لجريدة عمان:
2025-08-02@19:15:44 GMT

ذكرى سقوط زنجبار.. دروس وعبر

تاريخ النشر: 18th, January 2025 GMT

في الذكرى الحادية والستين لسقوط زنجبار وانتهاء الحكم العُماني لها التي وافقتْ الأسبوع الماضي يتساءل المرء في قرارة نفسه: ماذا لو كان النقل المباشر للأحداث في القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي منتشرًا بكثافة في الثاني عشر من يناير 1964 كما هو اليوم؟

ماذا لو أننا شاهدنا مذبحة العُمانيين هناك كما نشاهد اليوم مذبحة أهلنا في غزة على الهواء مباشرة؟ هل كانت أشياء كثيرة ستتغير؟ هل كان محمد فايق؛ المسؤول عن الملف الإفريقي في مصر سيمتنع عن إيقاظ جمال الناصر لإخباره برسالة أحمد اللمكي؛ سفير زنجبار في القاهرة الذي طلب إبلاغ الزعيم الكبير بالنبأ، بحجة أن القضية لا تستحق إقلاق نوم عبدالناصر؟ وهل كان الزعيم المصري سيصدّق وهو يرى القتلى العرب في كل حدب وصوب زعْم مستشاره أن هذه ثورة أهل البلاد الأصليين ضد الغريب الذي يحكمهم! وليست انقلابًا؟ وأن مطالب «الثائرين» اجتماعية وليست أكثر من ذلك؟ كثير من هذه الأسئلة دارت في رأسي وأنا أستحضر في داخلي أن نظرية «ماذا لو» هذه، هي التي تعيد كتابة التاريخ من جديد.

الفرق بين الحرب وجرائم الإبادة التي تجري اليوم في غزة، ونظيراتها قبل ستين عاما هو في النقل المباشر؛ فرغم أن مذبحة العُمانيين وثّقها مصوّر إيطالي في فيديو بالصوت والصورة، إلا أن هذا الفيديو ظلّ حبيس الأدراج ما لا يقل عن ثلاثين سنة، قبل أن يراه العالم أجمع، ويشهد على مذبحة وصفها الباحث العُماني ناصر الريامي في كتابه «زنجبار شخصيات وأحداث» بأنها «من أسوأ مذابح القرن العشرين»، فقد راح ضحيتها آلاف العُمانيين، الذي جرى قتلهم على الهُوية، ونُهبتْ بيوتهم ومزارعهم ومتاجرهم.

هذه الذكرى الجديدة لسقوط زنجبار تحمل هذا العام طعما مختلفا؛ لأنها تأتي للمرة الأولى من دون وجود سلطان زنجبار على قيد الحياة، فقد رحل السلطان جمشيد بن عبدالله؛ آخر سلطان عُماني في زنجبار قبل ثلاثة أسابيع فقط (في 30 ديسمبر 2024)، بعد أن قضى سنواته الأخيرة هنا في مسقط، وكان قد قضى ما يزيد على نصف قرن من حياته في منفاه في بريطانيا.

والمفارقة أنه رغم هذا العمر المديد الذي تجاوز خمسة وتسعين عامًا، لم يُقيَّض له أن يحكم زنجبار كدولة مستقلة إلا ثلاثة وثلاثين يومًا فقط، وقد روى عنه الريامي في كتابه (وكان قد أجرى معه مقابلة شخصية في منفاه البريطاني عام 2006) أنه كان لديه حدس قويّ وهو يغادر زنجبار على متن باخرة أن ذلك هو خروجه الأخير منها، وأنه حين كان ينظر من الباخرة إلى قصر الحكم الذي بناه جدّه السيد سعيد بن سلطان تولد لديه إحساس أن تلك كانت آخر نظرة له لذلك القصر.

أذكر أنني قبل أحد عشر عامًا خصصتُ حلقة كاملة مدتها ساعة من البرنامج الإذاعي «المشهد الثقافي» بمناسبة الذكرى الخمسين لسقوط زنجبار، واستضفتُ فيها في الاستوديو الزميل الكاتب زاهر المحروقي، الذي كان -ولا يزال- من أكثر من يكتب عن الوجود العُماني في شرق إفريقيا، وسرد لي أن المقدمات الحقيقية لما حدث كانت قبل ثلاث سنوات من سقوط زنجبار، وتحديدًا في عام 1961، في الانتخابات البرلمانية التي أجريتْ في زنجبار ذلك العام، حيث ارتكب الحزب الأفروشيرازي المناهض للوجود العماني والعربي في زنجبار جرائم قتل أدت إلى انتشار الفوضى في الجزيرة، وكأنها كانت «بروفة» لما سيحدث بعد ثلاث سنوات.

