14 عامًا من الحفاظ على الجذور الفلسطينية.. هوية توثق الماضي وتصنع المستقبل
تاريخ النشر: 6th, February 2025 GMT
لم يكن إبراهيم البيروتي يعرف أن اسمه سيصبح رمزًا للهوية الفلسطينية المشتتة، وأن قصة حياته ستُستعاد بعد عقود لتروي فصلاً من تاريخ شعب بأكمله. وُلِد إبراهيم عام 1906 في قرية عقربة الفلسطينية، وورث عن والده وجده ارتباطًا قويًا بين عقربة وبيروت. كان جده أحمد، الجندي في الجيش العثماني، يتنقل بين بيروت وعقربة، وقد أطلق على ابنه اسم “بيروتي” ليعكس هذه الصلة التي لم تنفصم.
نشأ إبراهيم في بيئة تحمل عبق الثورة والنضال، فكان ابن عمه عبد الله البيروتي أحد شهداء ثورة 1936. عمل إبراهيم كشرطي متنقل قبل أن يصبح مختارًا لعقربة بعد نكبة 1948، وقد عرفه الناس بحضوره المهيب وشخصيته الخدومة التي تخطت حدود قريته لتصل إلى القرى المجاورة. لكن الحياة التي عاشها كانت مليئة بالاضطرابات؛ إذ اضطر بعد احتلال الضفة الغربية عام 1967 إلى مغادرة وطنه تحت التهديد الإسرائيلي واللجوء إلى الأردن.
على مدار 14 عامًا، أثبتت “هوية” أن التاريخ الفلسطيني ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو رواية متكاملة مدعومة بالأدلة والوثائق والصور. عمل المؤسسة يؤكد أن لكل عائلة فلسطينية مكانًا وقصة تستحق أن تروى، وأن هذه الجذور التي ضربت في عمق الأرض لا يمكن اقتلاعها مهما حاول الاحتلال.
في أحد الأيام، وبينما كان فريق مؤسسة “هوية” يصنف آلاف الوثائق التاريخية، وقعت أيديهم على وثيقة نادرة تحمل اسم إبراهيم البيروتي. كانت الوثيقة استعادة لجنسيته الفلسطينية، وتزينها صورة لإبراهيم في لباسه العسكري. تحرك الفريق للبحث عن عائلة الرجل، وتواصلوا مع ابنه أكرم في الأردن.
عندما التقى فريق “هوية” بالعائلة، حملوا معهم الوثيقة النادرة، مؤطرة ومزينة بصورة إبراهيم. لأول مرة، شاهد أكرم والده في تلك الهيئة، وكأن الصورة كانت تجسيدًا حيًا لذاكرة أبيه التي لم يرها من قبل. تأثر أكرم وبدأ بسرد ذكريات عن والده، مضيفًا تفاصيل جديدة إلى سجل تاريخ العائلة. هكذا أعادت “هوية” وصل ما انقطع من ذكريات، وجعلت العائلة ترى في الماضي قوة تعيدهم إلى جذورهم.
هوية.. مشروع يحفظ الذاكرة ويصنع المستقبل
انطلقت “هوية” قبل 14 عامًا بمشروع وطني هدفه الحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية، في مواجهة محاولات طمس التاريخ والنفي التي حاول الاحتلال الإسرائيلي ترسيخها عبر عقود. قصة إبراهيم البيروتي ليست إلا واحدة من عشرات القصص التي عملت عليها المؤسسة. “هوية” تؤمن أن لكل عائلة فلسطينية رواية تستحق أن تُوثق، وأن لهذه الرواية القدرة على تأكيد الانتماء ونفي الادعاءات الصهيونية التي زعمت يومًا أن فلسطين كانت “أرضًا بلا شعب”.
مشروع شجرة العائلة.. إعادة الروابط بين العائلات المشتتة
بدأت “هوية” بجمع شجرة العائلة الفلسطينية كبرنامج عمل أساسي، وخلال 14 عامًا استطاعت المؤسسة توثيق أكثر من 6300 شجرة عائلة تعود أصولها إلى عشرات المدن والقرى الفلسطينية. لم يكن هذا الجهد مجرد توثيق أسماء، بل كان فرصة لجمع العائلات المتفرقة في بقاع العالم المختلفة. وقدمت المؤسسة منصة إلكترونية تتيح للأسر بناء شجراتهم بسهولة، ما جعل هذا المشروع وسيلة لإحياء الروابط العائلية والاجتماعية التي أضعفتها سنوات الشتات.
