جيل يُمحى .. تقرير يوثق إبادة الاحتلال لأطفال غزة
تاريخ النشر: 2nd, January 2025 GMT
الثورة /متابعات
سلط تقرير حقوقي أصدره المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، الضوء على مأساة الأطفال الفلسطينيين نتيجة الإبادة الجماعية الإسرائيلية.
وجاء التقرير تحت عنوان ” جيل يمحى: أطفال غزة في أتون الإبادة الجماعية،”، وركز على جريمة الإبادة الجماعية الممنهجة والمقصودة التي ترتكبها إسرائيل بحق الأطفال في قطاع غزة، بما في ذلك القتل، الإيذاء الجسدي والنفسي الجسيم، وإخضاعهم لظروف معيشية تهدف إلى تدميرهم ماديًا ومعنويًا، مع التأكيد على غياب المساءلة الدولية ودور الدعم الغربي والتقاعس الدولي في استمرار هذه الجريمة بحقهم.
ووصف المحامي راجي الصوراني، مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، جرائم الإبادة الجماعية بحق الأطفال قائلاً: “استهدفت هجمات الاحتلال القتل العمد للأطفال من خلال استهداف الأماكن السكنية ومراكز الإيواء، ما جعل الأطفال يشكلون النصيب الأكبر في القتل، حيث بلغ عددهم نحو 17 ألف طفل حتى الآن.
كما انتهجت قوات الاحتلال – وفق الصوراني- سياسة التجويع عبر منع الطعام والماء عنهم وعن أسرهم، مع تفاقم معاناتهم بشكل خاص لدى الأطفال والنساء الحوامل.
وأدى التدمير الواسع للمنازل إلى تهجير نحو مليوني شخص من قطاع غزة، مما جعلهم بلا مأوى في برد الشتاء وحرارة الصيف. كما تم تدمير المستشفيات ومنع العلاج والدواء والتطعيم، وتدمير المدارس ومنع التعليم. كل ذلك ضمن سياسة منهجية وتخطيط ممتد، مما يجعل إسرائيل وجيشها المحتل بلا شك الجيش الأكثر سقوطًا أخلاقيًا في العالم، والعدو الأول للأطفال على الصعيد الدولي، والدليل القاطع على ممارستها قولا وفعلا لجريمة الإبادة الجماعية، وفق الصوراني.
ويمثل أطفال قطاع غزة، بعد السابع من أكتوبر 2023، ضحايا مباشرين لجريمة الإبادة الجماعية التي ينفذها الاحتلال بوحشية غير مسبوقة. فقتل الأطفال، وإلحاق الأذى الجسدي والنفسي الجسيم بهم، وإخضاعهم لظروف معيشية قاسية تُدمِّر حياتهم، لا يمكن عدّه مجرد تبعات جانبية للهجمات العسكرية، بل هو جزء من استراتيجية ممنهجة تهدف إلى محو الهوية الفلسطينية والقضاء على الأجيال القادمة.
قتل الأطفال
ووفق التقرير؛ منذ السابع من أكتوبر 2023، أصبح أطفال غزة ضحايا مباشرين لجريمة الإبادة الجماعية، بدءًا بـفعل “القتل”، الذي تُنفّذه قوات الاحتلال الإسرائيلي بوحشية متعمدة وبنية واضحة لاستهدافهم كجزء من هذه الإبادة. فقد أكدت تصريحات القيادات الإسرائيلية هذا التوجه بوضوح، حيث أشار رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو إلى قصة التوراتية حول تدمير العمالقة على يد الإسرائيليين، في رسالة وجهها إلى الجنود والضباط الإسرائيليين قائلاً: “الآن اذهب، هاجم عماليق، وأحرم كل ما يخصه. لا تشفق على أحد، بل اقتل الرجال والنساء، الأطفال والرضع، الثيران والأغنام، الجمال والحمير.”.
ومنذ بداية الهجمات الإسرائيلية، استشهد أكثر من 17,000 طفل في قطاع غزة، بمعدل طفل كل عشر دقائق. وهذه الإحصائية لا تشمل الوفيات الناتجة عن الأمراض والجوع والأوبئة.