أما ماذا حدث في الثاني عشر من يناير من عام 1964 فقد عاد زاهر بالأحداث عدة أيام إلى الوراء، تقريبا ليلة الثامن من يناير أو التاسع منه، حين انتشرت شائعات في جزيرة زنجبار أنّ الأفارقة المناوئين للعرب يدبّرون أمرًا ما بترتيب من الحزب الأفروشيرازي، وقد أحسَّ العُمانيون أنّ شيئًا ما سيحدث كما حدث في عام 1961، فالتزموا بيوتهم ومزارعهم. وهنا يوجِّه زاهر إصبع الاتهام -كما كثيرين- إلى المؤامرة البريطانية، فكل ما حدث كان بتحريض عملاء بريطانيا على العُمانيين الذين اتهمهم هؤلاء العُملاء باستعباد الأفارقة واغتصاب الحكم منهم، متناسين أن السلطان جمشيد وأباه وجدّه ولدوا أصلًا في زنجبار وترعرعوا فيها، فهم زنجباريّون أبا عن جد، وليسوا غزاة كما هم البريطانيون. عدا ذلك، فإنه قبل الأحداث بقليل استبعد قائد الشرطة الإنجليزي في زنجبار نوابه من العُمانيين، ونقلهم إلى أماكن نائية، منها جزيرة بيمبا (الجزيرة الخضراء)، ومنهم بالذات نائب قائد الشرطة، ثم أغلق عنهم مخازن الأسلحة ومنعهم من التحرك، لأنه كان على علم أنّ شيئًا ما سيحدث في ذلك اليوم بالذات. هناك روايات تقول إنه حدث إطلاق نار مساء السبت (الحادي عشر من يناير)، ولكن الأمور هدأت في تلك الليلة، وتوهم الناس أنها مجرد مناوشات. غير أنه في صبيحة يوم الأحد 12 يناير 1964 وقعت المجزرة، وسقطتْ زنجبار.

وإذا كنّا نستعيد هذه الذكرى كل عام بكثير من الحزن والأسى فإنه لا ينبغي أن تكون مجرد استعادة لألم الماضي، بل فرصة للتعلم وبناء مستقبل أقوى وأكثر استقرارًا، حيث يصبح التاريخ درسًا للأجيال القادمة في كيفية الحفاظ على التاريخ المجيد ومنجزاته. ومن أهم هذه الدروس التي نتعلمها مما حدث عام 1964 أهمية الوعي بالتحولات السياسية، فقد رأينا كيف كانت قراءة الحكومة العُمانية للواقع السياسي في زنجبار في ذلك الوقت ضعيفة، ولم يكن لديها الاستعداد المفترض لمواجهة التحديات المتصاعدة. كما نتعلم أيضًا أهمية التوثيق وحفظ التاريخ، فقد ترك الإهمال في توثيق التاريخ العُماني في زنجبار، وفي شرق إفريقيا بشكل عام، مجالًا لتشويه الحقائق، والافتراء على العُمانيين ودورهم المهم هناك. وأظن هذا ما انتبه له في السنوات الأخيرة باحثون وشهود عيان ممن عاشوا تلك الحقبة وعايشوها في زنجبار وشرق أفريقيا، وقد بدأتُ شهادات هؤلاء المتأخرة وكتبهم عن هذه المرحلة تتوالى ولله الحمد، وأن تبدأ متأخرًا خيرٌ من ألا تبدأ أبدًا.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الع مانیین فی زنجبار الع مانی من ینایر ما حدث

إقرأ أيضاً:

كيف أصبحت المقاومة البديل الذي لا يُهزم؟

أمام الهزائم العسكرية والسياسية للأنظمة العربية، كانت الشعوب العربية تفرز أدواتها في المواجهة. فمنذ ثلاثينيات القرن العشرين تحولت القضية الفلسطينية من رخاوة الأنظمة إلى صلابة التنظيمات.