ذاكرة حية من شهود النكبة
ومنذ تأسيسها، أدركت “هوية” أهمية شهادات من عاشوا النكبة وشهدوا تفاصيلها. عملت المؤسسة على توثيق أكثر من 1200 شهادة في لبنان والأردن وسوريا وغيرها، لجعل هذه الروايات جزءًا حيًا من ذاكرة الأجيال القادمة. لم تكن هذه الشهادات مجرد روايات مكتوبة، بل مشاهد حية مليئة بالتفاصيل الإنسانية التي لم تجد مكانًا في الكتب الرسمية.
الصورة وثيقة حية
أما الصورة بالنسبة لـ”هوية” فهي ليست مجرد ذكرى، بل أداة قادرة على إعادة بناء الجسور المقطوعة بين العائلات. أطلقت المؤسسة مشروع “بنك صور شهود النكبة”، والذي يضم أكثر من 5000 صورة لشهود النكبة، إلى جانب 30 ألف صورة للعائلات الفلسطينية والمدن والقرى. هذه الصور أصبحت جزءًا من متحف الذاكرة، تؤكد أن للذاكرة الفلسطينية وجوهًا وأماكن لا يمكن محوها.
الوثائق.. شواهد مكتوبة على التاريخ
وفي السنوات الأخيرة، اتجهت “هوية” نحو جمع الوثائق التاريخية المتعلقة بالعائلات الفلسطينية، سواء من أرشيفات العائلات أو المكتبات العالمية. حاليًا، تعرض المؤسسة على موقعها أكثر من 26 ألف وثيقة، مصنفة حسب المدن والعائلات، لتكون مرجعًا لكل من يبحث عن جذوره أو تاريخ عائلته.
تدريب الشباب.. تحويل التوثيق إلى ثقافة عامة
لأن المهمة أكبر من أن تقوم بها مؤسسة واحدة، عملت “هوية” على نشر ثقافة توثيق تاريخ العائلة بين الشباب الفلسطيني. عبر ورش عمل وبرامج تدريبية، تم تأهيل أكثر من 600 شاب وشابة ليصبحوا جزءًا من هذا المشروع الوطني، وليساهموا في توثيق تاريخ عائلاتهم ومجتمعاتهم.
14 عامًا من العمل لصناعة ذاكرة وطنية
على مدار 14 عامًا، أثبتت “هوية” أن التاريخ الفلسطيني ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو رواية متكاملة مدعومة بالأدلة والوثائق والصور. عمل المؤسسة يؤكد أن لكل عائلة فلسطينية مكانًا وقصة تستحق أن تروى، وأن هذه الجذور التي ضربت في عمق الأرض لا يمكن اقتلاعها مهما حاول الاحتلال.
مشروع “هوية” ليس فقط توثيقًا للماضي، بل هو صرخة في وجه النسيان، ورسالة للأجيال القادمة بأن هذا الشعب له جذور لا تموت، وأرض لا تُنسى، وحق لا يُضيع.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي تقارير الفلسطينية تاريخ هوية مشروع فلسطين تاريخ مشروع هوية سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة أکثر من
إقرأ أيضاً:
الأمة.. إشكالية هوية ما بعد التاريخ (3)
استعرضنا في المقال الثاني من سلسلة "الأمة.. إشكالية هوية ما بعد التاريخ" حال الأمة منذ أن بدأت تتشكل ومع توسعها، حتى مع حالة الولايات واستقلال كل أمير بولايته ظلت هذه الأمة متماسكة، لا تناقش الفكرة أساسا، ولا يخطر لها ببال أنه سيأتي زمان عليها تناقش جدلية هل هي أمة واحدة أم متفرقة. وكان سقوط الخلافة العثمانية يمثل الصدمة الأولى لهذه المجموعة البشرية التي تسكن بقعة جغرافية متصلة، رغم التمهيد لهذا السقوط بتمرد عرقي، عُرف فيما بعد بالقومية، حيث مثلت القومية بديلا للدولة الكبرى، وحلما للاستقلال، ثم تتصاعد الفكرة وتصدم بهزيمة 1967، لتتلقف هذه الهزيمة بعض الممالك، وتعمل على تحطيم فكرة القومية العربية، وتعمل في ذلك على مهل، لا سيما بعد اتفاقية السلام بين مصر والاحتلال الإسرائيلي، ليحمل الرئيس السابق حسني مبارك رغبة الممالك ليكون معولا في هدم الفكرة في مخيال أكبر شعب عربي.
