضر بمُستقبل هذا الشعب، وأعطى ضوءًا أخضرَ لدولة الاحتلال الإسرائيلي لكي تُنفِّذ مختلف الجرائم وتمارس أبشع أنواع الاحتلال الإحلالي في تاريخ البشرية. ومن المؤسف أن حصول فلسطين على صفة "دولة مُراقبة غير عضو" في الجمعية العامة للأمم المتحدة، منذ عام 2012، لم يشفع لها للحصول على عضوية حقيقية كاملة في المنظمة الأممية. وسواء اتفقنا أو اختلفنا على أهمية أو دور أو مسؤوليات منظمة الأمم المتحدة، في ظل النظام العالمي الأحادي القطب، إلّا أن حصول فلسطين على هذه العضوية الكاملة سيمثل نقطة تحوُّل في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وسيُتيح للشعب الفلسطيني أن يقول كلمته بأعلى صوت في أكبر محفل أممي.
غير أنَّ هذه الأمنيات البسيطة، لم تتحقق حتى الآن، رغم المجاعة القاتلة التي يئن منها أطفال ونساء وشيوخ غزة، ورغم جرائم الإبادة التي لا تتوقف ويُنفذها الاحتلال بكل جبروت وعدوان في حق ما يزيد عن مليوني إنسان، لا ذنب لهم سوى أنهم وجدوا أنفسهم بين براثن احتلال إجرامي لا يعرف للإنسانية سبيلًا، ولا للقانون الدولي طريقًا، ذنب الشعب الفلسطيني وتحديدًا أهالي قطاع غزة أنَّهم لم يجدوا نصيرًا أو داعمًا لهم من إخوانهم العرب ولا إخوانهم في الإنسانية، سوى البعض من أصحاب الضمائر الحيَّة في عواصم غربية وقلة قليلة للغاية في عدد من الدول العربية، لكن المشهد العام يُؤكد أنَّ الجميع تخلّى عن غزة، الجميع رفع يده، الجميع لم ينصر الشعب الفلسطيني، لقد اكتفى العالم- والعرب على وجه الخصوص- بالكلام، لم يهبُّوا لنصرة فلسطين ولا لدعم غزة الجريحة المطعونة بخنجر الوحشية والإبادة في فؤادها. إسرائيل تُحارب العرب من بوابة غزة بأشد الأسلحة فتكًا وتدميرًا، والعرب يردون على إسرائيل ببيانات الشجب والإدانة والرفض، بيانات لا تُسمن ولا تُغني من جوع، بيانات لا يتجاوز تأثيرها حدود الفضاء الإلكتروني الذي نُشرت فيه، ولم تردع دولة الاحتلال ولو قيد أُنملة!
ولكن.. ورغم النفق المُظلِم الذي يعيش فيه الشعب الفلسطيني بأكلمه، يظهر في الأفق بريق أمل خافت مع إعلان عددٍ من دول العالم الغربي الاعتراف بدولة فلسطين المُستقلة.. خطوة ربما لن تُفضي إلى نتائج فورية وسريعة تصب في مصلحة هذا الشعب المناضل، صاحب أكبر مظلمة في تاريخ الإنسانية، إلّا أنها من المؤكد أنها ستُحرِّك الماء الراكد، الذي تجمَّع في بركة من التواطؤ والخنوع والاستسلام العربي والإقليمي والدولي. وهذه الخطوة التي أعلنتها هذه الدول، ومنها فرنسا وكندا، عضوا مجموعة السبع ومجموعة العشرين، ولا سيما فرنسا العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة وصاحبة حق النقض الفيتو، كلها عوامل من شأنها أن تُعيد القضية الفلسطينية ببُعدها السياسي والتاريخي إلى المُقدمة مرة أخرى، بعد أن سعى الاحتلال الإجرامي إلى وأدها ودفنها حيَّة كما يفعل اليوم ومنذ قرابة عامين في غزة؛ حيث يُدفن أهل غزة أحياءً تحت أنقاض المنازل والبيوت المُدمَّرة بفعل القصف الصهيوني العشوائي الغاشم.