ففي المواجهة لم تسقط الزعامات والأيديولوجيات فقط، بل سقطت أيضا الجيوش النظامية ومعها سقط دورها في التحرير. وخلف عجز الأنظمة كانت تتراءى حماسة الشعوب. وخلف ضعف الجيوش كانت تبرز جسارة القوى الضاربة.

فكأن التنظيمات السياسية والأيديولوجية قد جاءت لملء الفراغ. فقد أحيت نكبة 1948 في الأمة مفهوم الجهاد. وحررت هزيمة 1967 المبادرة الشعبية وأيقظت مفهوم التحرير. وفجرت معاهدة كامب ديفيد 1978 حركات المقاومة مع بداية الثمانينيات. وعلى طول تاريخ القضية الفلسطينية، كانت تتعايش أطروحتان: واحدة للمقاومة، وأخرى للسلام.

النكبة

لقد وجدت الجامعة العربية نفسها بعد بضع سنوات من تأسيسها أمام أصعب اختبار لها: القضية الفلسطينية. لم يكن تأسيسها من أجل تحرير فلسطين، بل كان محاولة بريطانية لتجاوز ضغائن الخديعة البريطانية للشريف حسين.

فكان ميلاد الجامعة تعويضا عن دولة الوحدة بوجهيها القومي والإسلامي. ومن ثم لم تكن فلسطين على جدول أعمال تلك المنظمة الإقليمية الناشئة. ولا شك في أن عجز المنظمة وأنظمتها على معالجة المسألة منذ بواكيرها قد دفع نحو تدويل القضية. فكان قرار التقسيم نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 حجر الأساس للكيان الغاصب. لتندلع بعده إحدى أعتى المواجهات.

قررت الحكومات العربية في اجتماع "العالية" 1947 أن تكوّن فصيلا شبابيا حسن التدريب والأداء. وتولت جامعة الدول العربية تأسيس "جيش الإنقاذ" بقيادة فوزي القاوقجي. ولكن الضغط البريطاني كان كفيلا بإسقاط ذلك المشروع. وهو المصير نفسه الذي لقيته لجنتهم العسكرية بقيادة "طه الهاشمي" واللواء إسماعيل صفوت باشا.

إعلان

وحتى النجاحات التي حققتها تلك الجيوش في الجولات الأولى للصراع ذهبت أدراج الرياح بفعل المناورات الغربية (الهدنة الأولى والثانية). فكانت نكبة 1948 فاتحة الهزائم العربية. إذ لم تكن الحكومات العربية في حجم القضية.

فما بين العجز الذاتي والارتهان للقرار البريطاني والخيانة الصريحة، كانت الحكومات العربية تُسقط من حسابها أي مواجهة جدية للأطماع الصهيونية في فلسطين، وتتنصل من مسؤولياتها القومية والإسلامية.

فقد خضعت أغلب الحكومات العربية لإرادة الغزاة. وظلت "تستجدي الحلول من القوى الإمبريالية التي كانت ولا تزال تشكل رأس حربة في أزمة القضية الفلسطينية".

ففلسطين لم تكن "المحرك الرئيسي لسياسات الدول العربية، بل كان الدافع وما يزال هو تأمين الأنظمة الحاكمة في الدول الوطنية في مرحلة ما بعد الاستعمار". وتلك الحسابات كانت السبب المباشر في تأخير الاستجابة لداعي الجهاد في فلسطين.

التنظيمات الشعبية ونقد الدولة

أمام عجز الأنظمة العربية كانت التنظيمات قبل النكبة وبعدها تدخل على خط الصراع. فكتب ميشال عفلق سنة 1946 يقول: "لا ينتظر العرب ظهور المعجزة: فلسطين لا تنقذها الحكومات بل العمل الشعبي". وساد اعتقاد لدى حسن البنا أن الأنظمة العربية ليست جادة في مقاومة الاحتلال.

وأكد كامل الشريف "أنه لا خير يرجى في هذه الحكومات". فالعوائق أو "المصائب" أو "العبث" الذي يجد ترجمته في فساد أنظمة الحكم القائمة، وهيمنة الاستبداد السياسي، واختلاف الدول العربية فيما بينها… كل تلك العوامل في تضافرها كانت "كافية لإيقاع الهزيمة".