في تعريف الأمة لدى السياسيين الغربيين أنها كيان سياسي مستقل في دولة واحدة موحدة تجمع أفرادها وفئاتها رابطة اجتماعية اقتصادية وثقافية، وهي الرابطة القومية، بعيدا عما كان قائما من قبل بارتباط الأمة بأسرة حاكمة، أو ممثلي الإرادة الإلهية (القساوسة)، لذا يمكن فهم فكرة مشروع تقسيم المنطقة إلى دويلات مبنية على العرق التي طرحها برنارد لويس، ثم تبنتها وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، وعملت على تنفيذها من خلال الإيقاع بالدول في أخطاء تاريخية، كما حدث مع صدام حسين في احتلاله للكويت، والذي ترك جرحا غائرا وترك معه مبررا لقتل فكرة الأمة. ولا تزال الإدارات الأمريكية تسعى لذلك، سواء على المستوى السياسي المباشر أو من خلال منظمات المجتمع المدني الأجنبية التي تعمل على تأليب الأقليات وإغراءها بدولة مستقلة.
بعد هذه الحقبة التي عاشتها الأمة من تسطيح لفكرة الأمة والتهوين منها، بل تسفيهها في قلوب الشعوب، يجدر البحث عن تصنيف هذه الشعوب المجتمعة في هذه البقعة الجغرافية المترامية الأبعاد، لا سيما وهي تبحث عن ذاتها في زمن متسارع تصطف فيه الشعوب وتتوحد من أجل البحث عن هوية تجمعها، أو مصلحة تربطها
فكرة تقسيم الدول على أسس عرقية هي بالأساس لضرب فكرة الأمة، ودعني عزيزي القارئ أقتبس من رائد فكرة تقسيم الأمة برنارد لويس حيث يقول: "إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون لا يمكن تحضيرهم، وإذا تركوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمر الحضارات وتقوض المجتمعات، ولذلك فإن الحل السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية. وفي حال قيام أمريكا بهذا الدور فإن عليها أن تستفيد من التجربة البريطانية والفرنسية في استعمار المنطقة لتجنب الأخطاء والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان. إنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية".. انتهى كلام لويس، وانتهى معه الحديث عن مبررات من يبرر لتبنيه مشروع انتهاء فكرة الأمة لصالح الدولة الوطنية، وحتى هذه لن تعيش في ظل فكرة دولة الأقليات، فيما يعرف بتقسيم المقسم.
بعد هذه الحقبة التي عاشتها الأمة من تسطيح لفكرة الأمة والتهوين منها، بل تسفيهها في قلوب الشعوب، يجدر البحث عن تصنيف هذه الشعوب المجتمعة في هذه البقعة الجغرافية المترامية الأبعاد، لا سيما وهي تبحث عن ذاتها في زمن متسارع تصطف فيه الشعوب وتتوحد من أجل البحث عن هوية تجمعها، أو مصلحة تربطها.
لعل القضية الفلسطينية، وهي القضية الجامعة، أثارت شجون من يبحث عن هويته، بين من تعاطف مع مآسي هذا الشعب الضعيف المنهك المظلوم وانتفض لنصرة هذا الشعب ولو بالكلمة من منطلق القومية، وبين مماثله من منطلق ديني حتّم عليه المناصرة، وبين صنف آخر يرى أن هذه القضية لا تعنيه، حتى على المستوى الإنساني لم ينتفض لها لتأكيد هويته، كمنفك من هذا التصنيف الذي صنف الشعوب التي تعيش على هذه الجغرافية ووضعتُ له عنوان "أمة"، وهو رافض له ومعني بشؤون جغرافيته المحدودة.
يقول الفلاسفة القدماء إن أي جماعة تظل أمة افتراضية حتى تستطيع إقامة دولتها، فتخرج من دائرة الافتراضية إلى دائرة الأمة الفعلية، لها كيانها في الواقع الجغرافي السياسي، أو -المصطلح العصري- الجيوسياسي، ولو أن هذا الحال لا يتحقق في زمننا الحالي، كجماعة يجمعها دين وثقافة وموروث، وفي الأغلب لغة، في ظل الدولة القُطرية أو الدولة الوطنية التي صنعت بيد الاحتلال، فإن فكرة الأمة بالمنظور الفلسفي لا تنطبق علينا، على الأقل من الناحية السياسية، إذ إن الأمة الإسلامية الآن هي أمة مجزأة وموزعة على خمس وخمسين دولة، أو سبع خمسين بحسب التصنيف، يحكم كل واحدة منها نظام سياسي مختلف وحكومة مختلفة، حتى إن هذه الدول قد تتصارع فيما بينها على خط وهمي على الخريطة، بدافع السيادة وحراسة الحدود.
