اتربص ما أزال بالليبرويساريين الذين يصعب عليهم العيش ويتنكد في الديمقراطيات التي أفنوا العمر لاستعادتها من براثن نظم للديكتاتورية في 1958، 1969، 1989. فمتى فازت القوى التقليدية أو المحافظة في انتخاباتها قنعوا من البرلمانية ظاهراً وباطناً وقضوا عليها بانقلاب، أو بطلوع الخلاء في أثر جيش خلاء. وكنت أخذت عليهم تقززهم من البرلمانية في عمودي الراتب في جريدة الخرطوم في 1978-1988 حين بدا لي زهدهم في الديمقراطية الليبرالية وعزيمتهم على الخلاص منه بالهزء، وبالإضراب عن استثمار إمكاناتها لتنشئة ثقافة ديمقراطية لا يولد شعب بها بل يرعرعها بالممارسة.

وأزعجني منهم سخريتهم من نائب عمالي عن مدينتي، عطبرة، وصفوه بالحصر والعي. وكان ذلك عندي اعتراض مؤسف على عامل أثناء أدائه لبروليتاريته مما لا أجد له عذراً ويسقمني. وكتبت كلمة في المعني واقترحت، من معرفتي بجوانب من في الديمقراطية في أمريكا، سبلاً لتمكين ممثلي الشعب من مثل عامل عطبرة من أن يلحن بالقول في البرلمان. فقد خشيت أن يتفق لهؤلاء الهازئة من البرجوازية الصغيرة أن النيابة لا تكون إلا لمن تدبج بشهادة جامعية بما يجعل البرلمان لمة أفندية تكنوقراطية.
إذا انتقلنا من حديث السياسية إلى السياسات سنجد أن كلمة الدكتور أحمد إبراهيم أبوشوك عن دار الوثائق القومية (بعد ثورة ديسمبر 2018) مثالاً طيباً لهذه النقلة. فلم ينشغل بتسيس إدارتها في ظل النظام المباد دون تمييز متانتها ك”ذاكرة للأمة” برغم ذلك. فلم يشغله عدوان الإنقاذ عليها دون عرضها تاريخها، ومأثرتها والرجال والنساء الذين اعتنقوها بالسهر والحمى. وترصّد آفاق ترقيها لا بعد زوال نظام أحسن إليها بوجوه وأساء إليها بوجوه كثيرة فحسب، بل لتلقى تحديات تكنلوجيا التوثيق المعاصرة، واستزادة الإيداع الحكومي والأهلي فيها، وتسليس خدمتها الوثائقية لدواوين الدولة.

ذكر أبوشوك قيام الدار القومية للوثائق، في صورة مكتب لمحفوظات السودان، بوزارة الداخلية في 1948. ثم صارت دار الوثائق المركزية في 1965 ودار الوثائق القومية في 1982. وانتقلت إلى دار مصادرة كانت للمرحوم الإمام عبد الرحمن المهدي على شارع الجمهورية ثم لمبانيها الجديدة حسنة الإعداد لمهنة التوثيق في نحو 2005. ولي ذكريات مع دارها الأولى والثانية. فاذكر أول معرفتي بها كانت حين شرعت في البحث العلمي بجامعة لخرطوم في 1966 وغشيتها في وزارة الداخلية لألتقي بالمسؤول عنها المرحوم محمد إبراهيم أبو سليم الذي صار مديرها حتى تقاعده في 1995. أما الدار الثانية على شارع السيد عبد الرحمن فكنا نغشاها ممثلين لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم على عهد حكومة عبود لاجتماعات الجبهة الوطنية التي رعاها طيب الذكر الإمام الصديق المهدي على قبره سحائب الرحمان.
كلمة أبو شوك وافية. فهو ابن بجدتها عمل في دار الوثائق حيناً ثم انتقل إلى الجامعات أستاذاً محسناً للتاريخ لأنه يكتب من فوق معرفة دقيقة بدروب الوثيقة فيها. ولا أزيد هنا على كلمته في سوى التوسع في ضروب الخدمات التي نرنوا لتقوم الدار بها للدولة بتوفير الوثائق متى احتاجت لدراسة شأن شاغل مثل لجنة تصفية الإدارة الأهلية في 1964، أو حتى ما زودت به مصر لتحقق لها تبعية طابا من براثن إسرائيل.