وقد كان نقد الموقف العربي الرسمي من القضية الفلسطينية مقدمة لسحب القضية من الأنظمة ووضعها بين أيادي الفعاليات الشعبية المدنية والعسكرية. ففي فلسطين بادرت "الهيئة العربية العليا" برئاسة الحاج أمين الحسيني بتشكيل قوات "الجهاد المقدس" بقيادة عبدالقادر الحسيني.

وخلال الأشهر الخمسة الأولى للحرب تمكنت تلك القوات من تكبيد العصابات الصهيونية خسائر فادحة. ولكن مع دخول جيوش الدول العربية فلسطين 15 مايو/ أيار 1948 "ظهرت سياسة إقصاء الفلسطينيين عن ميادين المعركة ومنع الأموال والأسلحة عنهم".

وقد جاء تقرير عبدالقادر الحسيني للجامعة العربية في أبريل/ نيسان 1948 يقطر مرارة وأسى بسبب خذلان لجنتها العسكرية التي ماطلت في إمداده بالمال والسلاح. وفي ذلك التقرير حمّل الجامعة مسؤولية ضياع فلسطين. ليستشهد بعدها بيومين في معركة القسطل.

أما عربيا فقد زحف المتطوعون العرب نحو فلسطين. وبرزت في الأثناء كتائب الإخوان المسلمين كقوة وازنة في الصراع. فرغم تضييق السلطات، نجحت طلائع الإخوان في التسلل إلى داخل فلسطين، حيث تمكنت قوة من المتطوعين بقيادة أحمد عبدالعزيز من الوصول إلى خان يونس. والتحقت بهم قوة أخرى من شرق الأردن بقيادة عبداللطيف أبوقورة. ثم حلت قوة أخرى من سوريا بقيادة زعيم الإخوان مصطفى السباعي.

وفي غزة استقرّت قوة البكباشي عبدالجواد طبالة. وعلى أرض فلسطين أدارت تلك الطلائع معارك ضارية ضد العصابات الصهيونية. وقد علق هيكل على تلك الاشتباكات بالقول: "لقد أثبت بعضهم نفسه تحت نيران القتال". وهكذا فقد كانت الجماهير العربية خلال النكبة متقدمة على حكامها.

إعلان النكسة

لقد أجهزت قوات الاحتلال في صباح الخامس من يونيو/ حزيران على القوات الجوية المصرية بضربة خاطفة. فدمرت مئات الطائرات المصرية في قواعدها. وضربت المطارات وعطلت قواعد الصواريخ أرض-جو.

مشهد أجمله أنور عبدالملك في قوله: "كانت القوات المصرية المسلحة قد ضُربت بشكل خطير، واحتلت سيناء، وشلت قناة السويس، ومُحي سلاح الطيران عمليا كوحدة مقاتلة، وتفجرت أعمال الخيانة والإجرام والتآمر، وانتشرت في كل مكان". كل ذلك في سويعات معدودات. وبإخراج القوات الجوية المصرية من الخدمة، فقد تركت بقية القوات في العراء من دون أي غطاء جوي.

وجاء قرار الانسحاب غير المدروس من سيناء ليزيد من الكلفة البشرية للهزيمة. ومع انهيار الدرع الواقي الذي كان يحمي عمق الأمة، فقد أصبح عمق الجغرافيا العربية – فضلا عن أطرافه- مهددا. فزحفت قوات العدو نحو سيناء بعد أن دمرت بقية القوات المسلحة المصرية.

واندفعت نحو الضفة الغربية فاحتلتها واستولت على القدس الشرقية بعد أن انهارت الدفاعات الأردنية في اليوم التالي. وكذلك فعلت في قطاع غزة. أما القوات التي اتجهت نحو سوريا فقد "تمكنت من احتلال مرتفعات الجولان دون مواجهة أي مقاومة تتناسب مع القوات العسكرية الضاربة المحتشدة هناك".

