يحتوي على كنوز الكتب النادرة.. سور الأزبكية أقدم رصيف ثقافى فى مصر والعالم العربى
تاريخ النشر: 25th, January 2025 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
على مدى أكثر من قرن من الزمان يظل سور الأزبكية للكتاب أشهر رصيف ثقافي في مصر والعالم العربي ويبقى مقصدًا لكل المثقفين والمفكرين والأدباء والباحثين عن الكتب النادرة وزهيدة الثمن في نفس الوقت؛ ويحمل السور عبق الماضي ووهج الحاضر. فهو ليس مجرد مكان لبيع الكتب، بل هو معجم حيّ للقراءة حيث يتردد عليه عشاق الكتب من مختلف الأعمار والخلفيات منذ نشأته ليصبح شاهدًا على حكايات ثقافية لا تنتهي.
يتميز سور الأزبكية بجوه الخاص الذي يجمع بين الأصالة والبساطة، إذ تعمل به نخبة من كبار الوراقين والأساتذة الذين يمتلكون شغفاً عميقاً بالكتب ولديهم القدرة على تقييم قيمة الكتاب بمجرد نظرة واحدة، وهم مستعدون دائماً لمساعدة الزوار على اكتشاف الكنوز المخفية بين صفحات الكتب القديمة بجانب أحدث الإصدارات مما يخلق توازناً فريداً يعكس تطور الثقافة وتاريخها. كما أنه ليس فقط سوقاً لبيع الكتب بل فضاءً مفتوحاً للحوار الثقافي والتبادل الفكري.
ركيزة معرفية
في جولة ل«البوابة» التقت الحاج علي الشاعر أحد كبار شيوخ المهنة بسور الأزبكية، والذي عبر عن حكايته مع القراءة بكل صدق؛ ليروي لنا حكاية العمر مع الكتب وسور الأزبكية. قال علي الشاعر: «لأنني شاعر أكتب الشعر وأعشق الكلمة منذ الصغر؛ وأبلغ من العمر ٧٥ عامًا، وأمارس مهنة بيع الكتب منذ أكثر من نصف قرن وبدأت رحلتي مع الكلمة في الكتاب، حيث تعلمت وحفظت قصص الأنبياء ومن هناك دخلت المدرسة واكتشفت حب القراءة. وكان منزلنا مليئًا بكتب والدي خاصة إصدارات دار الهلال القديمة مما فتح لي عالماً من المعرفة والثقافة. ومارست مهنتي على مدار ٥٥ عامًا في قلب سور الأزبكية هذا الصرح الثقافي العريق الذي تأسس بين عامي ١٩٠٦ و١٩٠٧ في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني».
حيث مر السور بأحداث وتغيرات كبرى وكان قد شهد عهود السلاطين والخديوية وملوك ورؤساء مثل محمد نجيب، جمال عبد الناصر، السادات، حسني مبارك، وعدلي منصور، وصولًا إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي.
ورغم هذه التحولات بقي السور صامدًا وإن كان ينتقل أحيانًا بسبب تجديد محطة المترو. واليوم نستعد لانتقال جديد خلال الأشهر المقبلة.
وأضاف سور الأزبكية هو ذاكرة حية تضم آلاف الكتب التي تمثل مختلف العصور والتيارات الفكرية تجد فيه كتبًا نادرة تتجاوز أعمارها مئة عام مثل إصدارات أنيس منصور، يوسف السباعي، ونجيب محفوظ، إضافة إلى كتب التراث وأمهات الكتب الدينية التي شهدت نهضة كبيرة في القراءة بعد نكسة ١٩٦٧.
واستكمل الحاج علي؛ هنا يتردد علينا الجميع من الأطفال والطلاب إلى الباحثين الأدباء وحتى الرؤساء فالرئيس السادات نفسه زار السور في الثلاثينيات والأربعينيات عندما كان معتقلًا، كما كان يأتينا عظماء مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ.
