إبراهيم برسي - 9 يناير 2025
لم أكن أهتم كثيرًا لشأن “الشيالين”.
لولا تعليقات تاج السر الملك الفلسفية الطريفة عنهم، التي جعلتني أرى “رقصة الضوء والظل ولادة الصوت”.
كان إذا أمطرت السماء، يتساءل:
“أسّي الشيالين ديل يكونوا عاملين كيف مع المطرة دي؟”
هم، في نظري، كانوا دائمًا هناك، خلف الأضواء، خلف الأصوات.
كأنهم تفاصيل صغيرة في لوحة كبيرة، غير مرئية للعين، لكنها تمسك بخيوط التوازن كله.
جملة تاج السر العابرة هذه كشفت لي عن عالم لم أنتبه له من قبل.
عالم لا يُرى إلا حين ينحسر وهج الضوء عن خشبة غامضة الملامح.
أو مسرح مفتعل، حيث يتشابك فيه التراب مع الخشب في انحناءة واحدة.
هناك يقف “الشيالون”، متأهبين كأعمدة مشدودة بين الأرض والسماء؛ بين الحضور والغياب.
وجوههم ليست سوى أقنعة تتوهج بلمعان موارب غريب، كأنها تتأرجح بين التواضع القسري والكبرياء المكسور.
كأنها تصرخ بما لا يُقال:
“لو لم نكن هنا، لما اكتمل وهج النجم في الضوء.
لكن الظلال التي نحياها تمنحنا دائمًا مرارة عدم الاكتمال.”
يحملون أجسادهم كأطياف.
تارة ثابتة كأنها أحجار صامدة.
وتارة تتمايل كأغصان تهتز في موجات ريح لا تُرى.
ريح تحمل معها أصداء أرواحهم المتعبة.
لا أحد يلاحظهم حقًا.
لكن وجودهم ينسج المشهد بأكمله.
حين تبدأ الأغنية، تنبعث أول زفرة موسيقية من الفنان:
“الجننني!”
كأنها نداء حياة يخترق الصمت.
يتراجع “الشيالون” خطوة إلى الوراء، يرددون:
“الجننني، الجننني… خلاني أغني”، “الجنننيييييييييييييي!”
بأصوات تتسع كدوائر في ماء ساكن.
فتمنح الكلمة معنى جديدًا.
كأنها وُلدت من جديد بين حناجرهم.
هذا التراجع ليس هروبًا، بل هو إعادة خلق للمشهد.
في تلك الخطوة الصغيرة إلى الوراء، يتحول “الشيالون” من حضور مركزي إلى ظلال تحتضن الضوء.
من أبطال إلى نسيج خلفي يجعل اللوحة ممكنة.
الظل هنا ليس عدوًا للضوء؛ بل شريكه الخفي، الكيان الذي يمنحه حدوده ومعناه.
هم يدركون، دون أن ينطقوا، أن وجودهم ليس في الضوء المرئي.
بل في الظل الذي يحدد أبعاده.
الفنان “يعلو بصوته”، يشتعل في وهجه.
فيتفاعل الجمهور معه بعاصفة من التصفيق والانفعال.
فينحسر الضوء عن “الشيالين”.
يتملكهم شعور متناقض.
خليط من الحب للفنان، إعجاب بأدائه، وغيرة خفية تحاول أن تنكر نفسها.
يرغبون في الضوء.
في أن يكونوا هناك، حيث تقف الأعين، بعيدًا عن الظل الذي خُصّوا به.
لكنه في ذات الوقت، هو الظل الذي يمنحهم هويتهم.
في أعماقهم، يعرفون أنهم هم من يمنحون صوت الفنان صدى الحياة.
يلتقطونه كنبضة، يكررونه كارتداد لا ينتهي.
لكن هذا الإدراك لا ينزع عنهم شعور المرارة.
ذلك الشعور بأنهم دائمًا خارج بؤرة السطوع.
كأنهم يطوفون حول وهج الحقيقة دون أن يُسمح لهم بالدخول.
مغلوبين على أمرهم، مكتفين بالدوران في مدارات الشك والتمني.
لكن ثمة فصول أخرى في هذه الرقصة.
حدثني المهندس الصادق ديلون، أو في رواية اخري: الصادق جالون، بلهجة ناقدة لا تخلو من الامتعاض، عن تجربة بعض “الشيالين” الذين لجأوا إلى “الكسرة” لتخفيف حدة أغاني الحماسة.
قال لي:
“ديل قالوا: غناء الحماسة ده حار شديد.