ولم تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن أحكمت قوات الاحتلال سيطرتها على مساحات جديدة. وحسبنا من القراءات لتلك الكارثة المدمرة وصف هشام شرابي للهزيمة بـ "أيام حزيران السوداء". فكيف انعكست الهزيمة على الاختيارات النضالية للفلسطينيين؟

مثلت هزيمة 1967 منعطفا إستراتيجيا في الوعي السياسي الفلسطيني. وكان من نتائج الهزيمة "ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة وتعاظمها، وبروز الهوية الوطنية الفلسطينية التي قررت أن تأخذ زمام المبادرة بعد أن تبين لها مدى الضعف العربي". فقد قضت الهزيمة على إيمان الفلسطينيين بالحكومات "التقدمية" التي كانت معقد الآمال. "وأثبتت فشل الأنظمة العربية وعجزها عن تحرير فلسطين".

وينقل يزيد صايغ عن خليل الوزير أنه كان يرفض "الاعتماد على الدول العربية وجيوشها". وهكذا فقد ساعدت تلك البيئة على الاعتراف بالحركة الوطنية الفلسطينية كلاعب أساسي في الشرق الأوسط.

ويحسب للحركة أنها نجحت في "فرض نفسها كمعبرة عن الطموحات الوطنية للشعب العربي الفلسطيني". وهو ما أسهم في تشكيل الرؤى السياسية والميدانية للمنظمة. ففي المستوى الأيديولوجي قلبت حركة فتح ذلك الشعار الذي لطالما تغنى به القوميون العرب "الوحدة طريق فلسطين" إلى شعار "فلسطين طريق الوحدة". شعار ستتأسس عليه الكثير من التحولات التكتيكية والإستراتيجية. ومنذ أن استعادت منظمة التحرير المبادرة، اختارت الاستقلال السياسي والتنظيمي عن الجامعة العربية وأنظمتها.

وأما ميدانيا فقد بدأ مفهوم العمل الفدائي يتبلور كبديل من الحروب النظامية. وعلى تلك القاعدة كانت انطلاقة الثورة الفلسطينية مطلع 1965. وساد إجماع لدى أغلب الفصائل الفلسطينية مفاده أن تحرير الأرض لا يكون إلا عبر الكفاح المسلح. وهو المضمون المركزي الذي تبناه "الميثاق الوطني الفلسطيني".

وتفجرت سجالات سياسية حول نظرية التحرر الوطني من خلال دراسة النظريات الثورية وتجارب الشعوب المستعمرة. وهو ما أنتج مجموعة من الأدبيات دارت أغلبها حول حرب الشعب، وحرب التحرير الشعبية وغيرها.

وفي ضوء تلك الأدبيات جرى تأسيس عدة قواعد للعمل الفدائي في أغلب دول الطوق. وكانت ملحمة الكرامة 1968 ترجمة عملية لتلك التوجهات الجديدة. وهو ما زاد في ترسيخ النهج المقاوم حتى أصبح "الكفاح المسلح مصدر الشرعية السياسية ورمز الهوية الوطنية، والمادة الجديدة للمجتمع الفلسطيني المتخيل".

والحقيقة أن الأداء الفصائلي بعد الهزيمة لم يقطع الصلة تماما مع الأنظمة الراديكالية. فغالبا ما كانت التصورات الثورية تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي تمر بها الأنظمة. ولكن رياح يونيو/ حزيران بقدر ما أذكت نار الاستنزاف، فقد هيأت للعبور.

إعلان حرب العبور

لقد عرفت مصر بعد وفاة عبدالناصر تحولات سياسية مهمة. فالمناخات الراديكالية في مصر والعالم العربي بدأت في الضمور لصالح اتجاه عربي ميّال إلى "الاعتدال" في مقاربة الصراع. وكانت القناعة الحاصلة لدى السادات أن "تدمير الدولة اليهودية هدف غير قابل للتحقيق". وفي تلك السياقات لم تكن حرب العبور إلا عملية جراحية القصد منها الإعداد لمسرح التسوية.

مثلت حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 أول انتصار مصري على قوات الاحتلال بعد ثلاثة حروب متتالية. فقد بدأ الهجوم المصري ظهيرة السادس من أكتوبر/ تشرين الأول على مواقع العدو في سيناء قصد تحييدها وحرمانها من أي قدرة على الرد أو الحركة قبل تحقيق العبور إلى شرق القناة. فكان "وقع المفاجأة بنوعيها الإستراتيجية والتكتيكية قد تحقق إلى نهايته".