وعما يميز سور الأزبكية عن معرض القاهرة الدولي للكتاب يقول على هو استمراريته؛ فبينما يُقام المعرض لفترة محدودة فإن السور متاح على مدار العام؛ وهنا تجد الكتب النادرة التي لا تتوافر في المكتبات الأخرى إلى جانب إصدارات جديدة تُلبّي شغف القراء. كما يمكن أن تجد العدد الأول من صحيفة الأهرام، أو طابعات نادرة مثل هارمن كيدين وموبيل ديك وأيضًا كتب دينية بطبعات قديمة يصعب العثور عليها في أي مكان آخر. بعض الأجانب يشترون الكتب ليس فقط لمحتواها، بل لجمال جلودها القديمة.
وتابع على : سور الأزبكية هو الهرم الرابع كما أحب أن أسميه لما يحمله من تاريخ وثقافة. إنه مكان يستطيع أي مثقف أن يزوره بدلًا من الأهرامات ليجد فيه ثروة معرفية لا تُقدَّر بثمن. وعن رسالته للشباب قال: اقرأوا.. فالقراءة تمنحكم قيمة ومعرفة وتفتح أمامكم عوالم جديدة.
معقل الثقافة
من جهته قال الدكتور أحمد الركابي؛ صاحب إحدى المكتبات بسور الأزبكية: نشأت بين أرفف الكتب وأزقتها في سور الأزبكية، حيث كان والدي جزءًا من هذا العالم وأنا معه منذ طفولتي.وعشت أجواء السور منذ سبعينيات القرن الماضي ورأيت كيف كان وما زال مركزًا ثقافيًا يجذب الزوار من كل مكان. لم يكن السور مجرد مكان لبيع الكتب بل كان ملتقى لرواد الثقافة من العرب والأجانب من سفراء وملحقين ثقافيين إلى الباحثين والصحفيين الكبار أمثال صبري أبو علام حتى الملحق الثقافي الفرنسي كان من بين زواره. وأضاف رغم أن سور الأزبكية تعرض للإزالة ثلاث مرات، إلا أنه صمد كرمز ثقافي خالد وشاهد على تطور الحراك الثقافي في مصر.
كما يقع السور في موقع استراتيجي محاط بالمسرح القومي ودار الأوبرا؛ مما يجعله جزءًا من مثلث ثقافي متكامل، وتخيل أن الروايات التي تعرض في المسرح أو الأوبرا، يمكن أن تجدها مكتوبة بين أيدي الباعة في السور.
وتابع؛ البائعون هنا ليسوا مجرد تجار بل شركاء في البحث والتثقيف يساعدون الباحثين والمثقفين على الوصول إلى كنوز فكرية لا تقدر بثمن. الهيئة العامة للكتاب مشكورة على توفير مساحة للسور في معارضها رغم أننا لسنا جزءًا رسميًا منها. فاهتمامهم بالسور يعكس تقديرهم لما يحمله من تاريخ وثقافةخاصة أن السور يستقبل زوارًا ومفكرين من دول مثل المغرب، الجزائر، تونس، السعودية، وحتى إندونيسيا. كما أن السور ليس مجرد مصدر دخل فحسب بل هو مصدر للإلهام الثقافي. لذا، لدي اقتراح للمسئولين: إذا أردتم تحسين حديقة الأزبكية، اجعلوا الكتب جزءًا منها تخيلوا حديقة الأزبكية وقد أُضيف إليها سور ثقافي ممتد من الكتب، حيث يمكن للزوار التجول بين صفحات المعرفة. بدلًا من الأشجار المفقودة، دعونا نبني جدارية ثقافيًة تعكس صورة مشرفة لمصر أمام العالم. تصوروا حديقة الأزبكية وقد تحولت إلى منتدى ثقافي واسع المدى حيث الثقافة تعرض بطريقة بصرية وجذابة من خلال الكتب. سيكون ذلك مشروعًا رائدًا يعكس قوة مصر الثقافية، ويعيد إحياء الحديقة كمكان نابض بالمعرفة والحياة.
