تعمل الشركات الصينية منذ مدة طويلة من أجل تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي الخاصة بها منذ ظهور"شات جي بي تي" للمرة الأولى، ورغم أن "علي بابا" عرضت نموذجها سابقًا، فإنه لم يرتق إلى المستوى المطلوب للمنافسة، لذا لم يهتم به العالم بشكل كاف.

لكن الأمر تغير مع ظهور نموذج "ديب سيك" الذي تسبب في ضجة عالمية كبيرة أثرت على كافة شركات وادي السيليكون العاملة في قطاع الذكاء الاصطناعي، إذ يوصف النموذج بأنه أكثر قوة وجودة من "شات جي بي تي" و"جيميناي"، فما القصة وراء هذا النموذج؟

نموذج خارق يكسر قواعد المألوف

تعود ملكية نموذج "ديب سيك" لشركة صينية ناشئة في قطاع الذكاء الاصطناعي تحمل الاسم ذاته، ورغم أن إطلاق التطبيق جاء خلال الأسبوع الماضي، فإن بدايته الحقيقية كانت قبل ذلك بعدة أسابيع، فضلًا عن كون عمر الشركة يناهز العامين تقريبًا، إذ كان متاحًا بشكل تجريبي للمستخدمين حول العالم.

تعود ملكية شركة "ديب سيك" لصالح ليانغ ونفيانغ، الذي يعد أحد أكبر المستثمرين الصينيين في قطاع الذكاء الاصطناعي، وهو مؤسس مشارك في صندوق "هاي فلاير" (High-FLyer) المهتم بالاستثمار في الذكاء الاصطناعي، وفي أبريل/نيسان 2023 أسس "ديب سيك" من أجل الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام "إيه جي آي" (AGI) الذي تسعى إليه جميع شركات الذكاء الاصطناعي حاليا.

إعلان

وفي وقت قصير، تمكّن التطبيق من التربع على عرش متجر تطبيقات "آبل" كأكثر تطبيق تم تحميله من مستخدمي "آيفون" في الولايات المتحدة، متفوقًا بذلك على العديد من التطبيقات الأميركية تزامنًا مع أزمة حظر "تيك توك".

يعمل نموذج "ديب سيك" في الوقت الحالي عبر إصدار يدعى "آر 1" (R1)، في إشارة لكونها النسخة الأولى من النموذج القادر على منافسة "شات جي بي تي-أو1" (ChatGPT-O1) الأكثر تقدمًا من "أوبن إيه آي"، ولكن بسعر أقل كثيرًا للمستخدم الواحد.

تصل تكلفة المستخدم الواحد شهريًا في "ديب سيك" إلى 0.50 دولار مقارنةً مع 20 دولارا لاستخدام نموذج "أو 1" من "شات جي بي تي"، وترجع الشركة السبب في هذه الكلفة المنخفضة لكون تكلفة تطوير النموذج وتشغيله أقل كثيرًا من المنافسين. فبحسب بيان الشركة، فإن تكلفة تطوير النموذج وخوادمه كانت 5.5 ملايين دولار فقط، مقارنةً مع مئات الملايين من الدولارات التي احتاجتها "أوبن إيه آي" و"ميتا" و"غوغل" لتطوير نماذجها.

"أوبن إيه آي" و"ميتا" و"غوغل" في موقف محرج بعد ظهور "ديب سيك" (وكالات) لماذا تكلفة "ديب سيك" أقل من المنافسين؟

قامت الحكومة الأميركية خلال السنوات الثلاث الماضية بتقويض وصول الشركات الصينية أكثر من مرة في إطار العقوبات الاقتصادية المطبّقة على البلاد، فضلًا عن إعاقة عملية تطويرها لتقنيات الذكاء الاصطناعي بسبب المخاوف الأمنية.

رغم هذا، استطاعت "ديب سيك" تطوير نموذج ذكاء اصطناعي قادر على التفكير المنطقي في وقت قصير وبكلفة منخفضة كثيرًا، أي إنها لم تعتمد على الشرائح الأميركية القادمة من "إنفيديا" وغيرها من الشركات.

في الوقت الحالي، يصعب التيقن من آلية تطوير النموذج بسبب وجود قيود التصدير إلى الشركات الصينية، ورغم أن الشركة قد تتمكن للوصول للشرائح بشكل غير رسمي والهروب من هذه القيود، فإن هذا الأمر قد يكون مكلفًا، الأمر الذي يجب أن يزيد من كلفة استخدام النموذج بشكل كبير.