على المستوى الشعبي، فلا أظن أن تعريفات الفلاسفة الأقدمين، ولا منظري السياسة الحاليين، قد تنطبق على الحالة الشعبية التي تعيشها شعوب هذه الأمة، إلا الشاذة منها، فلا تزال تربطها روابط الدين، روابط روحية يمكن مشاهدتها في موسم الحج، أو في الملمات، وإلا فما معنى أن ينفطر قلب إندونيسي على طفل أو امرأة قضت في زلزال المغرب، ولماذا يخرج أهل سوريا من تحت براميل مجرم الحرب بشار الأسد ليدعموا المقاومة في غزة، ولماذا يبكي التركي عندما يرى الرجل الروهينغي وهو يعذَّب على يد مجرمي قوات الأمن في ميانمار، وما تفسير أن يعتصر قلب مصري لواقع المسلمين في تركستان الشرقية؟ بإيجاز هي الأمة التي يريد أعداؤنا أن ننساها أو تنحل عقدة رابطة الأخوّة بينها.
هذه الجغرافيا بتنوع شعوبها جمعتهم عقيدة واحدة، مهما حاول المتآمرون أن يزيّفوا الحقائق، أو يغيروا الوعي بخدعهم وأباطيلهم
صليتُ خلف عامل بنغالي (من بنغلاديش) في إحدى زياراتي لدولة خليجية، وبعد الصلاة سألته ممن تعلم القرآن بهذه الصورة الصحيحة إلى حد بعيد، مع الوضع في الاعتبار "أعجميته" في نطق الحروف، فقال إنه تعلمها من رجل كويتي كان قد عاش فترة في مدينتهم للتجارة، وكان في أوقات فراغه يعلم الناس التجويد وقراءة القرآن. ثم سألني: من أين أنت؟ فقلت له: من مصر، ولم يكن يعرفها جيدا، إلا أنه يعرف قصة يوسف، ويعرف فرعون موسى الذي عاش على هذه الأرض، لكنه لا يعرف من بعد التاريخ شيئا عن هذا البلد، لكنه يعرف فلسطين جيدا، وكان يدعو لباكستان أن ينصرها الله على الهند، وأحسست بالحسرة في كلامه عندما تطرق الحديث عن أوضاع المسلمين في الهند والإيغور، والروهينغيا.. ألا يمكن أن تكون هذه خصائص الأمة؟!
أزمة الأمة تكمن في القراءة النقدية للخريطة الإدراكية للمصطلح لدى عموم الشعوب التي تعيش على هذه الجغرافيا والتي جمعتها وحدة المصير قبل الدين، وإن كان الأخير هو ما صنع الأولى، إذ إن الحرب الشعواء التي تُشن على المصطلح إنما هي بالأساس من أجل الدين.
هذه الأمة وإن حاول الغرب والمتغربون، ومن يحمون مصالحهم ممن رأى أن 99 في المئة من مفاتيح اللعبة في يد الغرب، أن يغيّروها ويبدلوها، إنما هم موهومون، إذ إنهم مهما تمادوا في خدمة المشاريع الغربية والشرقية على حساب هذه الأمة، فإن من يخدمونهم لن يرضوا عنهم لو كانوا يعلمون، ولهم في شاه إيران وغيره في بلادنا العربية المثلُ والعِظة، لو كان يتعظون.
والخلاصة أن هذه الجغرافيا بتنوع شعوبها جمعتهم عقيدة واحدة، مهما حاول المتآمرون أن يزيّفوا الحقائق، أو يغيروا الوعي بخدعهم وأباطيلهم، فقد أنهى الله هذه المسألة بقوله: "وإن يريدوا أن يخدعوك، فإن حسبك الله هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين، وألّف بين قلوبهم. لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم، ولكن الله ألّف بينهم إنه عزيز حكيم".
لكن يبقى السؤال الذي طرحناه، وهو إشكالية البحث: من نحن؟ والأهم ماذا نريد؟
ولعلنا نحاول أن نجيب عن هذا السؤال في المقال القادم إن شاء الله.