وقد أكد توثيق المركز لفعل القتل في شهادات قتل الأطفال، والتي ذكر بعضها في التقرير، على الاستهداف الممنهج والواسع النطاق للأطفال.
فقد أبرز أن أشلاء الأطفال الممزقة تُجمع في أكياس، وتُحرق أجسادهم الحية بفعل النيران المتعمدة. ويلقى العديد منهم حتفهم أثناء نومهم في لحظات من الأمان الزائف، أو خلال محاولاتهم المحفوفة بالمخاطر للحصول على المساعدات الإنسانية، أو أثناء نزوحهم عبر الطريق الذي ادعى الجيش الإسرائيلي أنه آمن. كما يقتل الأطفال جراء استهداف المستشفيات، مما يؤدي إلى تعطيل أجهزة الأوكسجين بسبب انقطاع الكهرباء، فتتحول الحاضنات إلى مقابر صامتة لهم. هذه الشهادات ليست سوى نماذج من الجرائم المنهجية والواسعة النطاق التي يتعرض لها الأطفال في غزة، في ظل غياب أي تمييز بين المدنيين وتقاعس المجتمع الدولي عن محاسبة الجناة.
إلحاق أذى جسدي أو نفسي خطير
في سياق الفعل الثاني من أفعال جريمة الإبادة الجماعية، يتطلب قيام المسؤولية أن يكون الجاني قد تعمد إلحاق أذى جسدي أو عقلي بليغ بأحد أفراد المجموعة، بحيث يكون الضرر ناتجًا عن قصد واضح.
ويُعرَّف الأذى الجسدي البليغ، وفقًا للاجتهادات القضائية الدولية، بأنه يشمل الأذى الجسيم الذي يلحق بالصحة، مثل التشويه أو الإصابات الخطيرة التي تصيب الأعضاء، والتي تؤدي إلى تدمير أو عجز دائم، أو تُسبب تأثيرات بالغة على الحالة البدنية أو النفسية للضحية.
وقد وثّق المركز الحقوقي إصابات جسيمة ومروّعة تعرّض لها أطفال قطاع غزة نتيجة القصف الإسرائيلي والانفجارات الهائلة. شملت هذه الإصابات فقدان الأطراف، وتشوهات حادة في الوجه ناجمة عن إصابات مباشرة أو حروق بالغة.
كما سُجّلت إصابات في العمود الفقري أدت إلى الشلل الكامل أو العجز الحركي، بالإضافة إلى إصابات دماغية خطيرة أثّرت على القدرات الإدراكية والسلوكية للأطفال. وإلى جانب ذلك، عانى العديد من الأطفال من إصابات في العين تسببت في فقدان البصر كليًا أو جزئيًا، ما أدى إلى إعاقة قدرتهم على التعلم والمشاركة في الأنشطة اليومية.
هذه الإصابات والتشوهات المدمّرة لا تقتصر على الأذى الجسدي وحده، بل تمتد لتغرس آثارًا نفسية واجتماعية عميقة تعيق تعافي الأطفال وتحدّ من قدرتهم على العيش بكرامة وبشكل طبيعي. وتعد إصابات بتر الأطراف للأطفال الأعظم في أي صراع مسجل في الحروب الحديثة، حيث يترك أثرًا دائمًا لا يمكن تجاوزه على حياتهم اليومية ومستقبلهم.
هذه المعاناة تمتد طوال حياتهم، وتجعلهم يعيشون تحت وطأة تجربة مريرة لا تفارقهم، خاصة أولئك الذين باتوا يعانون من إعاقة دائمة تحرمهم من أبسط حقوقهم في حياة طبيعية ومستقرة.