من رأيي أن تتوسع خدمات دار الوثائق لخدمة نواب البرلمان كما تخدم مكتبة الكونغرس مجلس النواب والشيوخ الأمريكيين في تكوين رأيهم حول المشروعات المعروضة عليهم. ومعلوم أن هذا الغرض كان السبب في نشأة المكتبة الأمريكية أصلاً. ولهذا الاقتراح مني قصة عمرها فوق الثلاثين عاماً. فقد عدت من بعثتي للدكتوراه في أمريكا في 1987 مفتوناً بالمكتبة الأمريكية التي غشيتها مرات وبفكرتها. وزرت عطبرة ووجدتها تختنق بالسخرية من نائبها البرلماني علي محي الدين، أسطى الأوناش بالسكة حديد، تسلقه سلقاً لأنه لا يحسن التعبير عن نفسه والمدينة في مداولات البرلمان. وكانت النكتة عنه الأكثر سخرية (صدقت أو كذبت) أنه وقف مرة في البرلمان وقال إن مشكلة البلاد مشكلة أوناش. ووجدتهم من الجهة الأخرى يشيدون بالأداء البرلماني الفصيح لرفيقنا المرحوم محمد إبراهيم نقد اللسِن الحاذق.
وبالطبع أمغصني، كماركسي، هذا التعريض بعامل خلال أداء بروليتاريته. وكتبت كلمة في عمودي “ومع ذلك” بجريدة “الخرطوم” أدافع عن حق مثل على محي الدين (وهو اتحادي ديمقراطي بالمناسبة) في الوجود في البرلمان بغض النظر. وقلت إن نقد، على طول باعه السياسي، يتغذى بالمعارف، متى عُرض شأن ما على البرلمان، من مكاتب الحزب الاقتصادية والنسائية والشبابية والثقافية ليُلحن بحجته. وجاء هنا موضع عرضي لتجربة مكتبة الكونغرس في بذل المعارف حول الشؤون المعروضة أمام البرلمان حتى يدلي النائب دلوه في الأمر على بينة. وزدت، مفتتناً ما أزال بآليات المعرفة في صلب العملية الديمقراطية الأمريكية، باقتراح أن تكون للنائب البرلماني مكاتب في البرلمان وفي دائرته لخدمته في بحث المسائل المعروضة وتقليب الرأي معه حولها. وأذكر أن الدكتور على عبد القادر، الاقتصادي المميز، استحسن الفكرة وقال إنه لا يمانع أن يتطوع لمثل هذه الخدمة ولاء للسكة الحديد التي عمل بها والده.
وجئت لذلك الاقتراح من درب آخر أيضاً. فقد رأيت العزة بالشهادة الجامعية العليا في تزكية النواب للناس. وأكثر من اقترف هذه العزة الجبهة الإسلامية القومية فروجت لمرشحيها ببينة علو كعبهم في التعليم. وخشيت أن يتسرب للناس فهم مؤداه أن النيابة عن الشعب قاصرة على أهل الشهادة دون غيرهم من غمار الناس. واشمأزت نفسي، كعطبراوي ترعرع في الديمقراطية النقابية وقادتها اللسنين، من ترويج البرجوازية الصغيرة لنفسها كأهل الحل والعقد البرلماني لا شريك لهم.

ولما رأيت المزاباة الأخيرة بالشهادات في تكوين مجلس الوزراء الانتقالي عادني حديث “الأوناش”. وقلت هل يريد حملة الشهادات، على وزن حملة السلاح، أن يكون الحكم فيهم إلى جنى الجنى؟ وهي شهادات قال شكري غالي، نقلاً عن منصور خالد، إنها ليست علماً محضاً لأنها في واقع الأمر شهادات ميلاد طبقية.