وعن رسالته للأجيال القادمة قال الكتاب ليس مجرد أداة للتسلية بل هو مفتاح لتوسيع آفاقكم وبناء مستقبل مليء بالوعي والمعرفة. سور الأزبكية كان وما زال شاهدًا على أهمية الكتاب فاجعلوا منه بداية لرحلتكم نحو عالم الثقافة والمعرفة.
بدوره قال أدهم عرفة؛ البالغ من العمر ٥٤ عامًا، ويعيش شغفًا خاصًا مع الكتب منذ أكثر من ٢٥ عامًا. خلال سنوات عملي الطويلة، تعاملت مع جميع الفئات العمرية، من الأطفال إلى الكبار، وكل منهم يبحث عن كتاب يحمل قصة جديدة أو معلومة مفيدة.
المثير في تجربة أدهم هو علاقته الوطيدة مع القراء من مختلف الخلفيات، حيث يجد نفسه دائمًا حلقة وصل بين الكلمة المكتوبة وقلوب الناس. والأمر لا يقتصر على القراء العاديين فقط بل امتدت شهرته لتصل إلى العديد من المشاهير الذين وجدوا في كتبه ضالتهم. ومع كل عملية بيع أو توصية بكتاب، يشعر أدهم بسعادة غامرة، وكأن كل كتاب جديد يروي حكاية جديدة له أيضًا.
ويصف أدهم هذا المجال بأنه أكثر من مجرد تجارة؛ إنه وسيلة لنشر المعرفة وحكاية عشق مع الكتب لا تنتهي.
IMG-20250125-WA0009 Screenshot_٢٠٢٥٠١٢٥-١٠١٨٠٧_WhatsApp IMG-20250121-WA0048 ٢٠٢٥٠١٢٠_١١٢٥٤٥ ٢٠٢٥٠١٢٠_١١٢٥٤٣ ٢٠٢٥٠١٢٠_١١٢٥٢٨ ٢٠٢٥٠١٢٠_١١١٠٤٧ ٢٠٢٥٠١٢٠_١١١٠٤٤ ٢٠٢٥٠١٢٠_١١١٠٤١ ٢٠٢٥٠١٢٠_١١١٠٣٠ ٢٠٢٥٠١٢٠_١١١٠٢٥ ٢٠٢٥٠١٢٠_١١١٠٢٢ ٢٠٢٥٠١٢٠_١١١٠٢٠ ٢٠٢٥٠١٢٠_١١١٠١٣ ٢٠٢٥٠١٢٠_١١١٠١٠ ٢٠٢٥٠١٢٠_١١٠٩٤١ ٢٠٢٥٠١٢٠_١١٠٩٣٣ ٢٠٢٥٠١٢٠_١١٠٣٠٤ ٢٠٢٥٠١٢٠_١١٠٢٥١ ٢٠٢٥٠١٢٠_١١٠٢٤٦ ٢٠٢٥٠١٢٠_١١٠٢٤٣المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: سور الازبكية العالم التاريخ سور الأزبکیة أکثر من
إقرأ أيضاً:
كاتب إسرائيلي زار اليمن يروي عجائبها.. وهآرتس تتساءل: من يحمي كنوز البلد في ظل نظام الحوثيين وهجمات إسرائيل؟ (ترجمة خاصة)
في أوائل مايو، قصفت إسرائيل شمال اليمن بعد سقوط صاروخ باليستي أطلقه الحوثيون قرب مطار بن غوريون الدولي، خارج تل أبيب.
بعد الهجوم بوقت قصير، نُشر فيديو على موقع X يُظهر ثلاثة شبان يمنيين في لحظة غضب: كانوا يمضغون القات، ويحملون البنادق، ويرتدون الجلابيب التقليدية مع الجنبية، وهي خنجر قصير معقوف، تُزيّن أحزمتهم.