اعتقالات تعسفية
ومن جانب آخر، وثّق المركز تعرض أطفال غزة لاعتقالات تعسفية يتعرضون خلالها لأساليب تعذيب قاسية وغير إنسانية. يبدأ التعذيب بترهيب الأطفال باستخدام الكلاب البوليسية، وتكبيلهم، وعصب أعينهم لساعات طويلة، قبل نقلهم إلى مراكز احتجاز تفتقر لأبسط مقومات الكرامة. هناك، يواجهون تعذيبًا جسديًا ونفسيًا، يشمل الضرب الوحشي، وإطفاء السجائر على أجسادهم، والإجبار على الوقوف في أوضاع مؤلمة مع الحرمان من النوم والطعام. تترك هذه التجارب آثارًا نفسية طويلة الأمد، بما في ذلك القلق، والاكتئاب، واضطرابات ما بعد الصدمة، مما يعيق فرصهم في بناء مستقبل مستقر.
وأوضح التقرير أن الأذى النفسي الجسيم، لا يتطلب بالضرورة حدوث اعتداء جسدي، وهو يتجاوز الأعراض الضعيفة، ويتطلب تأثيرًا طويل الأمد على قدرة الفرد على العيش بشكل طبيعي. ومع ذلك، من المهم التأكيد على أن هذا الضرر ليس شرطًا أن يكون دائمًا أو غير قابل للعلاج.
ووثّق المركز شهادات مؤلمة تكشف حجم الأذى النفسي الجسيم الذي يُلحقه الهجوم العسكري الإسرائيلي المستمر بالأطفال. وتشمل هذه الشهادات معايشتهم لمشاهد العنف والدمار المروّعة الناتجة عن الهجمات العسكرية، وفقدان الأهل والأحباء في ظروف مأساوية تفطر القلوب، فضلاً عن التهجير القسري المتكرر في أوضاع لا تراعي أدنى مقومات الكرامة الإنسانية. هذه التجارب المروّعة تترك ندوبًا نفسية عميقة ويحد من عيشهم بشكل طبيعي.
إخضاعهم لظروف معيشية مدمرة
الفعل الثالث من أفعال الإبادة الجماعية يتمثل في فرض ظروف معيشية تهدف إلى التدمير التدريجي لجماعة معينة جسديًا، دون القتل الفوري. وقد ارتكبت دولة إسرائيل هذا الفعل من أفعال الإبادة الجماعية بشكل متعمد، حيث أخضعت سكان قطاع غزة، بما في ذلك الأطفال، لظروف مروعة تهدف إلى تدميرهم ماديًا بشكل كامل.
وصرح العديد من المسؤولين الإسرائيليين بنواياهم الواضحة في هذا السياق، منهم وزير الجيش الإسرائيلي، في حينه، يوآف غالانت الذي صرح قائلاً: “قطاع غزة لن يعود كما كان أبدًا، سنقضي على كل شيء وسيتغير الوضع 180 درجة إلى الوراء.” وتؤكد هذه التصريحات وغيرها بوضوح على نية المسؤولين الإسرائيليين تدمير جماعة سكان قطاع غزة بأكملها، بما في ذلك الأطفال الأبرياء.
وفرضت إسرائيل منذ السابع من أكتوبر، على سكان قطاع غزة ظروفًا معيشية قاسية تهدف إلى إلحاق دمار تدريجي بالسكان، ما يعادل الموت البطيء.
التجويع
تجلت هذه السياسات الممنهجة -حسب التقرير – في استخدام التجويع كسلاح حرب، وحرمان أطفال غزة من العلاج الطبي الضروري والمساعدة الإنسانية الكافية.
كما تعمدت إسرائيل نشر الأوبئة والأمراض المعدية نتيجة انهيار البنية التحتية الصحية، مع فرض التهجير القسري للسكان تحت ظروف إنسانية مروعة شملت انعدام الغذاء والرعاية الطبية والمأوى. علاوة على ذلك، حُرم أطفال غزة من حقهم الأساسي في التعليم، مما يعمّق الأثر المدمر على حاضر ومستقبل الأجيال القادمة في القطاع.
ووفق التقرير؛ يُعد الأطفال دون سن الخامسة والنساء الحوامل أو المرضعات الأكثر عرضة لخطر سوء التغذية، بسبب حاجتهم المتزايدة للعناصر الغذائية في فترات نموهم الحساسة. حتى إذا نجا الطفل من سوء التغذية الحاد، فإن التأثيرات الصحية تكون طويلة الأمد، حيث يعاني من تقزم وتأخر في النمو العقلي والجسدي، بينما يؤدي سوء التغذية الحاد إلى الهزال، مما يعرض حياته للخطر. وتزيد احتمالات وفاة الأطفال الذين يعانون من التقزم والهزال، حيث تكون أجسامهم أضعف في مواجهة الأمراض.
