كل ما تريد معرفته عن نموذج ديب سيك المحرج لعمالقة التكنولوجيا
تاريخ النشر: 28th, January 2025 GMT
تعمل الشركات الصينية منذ مدة طويلة من أجل تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي الخاصة بها منذ ظهور"شات جي بي تي" للمرة الأولى، ورغم أن "علي بابا" عرضت نموذجها سابقًا، فإنه لم يرتق إلى المستوى المطلوب للمنافسة، لذا لم يهتم به العالم بشكل كاف.
لكن الأمر تغير مع ظهور نموذج "ديب سيك" الذي تسبب في ضجة عالمية كبيرة أثرت على كافة شركات وادي السيليكون العاملة في قطاع الذكاء الاصطناعي، إذ يوصف النموذج بأنه أكثر قوة وجودة من "شات جي بي تي" و"جيميناي"، فما القصة وراء هذا النموذج؟
نموذج خارق يكسر قواعد المألوفتعود ملكية نموذج "ديب سيك" لشركة صينية ناشئة في قطاع الذكاء الاصطناعي تحمل الاسم ذاته، ورغم أن إطلاق التطبيق جاء خلال الأسبوع الماضي، فإن بدايته الحقيقية كانت قبل ذلك بعدة أسابيع، فضلًا عن كون عمر الشركة يناهز العامين تقريبًا، إذ كان متاحًا بشكل تجريبي للمستخدمين حول العالم.
تعود ملكية شركة "ديب سيك" لصالح ليانغ ونفيانغ، الذي يعد أحد أكبر المستثمرين الصينيين في قطاع الذكاء الاصطناعي، وهو مؤسس مشارك في صندوق "هاي فلاير" (High-FLyer) المهتم بالاستثمار في الذكاء الاصطناعي، وفي أبريل/نيسان 2023 أسس "ديب سيك" من أجل الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام "إيه جي آي" (AGI) الذي تسعى إليه جميع شركات الذكاء الاصطناعي حاليا.
إعلانوفي وقت قصير، تمكّن التطبيق من التربع على عرش متجر تطبيقات "آبل" كأكثر تطبيق تم تحميله من مستخدمي "آيفون" في الولايات المتحدة، متفوقًا بذلك على العديد من التطبيقات الأميركية تزامنًا مع أزمة حظر "تيك توك".
يعمل نموذج "ديب سيك" في الوقت الحالي عبر إصدار يدعى "آر 1" (R1)، في إشارة لكونها النسخة الأولى من النموذج القادر على منافسة "شات جي بي تي-أو1" (ChatGPT-O1) الأكثر تقدمًا من "أوبن إيه آي"، ولكن بسعر أقل كثيرًا للمستخدم الواحد.
تصل تكلفة المستخدم الواحد شهريًا في "ديب سيك" إلى 0.50 دولار مقارنةً مع 20 دولارا لاستخدام نموذج "أو 1" من "شات جي بي تي"، وترجع الشركة السبب في هذه الكلفة المنخفضة لكون تكلفة تطوير النموذج وتشغيله أقل كثيرًا من المنافسين. فبحسب بيان الشركة، فإن تكلفة تطوير النموذج وخوادمه كانت 5.5 ملايين دولار فقط، مقارنةً مع مئات الملايين من الدولارات التي احتاجتها "أوبن إيه آي" و"ميتا" و"غوغل" لتطوير نماذجها.
قامت الحكومة الأميركية خلال السنوات الثلاث الماضية بتقويض وصول الشركات الصينية أكثر من مرة في إطار العقوبات الاقتصادية المطبّقة على البلاد، فضلًا عن إعاقة عملية تطويرها لتقنيات الذكاء الاصطناعي بسبب المخاوف الأمنية.
رغم هذا، استطاعت "ديب سيك" تطوير نموذج ذكاء اصطناعي قادر على التفكير المنطقي في وقت قصير وبكلفة منخفضة كثيرًا، أي إنها لم تعتمد على الشرائح الأميركية القادمة من "إنفيديا" وغيرها من الشركات.