إعلان

وعلى الأغلب، استطاعت الشركة تطوير نموذجها دون الحاجة إلى الشرائح الأميركية، إما عبر تطوير شرائح خاصة بها قادرة على المنافسة، وإما عبر الاعتماد على طرق أخرى مختلفة لا تحتاج إلى هذه الشرائح، مما يضع "أوبن إيه آي" وشركات الذكاء الاصطناعي الأميركية في موقف محرج، فهي التي أقنعت العالم أن تطوير هذه النماذج يحتاج إلى شرائح "نفيديا" الباهظة.

يذكر أن مجموعة من الشركات الاستثمارية الأميركية مثل "سوفت بانك" (Softbank) و"أوراكل" (Oracle) قررت استثمار 500 مليار دولار من أجل تأسيس بنية تحتية قادرة على تشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي الخارقة في مبادرة استثمارية أطلقت عليها "ستارجيت" (StarGate).

ضغط تسبب في إيقاف الخدمة

الضجة الكبيرة التي أحدثها النموذج في وقت قياسي جذبت ملايين المستخدمين إليه، لدرجة أن الشركة أوقفت عمليات التسجيل في التطبيق مؤقتًا حتى تعود الخدمات بشكل طبيعي، فضلًا عن وجود هجمة سيبرانية شرسة على التطبيق تسببت في توقف خدماته.

هذا الأمر يؤكد أن الشركة لم تتوقع النجاح الباهر الذي حققته، وهو نجاح قد يتزايد مع مرور الأيام وانتشار النموذج أكثر إلى جانب تقديم المزيد من الخدمات في النموذج مستقبلًا.

سقوط الأسهم الأميركية

يعرف قطاع الذكاء الاصطناعي بأنه من القطاعات المتغيرة بسرعة كبيرة والتي كانت كلفة تطوير أنظمتها عائقا كبيرًا أمام تطويرها، إذ كان يتوقع أن تصل الاستثمارات في هذا القطاع إلى تريليون دولار قبل نهاية العقد الحالي.

تقود شركة "إنفيديا" الاستثمارات في هذا القطاع بفضل تطويرها الشرائح اللازمة لتشغيله، ولكن بعد "ديب سيك" أصبح هذا الأمر مشكوكًا فيه بشكل كبير. فعقب ظهور هذا النموذج، خسرت أسهم "إنفيديا" 17% من قيمتها أي أكثر من 600 مليار دولار تقريبًا، لتصبح بذلك من أكبر الخسائر خلال القرن الحالي متخليةً عن مكانتها كأغنى شركة في العالم بقيمة 3.5 تريليونات دولار لتصبح بدلًا من ذلك 2.9 تريليون دولار.

إعلان

يعود السبب في خسائر "إنفيديا" إلى موجة بيع أسهم واسعة من قبل العديد من المستثمرين في الشركة الذين فقدوا ثقتهم فيها كونها لم تعد ضرورية لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي بعد ظهور "ديب سيك"، وهذه الخسائر لم تقتصر على "إنفيديا" فقط، إذ طالت "مارفيل" (Marvell) و"برودكوم" (Broadcom) و"تي إس إم سي" (TSMC) ليصل إجمالي خسائر القطاع لأكثر من 5%.

تسببت هذه الخسائر في دخول العديد من الشركات التقنية الأميركية إلى غرف حرب التصريحات، في محاولة لاستباق الخسائر تخوفًا من حدوثها، ومن ضمنهم "مايكروسوفت" التي خرج مديرها التنفيذي ساتيا ناديلا قائلًا بأن ما قامت به "ديب سيك" هو ظاهرة مألوفة تعرف باسم "مفارقة جيفونز" (Jevons Paradox) حيث يتطور الذكاء الاصطناعي إلى تقنية مألوفة تسعى الشركات لتطويرها بسرعة مهولة.

أيد يان ليكون كبير علماء "ميتا" هذا الأمر قائلًا بأن نجاح الشركة في تطوير هذا النموذج قد يغير قطاع الذكاء الاصطناعي إلى الأبد لصالح تقنيات الذكاء الاصطناعي المفتوحة المصدر، مشيرًا إلى أن "ديب سيك" استفادت من نماذج "ميتا" المفتوحة المصدر، الأمر نفسه عبر عنه ألكسندر وانج الرئيس التنفيذي لشركة "سكيل إيه آي" (Scale AI) الذي وصف هذا النجاح بأنه مزلزل.