ومنذ بدء سياسة التجويع الممنهجة التي تنتهجها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة، فقدت حياة 27 طفلاً، علماً بأن العديد من هذه الحالات لا تُوثق في المستشفيات.
ومنذ منتصف يناير 2024، فحص أكثر من 319 ألف طفل في غزة، وشخصت حالة حوالي 22 ألف حالة سوء تغذية حادة، والعشرات منهم يواجهون مضاعفات طبية تهدد حياتهم ومن جانب آخر، رافق تدمير قوات الاحتلال للمرافق الصحية في غزة سياسة تهدف إلى منع سفر المرضى والجرحى لتلقي العلاج، بما في ذلك الأطفال الذين يحتاجون إلى رعاية مستمرة مثل مرضى السرطان والفشل الكلوي وذوي الإعاقة. كما ارتفع عدد الجرحى بشكل كبير، مما دفع الأطباء إلى فرز الحالات الطارئة بسبب الضغط على النظام الصحي ونقص الموارد، تاركين العديد من الأطفال في مواجهة موت بطيء.
وشدد المركز الحقوقي على أن التهجير القسري – بحد ذاته – لا يُعد إبادة جماعية، لكنه يصبح كذلك عندما يُرافقه حرمان الأفراد من الغذاء والرعاية والمأوى، ما يؤدي إلى تدميرهم جسديًا.
وبين أنه في غزة، أجبرت العمليات العسكرية 1.9 مليون شخص، نصفهم أطفال، على النزوح القسري دون توفير أي ملاذ آمن. حتى المناطق التي زعم الجيش الإسرائيلي أنها “آمنة” تحولت إلى أهداف للقصف، ما جعل غزة بأكملها بلا مأوى يحمي سكانها.
وتعيش العائلات في ظروف مأساوية، سواء في العراء، أو مبانٍ مهجورة، أو خيام مؤقتة، أو مراكز إيواء مكتظة، حيث تفتقر جميعها إلى مقومات الحياة الأساسية مثل الطعام والمياه النظيفة. ويفاقم هذا الوضع النقص الحاد في النظافة وأدوات التعقيم، مما أدى إلى تفشي الأمراض وسط انعدام شبه كامل للرعاية الطبية، خصوصًا للأطفال. إلى جانب ذلك، يعاني الأطفال من قسوة الطقس، إذ يُجبرون على تحمل حرارة الصيف وبرودة الشتاء، ويضطرون لجمع الحطب أو البحث عن مياه غير صالحة للاستخدام تحت تهديد القصف. هذه الظروف تجسد التدمير البطيء كجزء من سياسة الإبادة الجماعية التي تستهدف سكان غزة.
الحرمان من التعليم
وتواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي حرب الإبادة الجماعية على غزة منذ أكثر من عام، مستهدفة المدنيين والبنية التحتية، بما في ذلك المؤسسات التعليمية، بشكل منهجي.
تسبب هذا الاستهداف في حرمان مئات الآلاف من الطلاب من حقهم الأساسي في التعليم، مع تدمير المدارس وقتل آلاف الطلاب والمعلمين، مما يهدد مستقبل جيل كامل ويخلّف أثرًا مدمرًا طويل الأمد على حقوق الأطفال في التعليم والتعبير.
وحتى 9 نوفمبر 2024، استشهد 12,700 طالب و750 معلمًا وموظفًا تربويًا، فيما تعرضت 92.9٪ من المدارس لأضرار، و84.6٪ منها تحتاج إلى إعادة بناء أو إصلاحات كبيرة. أُغلقت المدارس أمام 625 ألف طالب، مما حرم 39 ألفًا من إجراء امتحانات التوجيهي، وحال دون بدء 45 ألف طفل في عمر السادسة عامهم الدراسي الأول.