في الوقت الحالي، يصعب التيقن من آلية تطوير النموذج بسبب وجود قيود التصدير إلى الشركات الصينية، ورغم أن الشركة قد تتمكن للوصول للشرائح بشكل غير رسمي والهروب من هذه القيود، فإن هذا الأمر قد يكون مكلفًا، الأمر الذي يجب أن يزيد من كلفة استخدام النموذج بشكل كبير.
إعلانوعلى الأغلب، استطاعت الشركة تطوير نموذجها دون الحاجة إلى الشرائح الأميركية، إما عبر تطوير شرائح خاصة بها قادرة على المنافسة، وإما عبر الاعتماد على طرق أخرى مختلفة لا تحتاج إلى هذه الشرائح، مما يضع "أوبن إيه آي" وشركات الذكاء الاصطناعي الأميركية في موقف محرج، فهي التي أقنعت العالم أن تطوير هذه النماذج يحتاج إلى شرائح "نفيديا" الباهظة.
يذكر أن مجموعة من الشركات الاستثمارية الأميركية مثل "سوفت بانك" (Softbank) و"أوراكل" (Oracle) قررت استثمار 500 مليار دولار من أجل تأسيس بنية تحتية قادرة على تشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي الخارقة في مبادرة استثمارية أطلقت عليها "ستارجيت" (StarGate).
ضغط تسبب في إيقاف الخدمةالضجة الكبيرة التي أحدثها النموذج في وقت قياسي جذبت ملايين المستخدمين إليه، لدرجة أن الشركة أوقفت عمليات التسجيل في التطبيق مؤقتًا حتى تعود الخدمات بشكل طبيعي، فضلًا عن وجود هجمة سيبرانية شرسة على التطبيق تسببت في توقف خدماته.
هذا الأمر يؤكد أن الشركة لم تتوقع النجاح الباهر الذي حققته، وهو نجاح قد يتزايد مع مرور الأيام وانتشار النموذج أكثر إلى جانب تقديم المزيد من الخدمات في النموذج مستقبلًا.
سقوط الأسهم الأميركيةيعرف قطاع الذكاء الاصطناعي بأنه من القطاعات المتغيرة بسرعة كبيرة والتي كانت كلفة تطوير أنظمتها عائقا كبيرًا أمام تطويرها، إذ كان يتوقع أن تصل الاستثمارات في هذا القطاع إلى تريليون دولار قبل نهاية العقد الحالي.
تقود شركة "إنفيديا" الاستثمارات في هذا القطاع بفضل تطويرها الشرائح اللازمة لتشغيله، ولكن بعد "ديب سيك" أصبح هذا الأمر مشكوكًا فيه بشكل كبير. فعقب ظهور هذا النموذج، خسرت أسهم "إنفيديا" 17% من قيمتها أي أكثر من 600 مليار دولار تقريبًا، لتصبح بذلك من أكبر الخسائر خلال القرن الحالي متخليةً عن مكانتها كأغنى شركة في العالم بقيمة 3.5 تريليونات دولار لتصبح بدلًا من ذلك 2.9 تريليون دولار.
إعلانيعود السبب في خسائر "إنفيديا" إلى موجة بيع أسهم واسعة من قبل العديد من المستثمرين في الشركة الذين فقدوا ثقتهم فيها كونها لم تعد ضرورية لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي بعد ظهور "ديب سيك"، وهذه الخسائر لم تقتصر على "إنفيديا" فقط، إذ طالت "مارفيل" (Marvell) و"برودكوم" (Broadcom) و"تي إس إم سي" (TSMC) ليصل إجمالي خسائر القطاع لأكثر من 5%.
تسببت هذه الخسائر في دخول العديد من الشركات التقنية الأميركية إلى غرف حرب التصريحات، في محاولة لاستباق الخسائر تخوفًا من حدوثها، ومن ضمنهم "مايكروسوفت" التي خرج مديرها التنفيذي ساتيا ناديلا قائلًا بأن ما قامت به "ديب سيك" هو ظاهرة مألوفة تعرف باسم "مفارقة جيفونز" (Jevons Paradox) حيث يتطور الذكاء الاصطناعي إلى تقنية مألوفة تسعى الشركات لتطويرها بسرعة مهولة.