ساتيا ناديلا قال بأن ما قامت به "ديب سيك" هو ظاهرة مألوفة تعرف باسم "مفارقة جيفونز" (أسوشيتد برس) موقف صعب لإدارة ترامب

من ناحية أخرى، وضع نجاح "ديب سيك" إدارة دونالد ترامب -التي تولت مقاليد الحكم منذ أيام قليلة- في موقف محرج للغاية، فقد أعلن الرئيس ترامب في بداية ولايته عن جهود الحكومة الأميركية لتيسير تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، مشيرًا إلى تضافر جهود الشركات من أجل تأسيس البنية التحتية للذكاء الاصطناعي الأميركي.

وفي أول ردوده على تطوير هذا النموذج، قال ترامب إن "ديب سيك" هو نداء صحوة للشركات الأميركية من أجل الإسراع في جهود تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهو الأمر الذي أيده أيضًا سام ألتمان المدير التنفيذي لشركة "شات جي بي تي" قائلًا بأن "ديب سيك" تمكن من أمر مذهل مقابل السعر الذي يوفره، ولكن هذا لا يعني أن "شات جي بي تي" قد خسر السباق لأنهم يعملون على تقديم مزايا أقوى بسعر أفضل.

ترامب قال إن "ديب سيك" هو نداء صحوة للشركات الأميركية من أجل الإسراع في جهود تقنيات الذكاء الاصطناعي (رويترز) أبرز الاختلافات بين "شات جي بي تي" و"ديب سيك"

تتشابه نماذج الذكاء الاصطناعي كثيرًا في العديد من التفاصيل وآليات التعامل مع الأوامر، ورغم هذا، فإن بعض الاختلافات تظل موجودة، وكذلك الحال مع "ديب سيك" و"شات جي بي تي"، وتبرز هذه الاختلافات في قدرة النموذج على استقبال الأوامر.

إعلان

فبينما يتيح "شات جي بي تي" استقبال الأوامر مباشرةً من العميل سواءً كان عبر الإدخال الصوتي أو المرئي لمقاطع الفيديو والصور فضلًا عن الإدخال النصي، فإن "ديب سيك" يقتصر على الإدخال النصي فقط للأوامر، ويعني هذا غياب قدرته على التعامل مع الأوامر الصوتية أو المرئية.

كما يوجد فارق واضح آخر وهو قدرة النموذج على الرد على الأسئلة السياسية، وذلك لأن القوانين الصينية تمنع النموذج من المشاركة في المحادثات السياسية أو حتى الإشارة إلى الحكومة الصينية والرئيس الصيني والسياسات الصينية بشكل عام.

وتوجد بعض الاختلافات في دقة الإجابات المتعلقة بالأحداث الجارية، إذ يتفوق "شات جي بي تي" في هذا الأمر عن "ديب سيك" الذي يعاني قليلًا مع الدخول في التفاصيل والأحداث الجارية، أي أن الإجابات قد تكون قديمة بعض الشيء مقارنةً بنموذج "أو 1" من "شات جي بي تي".

وعلى النقيض تمامًا، يبرع "ديب سيك" في الرد على الأسئلة المتعلقة بالبرمجة بشكل مباشر، إذ يمكن للنموذج توليد أكواد برمجية صالحة في لغات مختلفة بسهولة على عكس "شات جي بي تي" الذي يواجه بعض التحديات مع الأوامر المختلفة.

نموذج مفتوح المصدر بحق

يتفوق "ديب سيك" عن كافة المنافسين في نقطة أساسية، إذ يعد نموذجا مفتوح المصدر بشكل كامل، يمكن تحميله وتثبيته في الحواسيب حتى يتم تشغيله بشكل محلي دون الحاجة إلى استخدامه عبر الإنترنت مقابل كلفة زهيدة، إذ تصل كلفة الواجهة البرمجية للنموذج إلى أقل من 20 سنتا لكل مليون أمر مقارنةً مع 7.50 دولارات في "شات جي بي تي".

هذه النقطة بمفردها تجعل النموذج مثاليًا لاستخدام الشركات التي تحاول تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي عبر الواجهات البرمجية من أجل تطويعها على استخدامها بشكل أفضل وأنسب مع احتياجاتها، وهو الجانب الذي قد تحاول "ديب سيك" التركيز عليه مستقبلًا.