وحذر خبراء أمميون من أن تدمير البنية التعليمية في غزة يشكل تهديدًا مباشرًا للمعرفة والهوية الفلسطينية، مع انعدام كامل للأمان. حتى مع وقف إطلاق النار وإعادة البناء الفورية، يُتوقع أن يخسر الطلاب عامين دراسيين، وقد تصل الخسائر إلى خمس سنوات إذا استمر الصراع حتى 2026 .
ورغم محاولات إطلاق التعليم الافتراضي، تواجه هذه المبادرات تحديات كبرى بسبب النزوح المستمر، وانعدام الأمان، ونقص الكهرباء والإنترنت، والجوع المتفشي. بالإضافة إلى ذلك، يعاني مليون طفل من آثار نفسية واجتماعية خطيرة، مثل الصدمات، وفقدان الأحبة، والقلق المزمن، مما يهدد تطورهم وسلوكهم، ويزيد من خطر التسرب الدراسي، والعمل القسري، والزواج المبكر.
*المركز الإعلامي الفلسطيني
المصدر: الثورة نت
كلمات دلالية: الإبادة الجماعیة قوات الاحتلال ظروف معیشیة الأطفال فی الجماعیة ا بما فی ذلک العدید من أطفال غزة إلى تدمیر قطاع غزة تهدف إلى ق المرکز فی غزة جسدی ا
إقرأ أيضاً:
تقرير: وحش اليتم .. ينهش طفولة غزة تحت الأنقاض
غزة - «عُمان» - بهاء طباسي: عند تخوم خيمة مهترئة قرب منطقة "المواصي" جنوب قطاع غزة، تجلس الطفلة سماح عيسى، ذات الثمانية أعوام، ويدها تشد أطراف غطاء صوفي خشن أكبر من جسدها النحيل. مات والدها في غارة استهدفت سيارته أثناء خروجه لشراء الخبز من مخبز الحي المدمر. ولحقت به أمها بعد أسبوع حين قصفت طائرة استطلاع المنزل الذي احتموا به. سماح نجت وحدها بأعجوبة، بعدما نقلها أحد الجيران إلى مستشفى ميداني.
فجر الفقد
سماح لا تذكر شكل والدتها إلا عبر صور باهتة على هاتف أحد المتطوعين، ولا صوت والدها سوى تسجيل صوتي كان أرسله لها قبل موته بساعات. في كل مساء، تطلب من العاملة النفسية أن تشغل لها التسجيل لتنام على وقع "بحبك يا بابا". لا تنام إلا باكية، ولا تستيقظ إلا على كابوس جديد.
بصوت خفيض، تروي سماح للزائرين كيف توقفت أيام السعادة عن المجيء، وكيف انكسرت المراجيح، وكيف لم تعد تفهم لماذا لم تحضر أمها ذلك الفستان الوردي الذي وعدتها به. تقول: "كان نفسي ألبسه وأروح أشوف المراجيح، بس خلص.. يمكن الفرحة ماتت كمان".
تكفل بها عمها، رجل أربعيني فقد أيضًا بيته وأطفاله الثلاثة، ويعيش الآن مع عشرة أفراد في خيمة واحدة. يقول الرجل وهو ينظر إلى سماح: "هذه الطفلة ما عادت تبتسم، حتى الدمية اللي كانت تلعب فيها ما عادت تمسكها، وكأنها نسيت كيف تكون بنت صغيرة".
أزمة متفاقمة
اليُتم في غزة ليس مجرد فقد، بل كارثة مستمرة ومركبة تُراكم على الطفل الخسارة تلو الأخرى: خسارة الأمان، وخسارة الانتماء، وخسارة المستقبل. منذ بدء الحرب في أكتوبر 2023، تساقطت العائلات برمتها تحت القصف، تاركة آلاف الأطفال في مواجهة قدر قاسٍ بلا معيل.
بات من المعتاد أن ترى طفلاً في عمر الزهور يسير بين الركام حاملاً صورة لوالده أو والدته أو شقيقه. بعضهم لا يزال يرفض التصديق أن والديه قد رحلا، وبعضهم بدأ يردد كلامًا عن "الالتحاق بهم" وكأن الموت لم يعد مفزعًا بل عودة.