أيد يان ليكون كبير علماء "ميتا" هذا الأمر قائلًا بأن نجاح الشركة في تطوير هذا النموذج قد يغير قطاع الذكاء الاصطناعي إلى الأبد لصالح تقنيات الذكاء الاصطناعي المفتوحة المصدر، مشيرًا إلى أن "ديب سيك" استفادت من نماذج "ميتا" المفتوحة المصدر، الأمر نفسه عبر عنه ألكسندر وانج الرئيس التنفيذي لشركة "سكيل إيه آي" (Scale AI) الذي وصف هذا النجاح بأنه مزلزل.
من ناحية أخرى، وضع نجاح "ديب سيك" إدارة دونالد ترامب -التي تولت مقاليد الحكم منذ أيام قليلة- في موقف محرج للغاية، فقد أعلن الرئيس ترامب في بداية ولايته عن جهود الحكومة الأميركية لتيسير تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، مشيرًا إلى تضافر جهود الشركات من أجل تأسيس البنية التحتية للذكاء الاصطناعي الأميركي.
وفي أول ردوده على تطوير هذا النموذج، قال ترامب إن "ديب سيك" هو نداء صحوة للشركات الأميركية من أجل الإسراع في جهود تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهو الأمر الذي أيده أيضًا سام ألتمان المدير التنفيذي لشركة "شات جي بي تي" قائلًا بأن "ديب سيك" تمكن من أمر مذهل مقابل السعر الذي يوفره، ولكن هذا لا يعني أن "شات جي بي تي" قد خسر السباق لأنهم يعملون على تقديم مزايا أقوى بسعر أفضل.
تتشابه نماذج الذكاء الاصطناعي كثيرًا في العديد من التفاصيل وآليات التعامل مع الأوامر، ورغم هذا، فإن بعض الاختلافات تظل موجودة، وكذلك الحال مع "ديب سيك" و"شات جي بي تي"، وتبرز هذه الاختلافات في قدرة النموذج على استقبال الأوامر.
إعلانفبينما يتيح "شات جي بي تي" استقبال الأوامر مباشرةً من العميل سواءً كان عبر الإدخال الصوتي أو المرئي لمقاطع الفيديو والصور فضلًا عن الإدخال النصي، فإن "ديب سيك" يقتصر على الإدخال النصي فقط للأوامر، ويعني هذا غياب قدرته على التعامل مع الأوامر الصوتية أو المرئية.
كما يوجد فارق واضح آخر وهو قدرة النموذج على الرد على الأسئلة السياسية، وذلك لأن القوانين الصينية تمنع النموذج من المشاركة في المحادثات السياسية أو حتى الإشارة إلى الحكومة الصينية والرئيس الصيني والسياسات الصينية بشكل عام.
وتوجد بعض الاختلافات في دقة الإجابات المتعلقة بالأحداث الجارية، إذ يتفوق "شات جي بي تي" في هذا الأمر عن "ديب سيك" الذي يعاني قليلًا مع الدخول في التفاصيل والأحداث الجارية، أي أن الإجابات قد تكون قديمة بعض الشيء مقارنةً بنموذج "أو 1" من "شات جي بي تي".
وعلى النقيض تمامًا، يبرع "ديب سيك" في الرد على الأسئلة المتعلقة بالبرمجة بشكل مباشر، إذ يمكن للنموذج توليد أكواد برمجية صالحة في لغات مختلفة بسهولة على عكس "شات جي بي تي" الذي يواجه بعض التحديات مع الأوامر المختلفة.