انتشر الفيديو على نطاق واسع في إسرائيل، مستقطبًا مئات التعليقات، وكثير منها ساخر. كتب مستخدم يُدعى أفيخاي بيليخ: "يبدو الأمر كما لو أن الطائرات حلقت بسرعة هائلة لدرجة أنها عادت بالزمن إلى الوراء وقصفت في القرن السابع".
وأضاف معلق آخر، يُدعى مائير كادمون: "إنهم ينافسون طالبان من حيث الملابس"، بينما أشار لافي آيزنمان: "كان عليّ أن أقنع نفسي بأن هذا ليس فيلمًا مُلوّنًا من عشرينيات القرن الماضي".
خلف هذا المظهر "المبالغ في أصالة المشهد" (في نظر الإسرائيليين)، يكمن دليل حي على ثقافة عريقة، تقليد عريق نجا من ويلات الزمن والحرب. يُلقي الفيديو، دون قصد، الضوء على العمق الثقافي لليمن، بلد مزقته الحروب، لكنه متجذر في تراثه.
يقول الكاتب والصحفي تسور شيزاف: "اليمن على بُعد أقل من ثلاث ساعات طيران من هنا، ولا نعرف عنه إلا القليل. إنه من أكثر البلدان سحرًا، بلد عالق في الزمن، متأخر بعقود عن بقية العالم". في عام 2007، سافر شيزاف إلى اليمن للقاء آخر يهود البلاد.
"هبطتُ في الثالثة فجرًا في مدينة أجنبية. أضاءت أضواء صفراء الطريق. ظهر باب اليمن، البوابة الحجرية الشهيرة لمدينة صنعاء القديمة، على يميني. ثم انزلقت سيارة الأجرة في طريق غائر، أشبه بقناة مائية بجدران على جانبيها. كان قاع الخندق مبللًا، فأشار السائق إلى علامة ارتفاع المياه على الجدران على ارتفاع متر ونصف (5 أقدام).
إنه نوع من طريق أيالون اليمني السريع في وسط المدينة"، كما كتب في مقال نُشر في مجلة "ماسا آخر" (اللغة العبرية) للسفر بعد الرحلة. جلس شيزاف قرب حي السائلة، الذي بناه يهود صنعاء داخل أسوار المدينة القديمة، يرتشف كوبًا من الشاي الساخن.
أمام عينيه، كان الأطفال يسخرون من بعضهم البعض، ويتسابقون في مياه الفيضان، ويقفزون على السيارات البطيئة، ويرمون قصاصات الورق التي جرفتها المياه. كتب: "ما أروع الماء وهو يتدفق عبر المباني المكونة من خمسة وستة طوابق، مبانٍ من الطوب الأحمر بثمانية أو ربما عشرة أنواع من الأقواس، محاطة بالأبيض... نوافذ من الزجاج الملون، وأبواب خشبية منخفضة ذات قوائم ثقيلة وأقفال متينة".
لماذا لا تستطيع إسرائيل والولايات المتحدة هزيمة الحوثيين في اليمن؟ هجوم الحوثيين على مطار إسرائيل الرئيسي يُثير صدىً في العالم العربي.
أدرجت اليونسكو مدينة صنعاء القديمة كموقع للتراث العالمي عام 1986. نفتالي هيلجر، المصور والمحاضر والباحث الثقافي، زار اليمن سبع مرات؛ ويصف مناظرها الطبيعية الخلابة. يقول: "كانت زيارتي الأولى لليمن عام 1987، وكانت الأخيرة قبيل وصول الحوثيين إلى السلطة عام 2014".
ويضيف: "مدينة صنعاء القديمة من أجمل المدن التي رأيتها. مبانيها عمرها حوالي 500 عام، ولا مثيل لها. هندستها المعمارية آسرة: أقواس فوق النوافذ، وزجاج ملون، وزخارف على الجدران، وأسلوب بناء فريد". عندما دخلتُ المدينة القديمة، شعرتُ وكأنني أدخل في نفق زمني. ترى مدينةً تبدو تمامًا كما كانت قبل ألفي عام، لكنها اليوم تنبض بالحياة. الأزقة ضيقة، ولا مكان للسيارات.