إعلان مخاوف متنوعة

تلاحق "ديب سيك" مجموعة من المخاوف التي تلتصق بجميع التقنيات الصينية، وهي جميعًا مخاوف تتعلق بالأمن السيبراني وأمن المعلومات، إذ تجبر الحكومة الصينية جميع الشركات على مشاركة البيانات معها إن كانت الحاجة ملحة لذلك.

هذا الأمر قد يكون عقبة كبيرة أمام نموذج "ديب سيك" الذي يتيح الوصول إلى واجهته البرمجية بشكل سهل وغير مكلف، ولكن قد لا ترغب بعض الشركات في استغلالها نظرًا للمخاوف المختلفة من النموذج.

ورغم البداية المبهرة والنجاح الباكر للنموذج، فإن الحكم النهائي على النموذج لن يكون قبل إتمام التجارب اللازمة عليه، فقد كانت بداية "شات جي بي تي" متخبطة أيضًا ولكنها تحسنت لاحقًا، وهذا الأمر قد يتكرر مع "ديب سيك".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات تقنیات الذکاء الاصطناعی قطاع الذکاء الاصطناعی الذکاء الاصطناعی ا شات جی بی تی هذا النموذج أوبن إیه آی هذا الأمر العدید من فضل ا عن دیب سیک ا الأمر کثیر ا من أجل

إقرأ أيضاً:

ما هو النموذج الليبي الذي تريد إسرائيل تطبيقه مع إيران؟

منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، دأب كبار المسؤولين الإسرائيليين، إلى جانب عدد من المسؤولين الأميركيين، على طرح ما يُعرف بـ"النموذج الليبي" كنموذج تفاوضي للتعامل مع الملف النووي الإيراني.

وفي هذا السياق، صرّح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في ختام زيارته إلى الولايات المتحدة في مايو/ أيار 2025، قائلًا: "نتفق على أن إيران لا ينبغي أن تمتلك سلاحًا نوويًا. يمكن تحقيق ذلك من خلال اتفاق، ولكن فقط إذا كان شبيهًا بالنموذج الليبي: أي أن يذهبوا، ويفجّروا منشآتهم، ويزيلوا كل معداتهم تحت إشراف أميركي. هذا سيكون اتفاقًا جيدًا".

وأضاف نتنياهو: "الاحتمال الثاني، وهو غير مرغوب، أن تطيل إيران أمد المفاوضات، ليُطرح بعدها الخيار العسكري. الجميع يدرك ذلك، وقد تحدثنا فيه بتفصيل".

وفي السياق نفسه، قال السيناتور الجمهوري توم كوتن في مايو/ أيار من العام نفسه: إن ترامب يفضّل أن يكون الاتفاق مع إيران مشابهًا لذلك الذي وقّعته ليبيا مع الولايات المتحدة عام 2003.

ومع ذلك، لم يجرِ حتى الآن بحث واضح لما تقصده إسرائيل تحديدًا من "النموذج الليبي" في سياق التفاوض مع طهران. إذ يتّسم هذا النموذج أولًا بنظرة تشككية حادة تجاه نوايا وسلوكيات إيران في ملفاتها النووية والإقليمية والصاروخية، وثانيًا بمعارضة جوهرية للمقاربة التصالحية النسبية التي تبنّاها اتفاق "البرنامج الشامل المشترك" (الاتفاق النووي) المبرم عام 2015. كما أن هذا النموذج يُبنى على افتراضات وأجندة التيار اليميني في إسرائيل.

إعلان "النموذج الليبي" في نظر إسرائيل

يتكوّن هذا النموذج – وفق القراءة الإسرائيلية- من عدّة عناصر رئيسية لا يمكن تصوّره بدونها. ويُعد مطلب "تفكيك البرنامج النووي الإيراني بالكامل وبشكل دائم" من أكثر البنود تكرارًا عند الحديث عن هذا النموذج في الإعلام الدولي. ويعني ذلك رفضًا تامًا لأي شكل من أشكال التخصيب داخل إيران، وتحت أي ظرف.

أما الأبعاد الأخرى لهذا النموذج من منظور الأوساط العسكرية والأمنية الإسرائيلية، فتشمل:

وجود تهديد عسكري فعّال ضد إيران، مع الإبقاء على خيار الهجوم العسكري مطروحًا حتى في حال التوصل إلى اتفاق. إلزام إيران بتعهدات دائمة لا يمكن الرجوع عنها. جعل آلية رفع العقوبات مؤقتة وغير دائمة، بحيث يمكن إعادة فرضها عند أول إخلال إيراني، بعكس ما ورد في "بنود الغروب" باتفاق 2015. توسيع نطاق المفاوضات ليشمل النفوذ الإقليمي الإيراني، والبرنامجين: الصاروخي والطائرات المسيّرة، وعدم الاكتفاء بالملف النووي. التوصل إلى اتفاق سريع وفوري دون الانخراط في مفاوضات طويلة ومرهقة كتلك التي امتدت بين عامي 2013 و2015.