لازم نخففه بشوية كسرة.”
ثم أردف:
“كيف يمكن لفن مثل هذا أن تتسرب إليه ألوان قوس قزح؟
الحماسة كانت لونًا واحدًا، صافيًا كالنار.
كيف تجرؤ الظلال على مد يدها نحو الضوء، وهي تعلم أن طبيعتها قد تُمحى في وهجه؟”
هذه الفكرة، رغم اعتراض الصادق، تحولت إلى رمز لأداء بعض “الشيالين”.
كأنهم خرجوا من أدوارهم المحددة ليضيفوا شيئًا شخصيًا.
شيئًا يجعلهم أكثر من مجرد ظلال.
لكن في الوقت ذاته، يُدخلهم في مواجهة مع ذاتهم.
“في عالم لا يعترف بالحدود، يصبح الضوء والظل لعبة متبادلة.
واحدة تُظهر الأخرى، لكنها لا تذيبها.
كل ضوء يحلم بظل يحدده.
وكل ظل يتمنى وهجًا يُخرجه من فناء الصمت.
في هذه الرقصة الكونية، لا منتصر، بل دائرة أبدية من الفقد والرغبة.”
في جانب آخر من هذه الحكاية، حدثني كمال قسم الله عن تجربة مختلفة تمامًا.
كان ذلك في شبابه، في حفلة عرس، حيث تخلف أحد “الشيالين”.
وكان هو المرشح الوحيد لأداء هذا الدور.
رفض العرض بشدة، وأصر على موقفه.
لكن المحرضين لجأوا إلى حيلة “الشري البارد” – نوع من الخمور التي تسكن الجسد لكنها تزلزل الروح.
كانت هذه الحيلة متبوعة بحلف العريس بالطلاق.
قال لي:
“في البداية قاومت.
قلت لهم إني لا أحفظ الأغنية.
لكنهم ردوا: بأن المقطع سهل جدًا.
ما عليك إلا تردد: “كُل ما تَهِب طَرَاوة… نارنا تزيد غَلاوة.”
ضحك كمال ساخرًا وهو يروي لي القصة.
ليس فقط من بساطة الكلمات، بل من نفسه آنذاك.
في النهاية، استسلم.
اكتشف أن “الشري البااااااااارد” لم يترك له خيارًا.
قالها، ورددها، وشعر بنشوة غريبة كأنها انتصار مؤقت.
نشوة تلامس الكبرياء وتترك وراءها مرارة الظلال.
صار يتحرك مع زميله الشيّال الآخر بإيقاعات متقاطعة.
يبتكران الحركات، كأنهما راقصان في مهرجان صامت.
يدوران حول نفس العبارة: “كُل ما تَهِب طَرَاوة… نارنا تزيد غَلاوة.”
مُحدثين سيمفونية عبثية لا يسمعها إلا من غاص في ذلك العالم الضبابي بين الحضور والغياب.
“كل ظل يحمل معه ندبة من الضوء الذي تركه.
لكن تلك الندبة، برغم مرارتها، تبقى الدافع الذي يحركه نحو الأمام.
فحتى الظل يرقص، لأنه يعلم أن السكون يعني الموت.”
لكن “الشيالون” في داخلهم، هناك شيء آخر.
رقصة لا تراها العيون، مليئة بأسئلة لا إجابات لها:
“هل نحن هنا لأنفسنا؟
أم لأننا ضرورة تكمل المشهد؟
هل يمكن أن نصبح أكثر من مجرد ظلال خلف الضوء؟”
هذه الأسئلة تهدر داخلهم مع كل نبضة إيقاع.
تتصارع مع لحظات النشوة الوهمية التي يمنحها التصفيق.
يتوقف الفنان لحظة ليضيف:
“خلاني أغني.”
يرددون:
“الجنننييييييي” مرة واحدة، كأنهم يضعون نقطة في نهاية الجملة.
يختتمون دورة كاملة من المعنى.
هذا التبادل بين الفنان و”الشيالين” هو أكثر من مجرد لعبة صوتية.
إنه طقس وجودي.
رقصة كونية حيث الفرد والجماعة يذوبان في بعضهما البعض.
الفنان يمنحهم الكلمة.
لكنهم يعيدونها له أكثر عمقًا، أكثر صدقًا.
كأنها اكتسبت طبقات من المعنى أثناء عبورها حناجرهم.
وفي لحظة الصمت الأخيرة، حين تخفت الأصوات وتنطفئ الأضواء، ينسحب “الشيالين” كما جاءوا.
كأنهم لم يكونوا هنا أبدًا.