في المجتمع الغزّي، حيث كانت الأسرة الممتدة تشكل سندًا اجتماعيًا، تلاشت هذه الحاضنة تدريجيًا بفعل النزوح والتدمير الشامل للبيوت. عشرات الأطفال يُسلَّمون إلى مراكز الأيتام أو يتركون مع أقارب بالكاد يجدون قوت يومهم.
تفاقمت الأزمة مع استمرار الحرب والنزوح والمجاعة، وتدمير منظومات الرعاية. معظم هؤلاء الأطفال يعانون من اضطرابات نفسية حادة: قلق مزمن، تبول لا إرادي، عزلة اجتماعية، وحتى ميول انتحارية في بعض الحالات، بحسب مختصين نفسيين.
فريدة تتكلم
شادية أبو نعنع، سيدة نازحة من حي الشجاعية في مدينة غزة، تروي حكايتها وهي تمسك يد طفلتها فريدة ذات الأحد عشر عامًا، وتشد عليها كمن يتشبث بحبل نجاة.
تقول: "عندي طفلة صغيرة انولدت في الحرب مشفتش أبوها. هادي أنا نزحت فيها من مكان لمكان كان عمرها أيام. أنا أجري وولادي يجروا معي. يعني 8 أنفار حمل مش طبيعي".
فريدة النحال، ذات العيون الحزينة، تقاطع أمها قائلة: "نفس أبوي يرجع يجيب لنا ألعاب، ويودينا على المدرسة، كان كل عيد يودينا على المراجيح". تلمع عيناها بالدموع بينما تتذكر قميص العيد الوردي الذي أصر والدها على أن تشتريه، رغم وضعهم المالي الصعب.
تقول الأم إن فريدة باتت ترفض الطعام أيامًا، وتغرق في صمت طويل لا تخرج منه إلا حين نناديها بصوت عالٍ: "كل شي تغير، حتى الطفولة ما بقت طفولة، فريدة صارت تحكي عن الموت أكثر من اللعب".
وتضيف الأم: "كنت بفكر كيف أشتري لها دفتر رسم، اليوم بفكر كيف أضمن إلها وجبة عشاء". وتختم بقولها: "الطفولة في غزة ماتت، واللي ضل منها بشبه شبح بيمشي وبيحكي زي الكبار".
زيد يتألم
زيد مسلم، طفل في العاشرة من عمره، فقد والدته وأخته الكبرى في قصف طال منزلهم في حي الرمال. نجا مع والده الذي أصيب بشلل نصفي ويعيش الآن على كرسي متحرك في خيمة وسط خان يونس.
يقول زيد: "نفسي بس أمي ترجع لي ونرجع أيام زمان ونرجع على دورنا أحسن لنا. اليوم دورنا مهدومة. ويش بدنا نسوي يعني؟".
زيد، الذي كان يعشق لعب الكرة في باحة مدرسته، لم يلمس كرة منذ أكثر من عام. الآن يمضي يومه في جر كرسي والده على الأرض الوعرة للبحث عن مساعدات غذائية. يقول أحد الجيران: "هذا الطفل شاخ قبل أوانه، ما عدت أسمع منه ضحكة ولا حتى صوت".
تدهورت حالة زيد النفسية، وأصبح يعاني من نوبات هلع ليلية. تقول إحدى المتطوعات: "زيد بحاجة إلى علاج نفسي طويل الأمد، لكنه لا يجد حتى حبة أسبرين".
وتضيف: "في أي مكان آخر في العالم، كان زيد سيُحتضن، أما هنا فهو يتساقط كما يتساقط الركام".
زيد، حين سُئل عمّا يريد أن يصبح عندما يكبر، أجاب: "بدي أصير دكتور حتى أرجّع أمي". جملة تهز القلب وتختصر المأساة.