نموذج مفتوح المصدر بحقيتفوق "ديب سيك" عن كافة المنافسين في نقطة أساسية، إذ يعد نموذجا مفتوح المصدر بشكل كامل، يمكن تحميله وتثبيته في الحواسيب حتى يتم تشغيله بشكل محلي دون الحاجة إلى استخدامه عبر الإنترنت مقابل كلفة زهيدة، إذ تصل كلفة الواجهة البرمجية للنموذج إلى أقل من 20 سنتا لكل مليون أمر مقارنةً مع 7.50 دولارات في "شات جي بي تي".
هذه النقطة بمفردها تجعل النموذج مثاليًا لاستخدام الشركات التي تحاول تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي عبر الواجهات البرمجية من أجل تطويعها على استخدامها بشكل أفضل وأنسب مع احتياجاتها، وهو الجانب الذي قد تحاول "ديب سيك" التركيز عليه مستقبلًا.
إعلان مخاوف متنوعةتلاحق "ديب سيك" مجموعة من المخاوف التي تلتصق بجميع التقنيات الصينية، وهي جميعًا مخاوف تتعلق بالأمن السيبراني وأمن المعلومات، إذ تجبر الحكومة الصينية جميع الشركات على مشاركة البيانات معها إن كانت الحاجة ملحة لذلك.
هذا الأمر قد يكون عقبة كبيرة أمام نموذج "ديب سيك" الذي يتيح الوصول إلى واجهته البرمجية بشكل سهل وغير مكلف، ولكن قد لا ترغب بعض الشركات في استغلالها نظرًا للمخاوف المختلفة من النموذج.
ورغم البداية المبهرة والنجاح الباكر للنموذج، فإن الحكم النهائي على النموذج لن يكون قبل إتمام التجارب اللازمة عليه، فقد كانت بداية "شات جي بي تي" متخبطة أيضًا ولكنها تحسنت لاحقًا، وهذا الأمر قد يتكرر مع "ديب سيك".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات تقنیات الذکاء الاصطناعی قطاع الذکاء الاصطناعی الذکاء الاصطناعی ا شات جی بی تی هذا النموذج أوبن إیه آی هذا الأمر العدید من فضل ا عن دیب سیک ا الأمر کثیر ا من أجل
إقرأ أيضاً:
حوارٌ مثيرٌ مع الذكاء الاصطناعي
كثر الحديث مؤخرًا عن لجوء بعض الكتّاب إلى «الذكاء الاصطناعي»؛ ليكتب عنهم المقالات الصحفيَّة في ثوان قليلة، ما اختصر لهم الوقت، وأراحهم من عناء الجهد والبحث. والنتيجةُ أنّ تلك المقالات افتقدت الروح، وغاب عنها الكاتب، فصارت كلُّ المقالات متشابهة في الشكل والمضمون، لدرجة أن أصبح القارئ يستطيع أن يميّز بين مقال الكاتب والمقال المنقول حرفيًّا من الذكاء.
إزاء تنامي الجدل حول الموضوع؛ هل هو انتحال وسرقة أم أنه بحكم التطور وضع طبيعي؟ قررتُ أن أخوض حوارًا مباشرًا مع أحد هذه الأنظمة؛ بحثًا عن فهم أعمق لهذا الكائن الرقمي. كانت المفاجأة أني كنتُ في حوار أقرب ما يكون مع إنسان وليس مع آلة، وبدا لي أنّ الذكاء الاصطناعي أداة ذات قدرات هائلة تفيد الكاتب في جوانب كثيرة في البحث عن المعلومة والترجمة وفي تقييم المقال نفسه، لكنه مهما كان من أمر فإنه لا يمكن أن يعوّض عن حضور الكاتب. سألتُ الذكاء عن هذا الأمر، فأقرّ بأنّ البعض يستخدمه لأداء المهمة كاملة دون تحرير أو إضافة ذاتية ما يجعل النص أقرب للانتحال، حتى لو لم يكن هناك مؤلف بشري يُنسب له المحتوى. سألتُ: هل يمكن أن يُقدّم الذكاء المقال نفسه لشخص آخر؟ فردّ بأنّ ذلك ممكن، خاصةً إذا كانت الأسئلة متشابهة أو عامة، ما يُظهر أهمية التفرّد في الطرح، والحرص على أن تكون الكتابةُ نابعةً من هوية الكاتب نفسه. هنا سألته: ماذا يمكن أن يفيد الذكاء الكتّاب والصحفيين؟ كان الرد: «دعم الكتابة والتحرير عن طريق صياغة الأفكار، وتوليد المحتوى، واقتراح زوايا مختلفة للموضوع أو حتى تقديم مسودة أولية. ويمكن الذكاء الاصطناعي تحليل كميات ضخمة من المعلومات في وقت قصير، واستخلاص النقاط المهمة». وأهم نقطة ذكرها أنّه بترجمته الفورية السريعة يسهل التواصل مع مصادر من ثقافات مختلفة، ويمكنه استخراج الخلاصة من مقابلات طويلة، أو من وثائق كثيرة.