ومنذ ليلة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عبرت من الجيش المصري نحو شرق القناة خمس فرق مشاة ومئات من الدبابات وعدد من كتائب الصواريخ وأسلحة إسناد أخرى.

استبشر الفلسطينيون بتلك التطورات الميدانية. واعتبرت منظمة التحرير الفلسطينية أن إعلان الحرب على دولة الكيان كان "فرصة عظيمة أمام الفدائيين الفلسطينيين لتصعيد فاعليتهم القتالية".

ولكن العبور لم يعقبه تطوير للهجوم المصري مثلما خُطّط له. فقد جرى الالتفاف على الانتصار المذهل للمصريين بداية الحرب. ومن خلال "الثغرة" التي أحدثها جيش الاحتلال في جدار المواجهة، بدأ في إحراز تفوق ملموس غرب القناة.

وكشفت تلك الأيام الصعبة عن انعدام التناغم بين المؤسسات. فقد أربك تدخل السادات في إدارة المعركة حسابات العسكر. وحكم على حرب العبور ألا تتجاوز خط العبور.

لقد آل النصر إلى لهاث لا ينقطع وراء سراب "السلام". وانتهى تحطيم جدار بارليف 1973 إلى هدم "جدار الكراهية الحديدي" 1977، مثلما كان يتوهّم السادات. فعوض البناء على "العبور" اندفع العرب نحو التسوية.

وقد أدرك كيسنجر مبكرا أن الإجراءات العسكرية التي اتخذها المصريون سوف "تؤدي آجلا أو عاجلا إلى مفاوضات سياسية". والحق أن مآلات العبور لم تكن مثل مآلات النكبتين. فهي لم تدفع إلى السطح بقوى جديدة تتناقض رأسا مع تصورات الأنظمة العربية للقضية.

بل إن كامب ديفيد قد فتحت الباب على مصراعيه نحو التسوية. فهي لم تكن إلا بداية الهرولة العربية نحو الصلح والاعتراف والتفاوض مع دولة الاحتلال.

وهنا تقول حقائق التاريخ إن منظمة التحرير الفلسطينية قد أضحت متماهية مع الرسمية العربية. وإن عرفات لم يكن مختلفا عن السادات. فكلاهما كان ينشد "التسوية". وإن اختلفت التكتيكات والإستراتيجيات.

لقد ظلت الهوة تتسع بين الأنظمة العربية وشعوبها في التعامل مع القضية الفلسطينية. فكلما وهنت الأنظمة قامت الشعوب تنشد التحرير من خلال المقاومة. فمن نكبة 1948 ولدت القوى الشعبية القومية والإسلامية. ومن نكسة 1967 صلب عود منظمة التحرير الفلسطينية.

ولكن حرب العبور كانت فاتحة للتسوية المعممة. تسوية ستستمر مفاعيلها من كامب ديفيد 1977 حتى أوسلو 1993، مرورا بقصر الصنوبر بالجزائر 1989. وردا على مشاريع التسوية كان أسلوب آخر من المقاومة ينضج على مهل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • الصناعة والتجارة بأبين تنفذ نزولاً ميدانياً لضبط الأسعار بمدينتي زنجبار وجعار ..
  • التحالف الذي لم تطأ اقدامه أرض السودان لا يحق له التقرير بشان أهله
  • جيش الإحتلال: اعترضنا الصاروخ الذي أطلق من اليمن
  • كيف تحرك أشباه البشر الأوائل بين الأشجار؟.. دروس من شمبانزي تنزانيا
  • “رونالدو… نجم النصر الذي لا يبتسم للإعلام النصراوي”
  • الرأي العام مغيب عن ذكرى جرائم الانفال
  • المحرّمي: سقوط الحوثيين بات أمراً وشيكاً
  • الوزير الشيباني: نحن في مرحلة إعادة الإعمار بحاجة لجميع الشركاء ونعمل على الاستفادة من دروس الماضي لبناء المستقبل، وشكلنا لجنة لإعادة النظر بالاتفاقات السابقة مع روسيا بما يضمن مصلحة الشعب السوري
  • في ذكرى رحيله.. شهادات مؤثرة من أقارب وأصدقاء إسماعيل الغول
  • كيف أصبحت المقاومة البديل الذي لا يُهزم؟