أرقام موجعة
حتى يونيو 2025، تشير تقديرات منظمات حقوقية وإنسانية إلى أن الحرب الإسرائيلية على غزة قد يتمت أكثر من 39,800 طفل، فقدوا أحد والديهم أو كليهما. رقم مذهل يفوق ما سجلته معظم مناطق النزاع في العالم خلال العقود الأخيرة.
وتُظهر الإحصاءات أن أكثر من 9,400 طفل باتوا دون أب أو أم على الإطلاق، وهم الآن إما في مراكز إيواء محدودة الموارد أو في رعاية أقارب يعانون أصلاً من ويلات الحرب والمجاعة.
يتزايد العدد بشكل يومي مع استمرار الغارات، حيث تسقط العائلات دفعة واحدة. في كثير من الأحيان، يُنتشل الطفل من بين الأنقاض ولا يجد من يناديه باسمه، ولا أحد يطالب به.
الواقع الأسوأ أن الغالبية العظمى من هؤلاء الأيتام لا تتلقى أي نوع من الرعاية النفسية أو الاجتماعية. تقول منظمة إنقاذ الطفولة: "نواجه جيلًا كاملاً من الأطفال المحطمين نفسيًا، الذين خسروا كل شيء: الأسرة، المنزل، المدرسة، وحتى الإحساس بالأمان".
ويؤكد عاملون ميدانيون أن انعدام الغذاء يزيد الطين بلة، حيث تسجل حالات فقدان وزن شديد بين الأطفال الأيتام، ويواجهون خطر الموت جوعًا إن لم تصل المساعدات فورًا.
يُتم معقد
يقول أمجد الشوا، مدير شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، إن هذه الحرب خلفت عشرات الآلاف من الأيتام الذين يعيشون واقعًا إنسانيًا معقدًا. ويوضح أن هؤلاء الأطفال يواجهون مجاعة وسوء تغذية حاد، إلى جانب التشرد والنزوح المتكرر.
ويضيف الشوا: "نحن أمام جيل كامل يتشكل في خضم الألم. أطفال ولدوا أو ترعرعوا في قلب النار، لا يعرفون شيئًا عن الاستقرار، ولا عن الضحكة الآمنة، ولا عن الأم التي تهدهد ولا الأب الذي يروي الحكايات".
وأكد أن الأوضاع النفسية لهؤلاء الأطفال تنذر بكارثة مستقبلية، إذ تظهر مؤشرات عالية للاضطرابات السلوكية والاكتئاب الحاد بينهم، بينما تغيب منظومة الرعاية الكاملة.
وأوضح الشوا أن مراكز الأيتام القليلة في غزة تعمل تحت القصف، ولا تملك إلا الفتات مما كان متاحًا قبل الحرب، ومع ذلك يتدفق إليها يوميًا عشرات الأطفال الذين فقدوا أسرهم بالكامل.
ويختتم بقوله: "من ينقذ هؤلاء؟ هل نتركهم فريسة للألم والجوع والضياع؟ المسؤولية لم تعد فقط فلسطينية، بل إنسانية وأخلاقية بالدرجة الأولى".
طوابير الجوع
من جهته، يؤكد نضال جرادة، المدير التنفيذي لمعهد الأمل للأيتام في غزة، أن الأيتام يواجهون المجاعة بشكل مباشر. يقول: "الطفل اليتيم بدل أن يكون في ظل حياة كريمة، يقف في طابور طويل فقط من أجل رغيف خبز أو زجاجة مياه، وقد يعود فارغ اليدين".
ويضيف جرادة: "لدينا أطفال ينامون دون تناول وجبة عشاء، وآخرون يستيقظون ولا يجدون شيئًا يفطرون عليه. الواقع لا يُطاق، والخطر يزداد كل يوم".
ويشير إلى أن المؤسسات الداعمة تكاد تنهار، فمع انقطاع التمويل والاستهداف المباشر، باتت قدراتها شبه معدومة، موضحًا أن المساعدات التي تصل لا تكفي حتى لعشرة بالمئة من المحتاجين.
واختتم بقوله: "في غزة، لم يعد اليتيم فقط من فقد والديه، بل كل طفل فقد طفولته، ومدرسته، وغذاءه، وحلمه، وحتى ملامحه البريئة".