عبد الله علي إبراهيم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: فی البرلمان دار الوثائق

إقرأ أيضاً:

9 حقوق و6 واجبات للمستفيد خلال زيارة حساب المواطن.. تعرف عليها

حدد برنامج حساب المواطن، حقوق المستفيد وواجباته خلال زيارة الباحث الاجتماعي.
تهدف الزيارة الميدانية للتحقق من صحة البيانات المقدمة لإثبات استقلالية المسكن للأفراد المستقلين، وقد تعاد الزيارة بشكل دوري حسب الحاجة، لضمان استمرار توافق بيانات المستفيد مع الضوابط والمعايير المعتمدة في البرنامج.
أخبار متعلقة طقس الأحد.. تنبيه من أمطار رعدية ورياح وغبار على 10 مناطقبسبب الرياح النشطة.. تنبيه من تدنٍّ في الرؤية بسكاكا ودومة الجندلالتواصل مع المستفيد
يتم التواصل مع المستفيدين المستقلين لتحديد موعد الزيارة الميدانية عبر مكالمة هاتفية أو رسالة نصية لمنطقتي الرياض وحائل من خلال الرقم (920031455) ولبقية مناطق المملكة عبر الرقم التالي (8005000006) ، وقد تتأثر أهلية المستفيد واستحقاقه للدعم في حال رفضه الزيارة الميدانية أو عدم التعاون وتزويد الباحث بالمعلومات المطلوبة، أو تخلفه عن موعد الزيارة المحددة.
.article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } أهم الوثائق المطلوبة عند زيارة الباحث الاجتماعي لمسكن المستفيد - إكسحقوق المستفيد خلال الزيارة
ويؤكد حساب المواطن على الباحث الاجتماعي الالتزام بالضوابط التالية أثناء أداء الزيارة:تحديد موعد الزيارة مسبقاً مع المستفيد ، مع توضيح الوثائق الرسمية المطلوبة.الالتزام بزيارة من باحثة اجتماعية في حال كان المستفيد أنثى.إبراز بطاقة العمل الرسمية والالتزام بالزي المعتمد.التحقق من البيانات والوثائق الرسمية مثل الهوية ، صكوك الملكية، أو عقود الإيجارالتأكد من توقيع المستفيد بعد تعبئة الاستبيانتوثيق الملاحظات والبيانات في نهاية الزيارة، تمهيداً لرفعها للجهة المختصة في البرنامج.التحلي بالمهنية والمصداقية والحياد التام في إعداد التقارير.مراعاة ظروف المستفيد النفسية والاجتماعية والصحية أثناء الزيارة.الحفاظ على سرية المعلومات والتخلص من أي وثائق حساسة بعد انتهاء الغرض منها. واجبات المستفيد خلال الزيارة
على المستفيد الالتزام بالضوابط التالية لضمان سير الزيارة الميدانية بسلاسة وفاعليةالالتزام بموعد الزيارة المحدد مسبقاً والتواجد في الموقع خلال الوقت المتفق عليه.التعاون الكامل مع الباحث الاجتماعي وتقديم المعلومات بشكل واضح وصحيح.تقديم الوثائق الرسمية عند الطلب من قبل الباحث مثل : الهوية الوطنية، صك الملكية مع فاتورة الكهرباء أو عقد الإيجار معفاتورة الكهرباء وسند سداد الإيجار، وكل ما يحتاجه الباحث للتحقق من استقلالية المسكن.الامتناع عن تعطيل إجراءات الزيارة أو عرقلة أداء الباحث لمهامه.التعامل مع الباحث الاجتماعي باحترام وأدب، بما يعكس التعاون والمسؤولية.

مقالات مشابهة

  • تغير شكل أصابعك علامة على مشكلة صحية خطيرة
  • الرئيس اللبناني: لا يمكننا أن نكون خارج مسار التسويات..وترامب يحث لبنان على السلام مع جيرانه
  • انطلاق الحملة القومية لمكافحة القوارض بالشرقية
  • لحل مشكلة الكثافة..محافظ المنيا يعلن إنشاء مدرسة بنزلة البرشا للتعليم الأساسي
  • نقص بعض الأدوية مشكلة في أوروبا لا علاج لها بعد
  • وثائق سرية كشفت المستور .. إسرائيل وسعت تعاونها العسكري مع 6 دول عربية بحرب غزة
  • وظائف الهيئة القومية لسكك حديد مصر 2025
  • 9 حقوق و6 واجبات للمستفيد خلال زيارة حساب المواطن.. تعرف عليها
  • 6 دول عربية كثفت التعاون العسكري سريا مع إسرائيل خلال الحرب على غزة
  • رئيس جامعة أسوان: نعمل على أن نكون نموذجا يحتذى به في الجمال والنظام