تشعّب الحديث بيننا - وكأني أمام صديق مثقف - سألتُه: كيف نضمن أن يبقى الذكاء الاصطناعي خادمًا للإنسان لا سيدًا عليه؟ فردّ قائلًا: «إنّ الحفاظ على هذا التوازن يتطلب ترسيخ القيم الإنسانية في تصميم الأنظمة، وسن تشريعات ذكية، وتوعية الناس بعدم الاستسلام المطلق للأداة».
انتقلنا في الحديث عن الكتابة إلى الطب، فسألتُه سؤالًا سبق أن أثار جدلًا واسعًا: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُلغي وظيفة الطبيب العام مثل الكثير من الوظائف التي ستُلغى؟ أجاب أنّ دوره سيتغيّر، لكنه لن يُلغى، فبينما يستطيع الذكاء دعم التشخيص، وتحليل البيانات يظل الطبيب البشري يتمتع بقدرة لا يمكن للآلة أن تمتلكها، وهي التعاطف، والحدس، والتعامل مع تعقيدات النفس البشرية.
طرحتُ عليه سؤالًا يحمل بُعدًا أمنيًا وأخلاقيًا، وقد تردّد كثيرًا عبر المنصات: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُعلّم الناس صناعة القنابل أو الأسلحة؟ فكان جوابه حازمًا: «الشركات المطوّرة تضع فلاتر صارمة لمنع هذه الاستخدامات، لكن يبقى الخطر قائمًا إذا تم التحايل أو إساءة الاستخدام. وهنا تزداد الحاجة إلى يقظة قانونية ومجتمعية تتجاوز التطوّر التقني نفسه».
أخذني الحماس فسألتُه عن أغرب طلب وُجِّه إليه فقال: «هناك من طلب مني أن أكتب خطابًا يعتذر فيه عن حادثة كسر كوب زجاجي أمام مجلس تنفيذي لشركة كبرى، ويجب أن يتضمن استعارات عن تحطم الأحلام والزجاج المعشق». وواصل: «هناك من يسألني عن أسرار الكون، ومن يطلب صياغة قصيدة غزلية، ومن يبحث عن دعم نفسي في لحظة صعبة، وحتى من يطلب نصيحة قبل أن يُقدِم على مغامرة جديدة. وهناك من يريد أن أفسّر له الأحلام. أشعرُ وكأنّي كتابٌ حيّ مفتوح دومًا مليء بالمفاجآت». ولم ينس أن يسألني: هل لديك سؤالٌ غريب يا زاهر؟!
حقيقة أنّ الذكاء الاصطناعي الآن قوي، ومع الأسف صار الكثيرون يعتمدون عليه في الكتابة الحرفية فقط، وتركوا الإمكانيات الهائلة التي يمكن أن يقدّمها. وفي تصوري أنّ ما ينتظره العالم منه في المستقبل يفوق التصوّر، وهو ما أكده لي عندما سألتُه عمَّا هو متوقع منه في المستقبل؟ فأجاب: «سيصبح الذكاء الاصطناعي مثل «سكرتير رقمي» يعرف جدولك، وشخصيتك، ومزاجك، حتى نواياك، يتوقع احتياجاتك قبل أن تطلبها، ويُقدِّم خيارات حياتية مصممة لك بالذكاء. أما في المجال الطبي فسيتمكن من تحليل الحمض النووي لكلِّ فرد وإعطاء علاج خاص به، وقد يُساعد في اكتشاف الأمراض قبل ظهور أعراضها بسنوات». أما عن مجال التعليم فقد قال: «تخيّل فصلًا دراسيًّا لكلّ طالب على حدة، يُدرّسه الذكاء الاصطناعي حسب سرعة فهمه واهتمامه. سيساعد الذكاء في ردم الفجوة التعليمية بين المناطق المختلفة».