اليوم وفي ظل هذه المساعي الدولية الإيجابية تعود قضية فلسطين إلى الواجهة؛ الأمر الذي أشعل غيظ مُجرمي الحرب الإسرائيليين بقيادة المجرم الخسيس بنيامين نتنياهو وأعوانه من زبانية الدم والدمار أمثال سوموتريتش وبن غفير، ولا شك أنَّ هذه المساعي ستخدم القضية الفلسطينية، لا سيما وأنَّ دولة الاحتلال المُجرم سعت خلال عدوانها الآثم على غزة إلى تصفية القضية الفلسطينية، تارةً عبر محاولة تنفيذ مُخطط التهجير القسري للشعب الفلسطيني في قطاع غزة إلى الأردن ومصر، أو إلى أي دولة أخرى، وتارةً عبر تنفيذ مُخطط الإبادة الجماعية والتصفية الجسدية لكل إنسان في هذا القطاع؛ إذ يتعرَّض سكان غزة ومنذ السابع من أكتوبر 2023، لإبادة جماعية وعمليات قتل مُمنهجة، وإعدامات ميدانية غير مسبوقة في تاريخ البشرية، حتى أصحاب الأمعاء الخاوية من الجوعى والمحرومين والذين يُعانون من أشد مجاعة مُتعمَّدة في تاريخ البشرية، هؤلاء لم ينجوا من الموت، بنيران القصف الصهيوني المُتعمَّد على صفوف المدنيين الواقفين بانتظار تلقي ما قد يسد جزءًا قليلاً جدًا من الجوع، فقد شاهدنا كيف أن شعب فلسطين العظيم يموت من أجل حفنة من الطحين، أو صحن من الطعام الذي لا يكفي حتى لفرد واحد. شاهدنا كل هذه المآسي ونحن نتحسَّر على ما آلت إليه أحوال هؤلاء المظلومين، وما آل إليه حالنا كعرب، من استسلام وعدم القدرة على رد الفعل.
لقد تجرَّعنا أقسى الآلام النفسية ونحن نُشاهد عبر شاشات التلفاز ونُتابع من خلال منصات التواصل الاجتماعي، كُل تلك الدماء الزكية التي تختلط بحبات الطحين والرمال، في غزة الأبيّة.. اعتصرنا الألم من شدة اليأس وعار الاستسلام وذُل الحياة تحت نير احتلال مُجرم فاشٍ، بينما العالم يُشاهد ذلك في صمتٍ وتواطؤ وتجاهل مُخزٍ.
إنَّ المطلوب اليوم من جميع العرب وأصحاب الضمائر الحيَّة في هذا العالم، أن يستفيدوا من هذا الزخم الذي تمخض عن الحراك الدبلوماسي الدولي، حتى ولو كانت النتائج أقل مما نريد، على الجميع البناء على تحركات الدول الغربية للاعتراف بدولة فلسطين المُستقلة، والعمل على استصدار قرارات أممية جديدة تدعم القرارات الصادرة بالفعل على مدى العقود الماضية، وأهمها: القرار رقم 194 الذي يؤكد على "حق العودة للاجئين الفلسطينيين الذين يرغبون في العودة إلى ديارهم... ويدعو إلى دفع تعويضات عن الممتلكات التي لم يتم استردادها"، وكذلك القرارات رقم: 242 و338 و446 و2334، والتي تدين الاستيطان الإسرائيلي وتطالب بوقف الأنشطة الاستيطانية، وأيضًا القرار رقم: 3236 (د-29) الذي "يؤكد على حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، بما في ذلك حقه في تقرير المصير والعودة والاستقلال". إضافة إلى القرار رقم (176/ 43) الذي "يؤكد المبادئ المتعلقة بتحقيق السلام الشامل" ومنها: انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس، ومن الأراضي العربية المحتلة الأخرى، وضمان أمن جميع دول المنطقة، بما في ذلك الدول المذكورة في القرار 181، داخل حدود آمنة ومعترف بها دوليًا، مع تنفيذ القرار 194 الخاص بتفكيك المستوطنات الإسرائيلية، وحرية الوصول إلى الأماكن المقدسة.
ولا ريب أنَّ الجميع يعلم مدى عدم قدرة الأمم المتحدة على تنفيذ قراراتها المُتعلقة بفلسطين، في ظل التواطؤ الأمريكي المؤسف، والانحياز الأعمى من جانب الولايات المتحدة لصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهو انحياز يجعل الولايات المتحدة- بقيادة أي رئيس كان ديمقراطيًا أو جمهوريًا- شريكًا أساسيًا وضالعًا رئيسيًا في جميع الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، وآخرها جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي تُرتكب كل يوم، لكن ذلك لا يجب أن يحول دون مواصلة الحراك والدفع بكل السبل الممكنة من أجل تمكين الشعب الفلسطيني من نيل حقوقه كاملة، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
ويبقى القول.. إنَّ التحركات الدبلوماسية الحميدة التي تستهدف الاعتراف بالدولة الفلسطينية المُستقلة، خطوة على سبيل تحرير الشعب الفلسطيني، ووقف جرائم الاحتلال، تمهيدًا لمُحاسبته ومُعاقبته في المحاكم الدولية على ما اقترفه من جرائم بشعة على مدى عقود ممتدة، وليس فقط خلال عدوانه الأخير على غزة ومدن الضفة، إضافةً إلى بدء خطوات عملية جادة لإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة على الأرض، وفق مقررات الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة على الحدود المعترف بها دوليًا، وهو حقٌ لن يُمحى ولن يزول ولن يتخلى عنه أصحاب القضية مهما طال الأمد ومهما اشتد العدوان.
تحيا فلسطين حُرَّة مُستقلة... تحيا فلسطين حُرَّة مُستقلة.
رابط مختصر