وبذلك، يتّضح أن ما تسميه إسرائيل "النموذج الليبي" لا يقتصر على تفكيك البرنامج النووي الإيراني، بل يمتد ليشمل مقاربة أشمل تستهدف وضع حدّ لدور إيران الإقليمي أيضًا. ويبدو أن تل أبيب لم تنتقل بعدُ إلى معالجة الملف الإيراني بشكل مباشر بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وذلك بسبب تعقيداته، والحاجة إلى تنسيق مع واشنطن لضمان دعمها الكامل لأي خيار مطروح.

ومن أسباب هذا التأخير، إلى جانب انشغال إسرائيل بالحروب في غزة ولبنان، الاعتقاد السائد بأن إدارة جو بايدن وإن كانت داعمة أمنيًا لإسرائيل، إلا أنها لم تُبد حماسة تجاه خيار ضرب إيران. أما في الولاية الثانية لدونالد ترامب، فقد حالت تعقيدات المحادثات الجارية بين طهران وواشنطن حتى الآن دون تمكين إسرائيل من التحرك عسكريًا ضد إيران.

إعلان

مع ذلك، يبدو أن إسرائيل تستعد لفتح معادلة جديدة ضد طهران بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، من خلال سلسلة هجمات خفية، تشمل على الأرجح عمليات اغتيال شخصيات بارزة، وأعمال تخريب تستهدف البنى التحتية الحيوية، وهجمات على قواعد عسكرية إستراتيجية.

التحليل الإسرائيلي ينطلق من قيدين زمنيين أساسيين. الأول يتمثل في أن عودة ترامب إلى البيت الأبيض تُمثل "فرصة ذهبية"، تتزامن -مصادفة- مع ضعف المحور الإقليمي الداعم لسياسات طهران. وتُعد الأشهر الأولى من ولاية ترامب (من يونيو/ حزيران إلى نهاية سبتمبر/ أيلول 2025) لحظة استثنائية قد لا تتكرر. ويبدو أن إسرائيل تُدرك أن التفريط فيها سيكون خطأ لا يُغتفر.

وفي هذا السياق، كلما زاد انحراف مسار المفاوضات الحالية عن "النموذج الليبي"، زادت حوافز تل أبيب لتنفيذ عمليات نوعية تهدف إلى التأثير في هذه المفاوضات وفرض معادلة ردع جديدة. بل حتى في حال توصل إيران والولايات المتحدة إلى اتفاق، قد ترى إسرائيل أن اللحظة تستدعي الرد.

أما القيد الزمني الثاني، فيرتبط بالانتخابات العامة الإسرائيلية المقبلة، المقررة قبل 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2026. إذ لا يزال وضع حكومة نتنياهو ضعيفًا للغاية بعد صدمة 7 أكتوبر/ تشرين الأول، والمعارضة تنتظر الإطاحة به عبر صناديق الاقتراع.

وبالتالي، يرى نتنياهو أن القيام بعملية كبيرة ضد "العدو الإيراني" قد يكون حبل النجاة السياسي الوحيد المتبقي له. على أن تُنفّذ تلك العملية قبل أن تقترب الانتخابات كثيرًا، لأن قربها قد يقلل من أثرها الانتخابي المطلوب.

إيران وليبيا.. فروق جوهرية

رغم التأثير العميق للعقوبات الأميركية على الاقتصاد الإيراني، والتي قد تتفاقم في حال تفعيل "آلية الزناد"، فإن سياسة إيران الخارجية والإقليمية شهدت في السنوات الأخيرة انفتاحًا ملحوظًا؛ بدءًا من تعزيز العلاقات مع روسيا والصين، إلى اتفاق استئناف العلاقات مع السعودية في مارس/ آذار 2023، وعودة العلاقات مع البحرين، ثم رفع العلاقات مع سلطنة عُمان إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية. كل ذلك يؤكد أن إيران ليست معزولة كما كانت ليبيا.