لكن صداهم يبقى.
عالقاً في الهواء، يمتزج مع الغبار، يروي أن هذه الرقصة – رقصة الضوء والظل – هي صراع أبدي.
لأن الظل، حتى وهو يتراجع، هو الذي يجعل الضوء ممكناً.
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
يقرأ أسرارك من بُعد ميل .. الصين تطوّر نظاماً بصرياً مذهلاً
#سواليف
في #خطوة_تكنولوجية_رائدة، أعلن فريق من #العلماء_الصينيين عن #تطوير #نظام_بصري_متقدم يعتمد على #تقنية_الليزر، قادر على قراءة نصوص صغيرة جداً بحجم بذرة السمسم من مسافة تقارب الميل (1.6 كيلومتر)، ويُتوقع أن تُحدث هذه التقنية ثورة في مجالات عدة مثل علم الآثار، المراقبة البيئية، والأمن.
ويعتمد النظام الجديد على ما يُعرف بـ”تداخل شدة الضوء النشط”، وهي تقنية تتيح إعادة بناء صور عالية الدقة من خلال تحليل سلوك الضوء المنعكس عن الأسطح، بدلاً من الاعتماد على الصورة المرئية وحدها، وفقا لـ sustainability-times.
ويستخدم النظام ثمانية حزم ليزر بالأشعة تحت الحمراء موجهة نحو الهدف، حيث يتم التقاط الضوء المنعكس بواسطة تلسكوبين موضوعين في موقعين مختلفين، ثم تتم معالجة الإشارات عبر خوارزميات حاسوبية لاستعادة التفاصيل الدقيقة للسطح، بما فيها النصوص الصغيرة التي لا تتجاوز ثلاثة مليمترات.
مقالات ذات صلةوأشار الباحثون إلى أن النظام يحقق تفوقاً كبيراً على الأجهزة البصرية التقليدية، التي لا يمكنها تمييز سوى تفاصيل لا تقل عن 4 سنتيمترات من نفس المسافة. ومع ذلك، لا تخلو التقنية من التحديات، مثل الحاجة إلى محاذاة دقيقة بين الليزر والتلسكوبات، وضرورة وجود خط رؤية مباشر وإضاءة الهدف بشكل نشط، مما قد يحد من استخدامها في بعض المهام الأمنية السرية.
ويعمل الفريق حالياً على تحسين أداء النظام عبر تطوير آليات تحكم أكثر دقة في الليزر، واستخدام خوارزميات ذكاء اصطناعي لرفع دقة المعالجة.
ويأمل الباحثون أن تؤدي هذه التحسينات إلى توسيع نطاق استخدام التقنية، لتشمل مجالات جديدة مثل تشخيص الحالات الصحية عن بُعد، وفحص الهياكل في مواقع البناء، إضافة إلى مراقبة المواقع الأثرية دون المساس بها.
وقد نُشرت تفاصيل البحث في مجلة Physical Review Letters، في خطوة تعكس التقدم المتسارع الذي تحققه الصين في تقنيات الاستشعار البصري والتصوير عن بُعد، وتثير في الوقت نفسه تساؤلات حول الضوابط الأخلاقية والخصوصية في حال توسيع استخدام مثل هذه الأنظمة في الحياة المدنية.
تُعد ظاهرة التداخل الضوئي من المبادئ الأساسية في علم البصريات، حيث تتراكب موجتان ضوئيتان أو أكثر لتكوين نمط من المناطق المضيئة والمعتمة نتيجة لتداخل القمم والقيعان، في الأنظمة التقليدية، يعتمد هذا التداخل على مصادر ضوء متماسكة مثل الليزر، أما في التداخل النشط، فيتم التحكم بشدة الضوء وطور الموجة باستخدام عناصر إلكترونية أو ضوئية فعالة، مثل المضاخمات البصرية أو مبدلات الطور.
يُستخدم التداخل النشط في تطبيقات دقيقة، مثل أنظمة الاتصالات الليزرية، وأجهزة الاستشعار عالية الحساسية، ومجسات التداخل في الألياف البصرية. وتتيح هذه التقنية التحكم الديناميكي في نمط التداخل، مما يُعزز من دقته وكفاءته.
يُعد تداخل شدة الضوء النشط مجالاً متطوراً في الفيزياء التطبيقية، ويشهد تطوراً مستمراً بفضل التقدم في تقنيات التحكم البصري والمواد الذكية. ومن المتوقع أن يسهم بشكل كبير في تطوير أنظمة القياس والتحكم البصري في المستقبل.