إنها ليست موقعًا أثريًا، بل مدينةٌ حية. إنها فرصةٌ نادرةٌ جدًا لرؤية مدينةٍ كهذه. يهتم اليمنيون كثيرًا بمظهر المباني، ولم أرَ مثل هذا الجمال المعماري في أي مكانٍ آخر.
لم يمنع تصنيف اليونسكو للمنطقة السعودية من قصفها عام 2015، خلال حربها مع الحوثيين. يقول هيلجر: "أعلم أن المدينة القديمة لحقت بها أضرار نتيجة الهجمات. كانت هناك أماكن يُفترض أن الحوثيين أخفوا فيها ذخائر وأسلحة، وقام السعوديون بقصفها. هناك مبانٍ دُمرت بسبب الهجمات. لا أرى أي قصف للمدينة القديمة حاليًا، لأنها ليست هدفًا استراتيجيًا".
يقول هيلجر إن من أبرز سمات الثقافة اليمنية الحفاظ على العمارة التقليدية. "في صنعاء، رأيت ورشًا لصنع الأقواس باستخدام أساليب البناء الحديثة. رأيت الناس يرسمون واجهات منازلهم، ويحافظون على هذه المباني ويدركون جمال هذا البناء".
لكن الحفاظ على التقاليد مسألة أوسع نطاقًا. نحن نتحدث عن بلد منغلق ومحافظ، لذا فإن ثقافته أيضًا خالية من التأثيرات الخارجية. على سبيل المثال، تُقام حفلات الزفاف مساء كل خميس. وقد حُفظت الموسيقى والإيقاع والرقص اليمني لمئات السنين دون تغيير. أي شخص يحضر حفل حناء يمنيًا في إسرائيل يرى نفس الرقصات ويسمع نفس الأصوات كما في اليمن اليوم.
رقصات بالخناجر
يقول هيلجر: "في عصر كل جمعة، يجتمعون في وسط المدينة لرقص الجنبية، وهو خنجر يمني يُستخدم أيضًا كقطعة من الحلي للرجال ورمز للمكانة الاجتماعية - وهذا هو أساسًا ترفيههم.
أما زيارات المتاحف والمسارح ودور السينما، فهي نادرة". ويضيف أنه بمجرد مغادرة صنعاء، تشعر فورًا أن اليمن من أفقر دول العالم. "لا توجد بنية تحتية، ولا مواصلات عامة، كل شيء هزيل".
كما يلعب نبات القات، وهو منشط يُشعر بنوع من النشوة عند مضغه، دورًا محوريًا في الثقافة المحلية. يقول هيلجر: "إنه مناسبة اجتماعية بارزة توحد حتى القبائل المتنافسة. يمضغون أوراق القات، ويأخذون كمية كبيرة منها ويمتصون عصارتها المرّة لساعات".
ونتيجةً لذلك، يغرق اليمن في غيبوبة القات بعد الظهر. "يتوقف كل شيء. يمضغ جميع الرجال تقريبًا القات، والنساء أيضًا. تبلغ قيمة سوق القات في اليمن حوالي 1.5 مليار دولار سنويًا، أي ثمانية أضعاف قيمة سوق القمح".
في الأيام التي سبقت الحرب الأهلية في اليمن، التي اندلعت عام 2004 وأدت إلى صعود الحوثيين، بدأت السياحة بالظهور تدريجيًا في البلاد. في صنعاء، افتُتحت العديد من الفنادق والمطاعم، وسُمح للسياح بالإقامة داخل المدينة القديمة. ووفقًا لهيلجر، شهدت السياحة أيضًا نموًا في الثمانينيات والتسعينيات، لكنها توقفت فجأة.
ويقول: "بدأت بعض القبائل في الشمال وفي المنطقة الجبلية باختطاف السياح كمصدر دخل. أقاموا حواجز على الطرق، ودعوا السياح إلى منازلهم، ثم منعوهم من المغادرة حتى دفعت الحكومة فدية. في النهاية، بدأت عمليات اختطاف السياح تحدث حتى في صنعاء. وقد قضى هذا بشكل شبه كامل على أمل تطوير السياحة في البلاد".