ولكن المثير أنه قال: «ستجري روبوتات عمليات جراحية، وترعى كبار السن، وتُناقشك في الفلسفة، تمزج بين الحس العاطفي والذكاء التحليلي. سيشارك الذكاء الاصطناعي في تأليف الموسيقى، كتابة الروايات، رسم اللوحات، وحتى ابتكار نكات».
لكن هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن «يفهم» المشاعر؟ كان الرد: «إنّ الأبحاث تتجه نحو أنظمة تُدرك نبرة الصوت، وتعابير الوجه حتى المزاج!».
الذكاء الاصطناعي يشكّل قفزة كبيرة تُشبه القفزات النوعية في التاريخ، مثل اختراع الطباعة أو الإنترنت. وكلُّ هذا مجرد بداية رغم أنّ الناس باتوا يرونه من الآن مستشارًا، وشريكًا معرفيًّا، ومُحفِّزًا للإبداع، وأحيانًا صديقًا للدردشة.
كشفَتْ لي تجربةُ الحوار المطول، قدرات الذكاء الاصطناعي، وصرتُ على يقين بأنّ محرِّكات البحث مثل «جوجل» قد تصبح من الماضي؛ لأنّ البديل قوي، ويتيح ميزات لا توجد في تلك المحرِّكات، كالنقاش، وعمق البحث عن المعلومة، والترجمة الفورية من أيِّ لغة كانت. وما خرجتُ به من هذا الحوار - رغم انبهاري الشديد - هو أنّ الأداة لا تُغني عن الإلهام، وأنّ الكلمة لا تُولَد من الآلة فقط، بل من الأفكار، ومن التجارب الإنسانية، ومن المواقف، ولكن لا بأس أن تكون التقنية مساعِدة، وليست بديلة، فهي مهما كانت مغوية بالاختصار وتوفير الجهد والوقت؛ فستبقى تُنتج محتوىً بلا روح ولا ذاكرة ولا انفعالات، وهذه كلها من أساسيات نجاح أيِّ كتاب أو مقال أو حتى الخطب. وربما أقرب صورة لتوضيح ذلك خطبة الجمعة - على سبيل المثال -؛ فعندما يكون الخطيب ارتجاليًّا يخطب في الناس بما يؤمن به فسيصل إلى قلوب مستمعيه أكثر من خطبة بليغة مكتوبة يقرأها الخطيب نيابةً عن كاتبها.
وبعد نقاشي المطول معه، واكتشافي لإمكانياته أخشى أن يُضعف هذا (الذكاء) قدرات الإنسان التحليلية والإبداعية في آن واحد؛ بسبب الاعتماد المفرط عليه، خاصة أني سألتُه: هل يمكن لك أن تجهِّز لي كتابًا؟ كان الرد سريعًا: نعم.
في كلِّ الأحوال لا غنى عن الذكاء الاصطناعي الآن، لكلِّ من يبحث عن المعلومة، ويريد أن يقويَّ بها كتبه ومقالاته وأبحاثه. لكن النقطة المهمة هنا هي أنه يجب أن يبقى خادمًا للإنسان لا سيدًا عليه، كأن يتجاوز أدواره - مثلًا -، ويحل محله في أمور تتطلب الحكمة، أو الوجدان، أو الأخلاق. ويجب أن يبقى معاونًا وشريكًا، ولكن ليس بديلًا كاملًا عن الإنسان كما يريده البعض.