إعلان

وعلى خلاف البرنامج النووي الليبي الذي كان محدودًا ووافدًا من الخارج، فإن البرنامج النووي الإيراني ممتد منذ عقود، وبعض الخبراء يُرجع بداياته إلى عام 1941. كما أن إيران طوّرت برنامجها بشكل محلي، بما يجعل من الصعب القضاء عليه نهائيًا؛ إذ يمكن لطهران استعادته حتى بعد تدميره.

وقد علّقت ويندي شيرمان، مساعدة وزير الخارجية الأميركية السابقة وكبيرة المفاوضين في المحادثات النووية، قائلة: "أي هجوم على المنشآت النووية الإيرانية قد يُؤخر البرنامج لعام أو ثلاثة، لكن إيران ستعيد تشغيله سرًا بسرعة. دعوني أكون صريحة: لا يمكنكم قصف العلم والمعرفة".

فضلًا عن ذلك، وعلى عكس التجربة الليبية، تمتلك إيران سجلًا تفاوضيًا ناجحًا نسبيًا، بدءًا من مفاوضات 2002-2003، وانتهاء باتفاق 2015، مما يجعل من غير الواقعي توقع تعامل دولي معها بنفس الطريقة التي تعامل بها مع نظام القذافي.

النموذج الإيراني؟

التقدم السريع في المفاوضات الجارية بين وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، ومساعد الرئيس الأميركي لشؤون الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، يُشير إلى أن المناخ التفاوضي الحالي يختلف بوضوح عن الطرح الإسرائيلي، حيث تغيب الرؤية التصادمية والعدائية.

ورغم عدم توفر تفاصيل مؤكدة عن نص الاتفاق المحتمل، فإن طهران على ما يبدو لا تقبل فكرة التخلي الدائم عن حق التخصيب. وقد يكون أقصى ما توافق عليه هو وقف التخصيب لفترة 6 أشهر، مقابل اعتراف رسمي بحقها في التخصيب، وتعليق شامل لكل العقوبات -بما فيها العقوبات الثانوية- من قبل الرئيس الأميركي، وهو ما يمكن وصفه بمنطق "التعليق مقابل التعليق".

ومن بين المقترحات الإيرانية الأخرى تشكيل كونسورتيوم دولي لأكسدة مخزونها من اليورانيوم، وخفض نسب التخصيب من 60% إلى 3.6%، مع القبول بمناقشة التفاصيل لاحقًا.

الخلاصة

النموذج الليبي كما تطرحه إسرائيل يبدو أكثر تطرفًا مما تسعى إليه الولايات المتحدة في مفاوضاتها الحالية مع إيران؛ من تفكيك كامل للمنشآت النووية، ورفض حق التخصيب، إلى فرض التزامات دائمة، والإبقاء على التهديد العسكري، واشتراطات صارمة لرفع العقوبات، والتوسيع الفوري لنطاق التفاوض.

إعلان

لكن، الفروقات العميقة بين الحالتين الإيرانية والليبية -من حيث القدرات الذاتية، والحضور الدبلوماسي، وسجل التفاوض- تجعل تطبيق هذا النموذج أمرًا بالغ الصعوبة.

ووفق المؤشرات الحالية، فإن إسرائيل قد تجد في الفترة من يونيو/ حزيران إلى سبتمبر/ أيلول 2025 نافذة زمنية مناسبة لتنفيذ عمليات خفية ضد إيران، بهدف خلق معادلة ردع جديدة، وإرباك مسار التفاوض الجاري بين طهران وواشنطن. غير أن "النموذج الليبي" بمضمونه الإسرائيلي يبدو أبعد بكثير من أن يكون قابلًا للتطبيق الواقعي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • الذكاء الاصطناعي.. خبير: التكنولوجيا دائما تعيد تشكيل عالمنا طوال الوقت
  • ما هو النموذج الليبي الذي تريد إسرائيل تطبيقه مع إيران؟
  • تطوير أداة تعتمد الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالأوبئة وانتشارها
  • توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بالأعاصير
  • آخر صيحات الذكاء الاصطناعي.. يحذر من الأعاصير والعواصف بسرعة ودقة عالية
  • آخر صحيات الذكاء الاصطناعي.. يحذر من الأعاصير والعواصف بسرعة ودقة عالية
  • آخر صحيات الذكاء الاصطناعي.. يحذر من الأعاصير العواصف بسرعة ودقة عالية
  • الذكاء الاصطناعي يكشف العواصف القوية بسرعة
  • دراسة:الذكاء الاصطناعي يستطيع التحذير من العواصف بسرعة ودقة
  • باحثون: الذكاء الاصطناعي يستطيع التحذير من العواصف بسرعة ودقة