لولا الحوثيين وعمليات الاختطاف والحروب التي تعصف باليمن، لكانت البلاد وجهة سياحية للزائرين من جميع أنحاء العالم. أرخبيل سقطرى، وهو محافظة يمنية تتألف من مجموعة جزر في المحيط الهندي بالقرب من القرن الأفريقي، تصدّر عناوين الصحف مؤخرًا عندما احتلت بحيرة ديتواه التابعة له المرتبة الخامسة عشرة على قائمة أجمل شواطئ العالم.
أُدرج الأرخبيل كموقع للتراث العالمي الطبيعي لليونسكو عام 2008. كانت الجزر في وقت ما تحت سيطرة الحوثيين، لكنها في عام 2020 خضعت لسيطرة الحكومة في جنوب اليمن، المدعومة من الإمارات العربية المتحدة.
ومن الأمثلة الأخرى على الثراء الثقافي لليمن مدينة شبام، في محافظة حضرموت، التي تمتد من الحدود السعودية شمالًا إلى بحر العرب جنوبًا. وتُعتبر مدينة شبام القديمة المسورة، التي تعود إلى القرن السادس عشر، والمدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، نموذجًا للتخطيط الحضري القائم على مبدأ البناء العمودي.
يقول هيلجر: "يُطلق عليها اليمنيون اسم 'مانهاتن اليمن' نظرًا للأبراج السكنية المصنوعة من الطين - وهو مزيج من الطين والقش - والتي يتراوح ارتفاعها بين 13 و14 طابقًا". ويضيف أن مواد البناء في اليمن تختلف باختلاف المنطقة. فصنعاء، على سبيل المثال، بُنيت بالحجر المحمر الموجود في المنطقة، بينما في حضرموت، الأكثر جفافًا، تُبنى المباني بالطين والقش. وفي القرى القريبة من البراكين، يُستخدم البازلت الداكن. ويشير هيلجر إلى أن شبام نفسها قائمة منذ حوالي 2000 عام، وكانت محطة مهمة على طريق التوابل والبخور.
أما المباني الشاهقة التي نراها هناك اليوم، فقد بُنيت قبل 400 إلى 600 عام. وقبل حلول موسم الأمطار في شهري يوليو وأغسطس، يُغلق السكان أي شقوق في الجدران.
بخلاف المواقع الأخرى، لم تكتفِ اليونسكو بإعلان مدينة شبام القديمة موقعًا للتراث العالمي، بل خصصت أيضًا أموالًا للحفاظ عليها. ووفقًا لهيلجر، فهي من المواقع القليلة في العالم التي تدفع فيها اليونسكو لسكانها أموالًا ليس فقط لصيانة منازلهم، بل أيضًا لصيانة منازل جيرانهم الذين هاجروا إلى دول أخرى في الشرق الأوسط.
ويضيف هيلجر أن هذا إجراء بالغ الأهمية، "لأن المنازل غير المحمية قد تنهار، وعندما ينهار منزل واحد، قد يجرف معه الحي بأكمله، كتأثير الدومينو".
كيف يسمح الحوثيون بذلك؟ يقول هيلجر: "ليس لديهم سيطرة حقيقية على شبام وحضرموت وعدن. كانت هذه المنطقة في السابق معقلًا لتنظيم القاعدة، لذلك لم يكن من السهل عليهم حكمها. لقد نجحت اليونسكو في الحفاظ على العمارة في شبام ببراعة".
المسرح وفنون الأداء
بالنسبة للشباب اليمني، الثقافة ليست مجرد تعبير عن الهوية، بل هي أيضًا وسيلة للعصيان المدني. تقول إنبال نسيم-لوفتون، الخبيرة في شؤون اليمن في مركز موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا بجامعة تل أبيب وفي الجامعة المفتوحة في إسرائيل، إنه في ظل واقعٍ تُقمع فيه حرية التعبير، يُصبح الفن أداةً سياسيةً واجتماعيةً - وخاصةً للنساء والشباب.
وتضيف: "يعيش الناس في ظل الحرب منذ أكثر من عقد. وفي خضم هذه الحياة اليومية، تُقام مبادرات ثقافية: مشاريع غرافيتي، وفنون أداء، ومسرح، تشارك فيها النساء بنشاط. إنهن عوامل تغيير في الفضاء الذي يعشن فيه، ويتمكنّ من التعبير عن أنفسهن رغم القيود".
وعلى سبيل المثال، تذكر أنشطة منظمة "نسيج"، التي تعمل مع الأطفال، وقد قدّمت عروضًا مسرحيةً للتوعية بقضية زواج الأطفال. وتقول نسيم-لوفتون إن هذه الأنشطة أصبحت ذات أهمية خاصة منذ وصول الحوثيين إلى السلطة، وهو تطورٌ أدى إلى مزيد من القيود على النساء، وخاصةً فيما يتعلق بحرية التنقل.
في بعض الأماكن، يُدير الحوثيون وحدات تُسمى "الزينبيات": نساء يرتدين ملابس سوداء، ويرتدين النقاب (غطاء كامل للجسم لا يُظهر سوى عيني المرأة) ويحملن أسلحة، ومهمتهن فرض قواعد سلوكية صارمة تجاه النساء.
تُوثّق المصورة بشرى المتوكل، المولودة في صنعاء، والتي انتقلت إلى الولايات المتحدة ثم إلى فرنسا، وضع المرأة اليمنية. يتتبع مشروعها "نساءٌ في زوال" التغيرات في ملابس المرأة اليمنية عبر التاريخ، من الملابس الملونة ذات الوجوه المكشوفة والابتسامات إلى النساء والفتيات المُغطات بالسواد، ووجوههن مُغطاة بالنقاب. تُعبّر صورها عن عملية محو المرأة.
ترسم الفنانة هيفاء سبيع، التي تعيش في عدن، خارج سيطرة الحوثيين، رسومات غرافيتي في شوارع المدينة. تُعبّر في عملها عن عواقب الحرب الدائرة في اليمن التي يخوضها الحوثيون منذ وصولهم إلى السلطة. جداريتها، المعنونة "سننجو معًا"، تُصوّر حملها كفضاء للأمل، وقوة المرأة، ورغبة في السلام.
في مقابلة مع مجلة "ذا أوربان أكتيفيست" المستقلة، قالت سبيع: "للألم والأمل معنيان مختلفان، لكنهما مرتبطان بكل تجربة أمومة تمر بها المرأة. في مواجهة الصراع الدائر وتأثيره على النساء والأطفال، تُحدث النساء انخراطًا غير مرئي من أجل السلام". في عام 2019، عرضت أعمالها في بينالي سنغافورة ضمن معرض "الحرب والبشر" بالتعاون مع متحف سنغافورة للفنون.
واجهت محاولات سبيع للرسم في صنعاء معارضة. استولى الحوثيون على لوحاتها، وأُجبرت على العودة إلى عدن. قالت آنذاك: "واجهتهم، وحاولت أن أشرح لهم أنني أيضًا ضحية للحرب". لكن هذه هي النقطة تحديدًا: كانوا يخشون أن يبدأ الناس بطرح أسئلة حول ما كُتب على الجدران. الناس هناك لا يتقاضون رواتبهم، ولا كهرباء ولا ماء. كانت الحياة في اليمن صعبة من قبل، ولكن على الأقل كانت هناك خدمات أساسية.
لكن سبيع لم تستسلم للفن. قالت: "أحاول توجيه رسالة للنساء الأخريات: أنهين الحرب وابني بديلًا بلا عنف. يجب ألا نستسلم".
*يمكن الرجوع للمادة الأصل: هنا
*ترجمة خاصة بالموقع بوست