لطالما كانت اللغة أداة قوية في تشكيل الوعي، سواء في قمع المجتمعات أو تحريرها. بالنسبة للروائية الأمريكية توني موريسون، لم يكن الأدب مجرد وسيلة لرواية القصص، بل كان سلاحًا لمواجهة العنصرية وإعادة كتابة التاريخ الأسود من منظور مختلف. بأسلوبها السردي الفريد، استطاعت موريسون أن تخلق عوالم أدبية تعكس المعاناة والتجربة الإنسانية للأمريكيين السود، مستخدمة اللغة كأداة للتحرر والهوية.

إعادة تشكيل اللغة لرواية التاريخ الأسود

في أعمالها، لم تستخدم موريسون اللغة السائدة في الأدب الأمريكي التقليدي، بل أعادت صياغتها لتتناسب مع التجربة السوداء، تجنبت السرد المباشر والمسطح، وبدلًا من ذلك، قدمت أساليبًا سردية معقدة تعتمد على تعدد الأصوات، الزمن غير الخطي، والإيحاءات الشعرية، مما منح أعمالها طابعًا مميزًا وأقرب إلى روح الروايات الشفهية المنتشرة في الثقافة الإفريقية الأمريكية.

في روايتها الأشهر محبوبة استخدمت موريسون السرد المتداخل لاستحضار معاناة العبودية بطريقة تجبر القارئ على الشعور بآلام الشخصيات، وكأنها ذكريات حية لا يمكن الفرار منها. هذا الأسلوب جعل القارئ يختبر العبودية ليس كمجرد سرد تاريخي، بل كحقيقة نفسية وشعورية يعيشها الأبطال.

تحرير الشخصيات من اللغة القمعية

في الكثير من الأدب الأمريكي التقليدي، كانت الشخصيات السوداء غالبًا ما تُعرض من منظور أبيض، حيث يتم اختزالها إلى أنماط نمطية أو شخصيات هامشية. لكن موريسون قلبت المعادلة، فجعلت شخصياتها السوداء محور السرد، ومنحتها لغة خاصة بها، تخرج عن القوالب المعتادة وتعبّر عن هويتها الذاتية.

في العين الأكثر زرقة، استخدمت موريسون لغة شعرية لكنها قاسية، لتكشف عن الأثر النفسي للعنصرية الداخلية على فتاة سوداء صغيرة تحلم بالحصول على عيون زرقاء. من خلال هذه الرواية، سلطت الضوء على كيف يمكن للغة والثقافة أن تعيد إنتاج أوهام الجمال والتفوق العرقي، مما يؤدي إلى تدمير الذات من الداخل.

كسر القواعد اللغوية لاستعادة الهوية

لم تكن موريسون تلتزم بالقواعد اللغوية التقليدية بشكل صارم، بل كانت تكسرها عمدًا في بعض الأحيان، لتجسد تجارب شخصياتها بطريقة أكثر أصالة. كانت تستخدم التكرار، الغموض، والتلميحات الثقافية لإيصال مشاعر لا يمكن التعبير عنها بسهولة بالكلمات. هذا الأسلوب جعل قراءتها تجربة حسية أكثر منها مجرد مطالعة نص أدبي.

اللغة كأداة لمقاومة العنصرية

في خطاباتها وكتاباتها النقدية، أكدت موريسون مرارًا أن اللغة ليست محايدة، بل يمكن أن تكون أداة للقمع أو وسيلة للتحرر. من خلال أعمالها، أعادت تعريف كيفية تصوير الشخصيات السوداء في الأدب الأمريكي، وساهمت في تفكيك الخطاب العنصري الذي كان يهمش تاريخ وثقافة الأمريكيين من أصول إفريقية.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: العنصرية الأدب توني موريسون الأدب الأمريكي المزيد

إقرأ أيضاً:

باحثون وأكاديميون يؤكدون أهمية السرد القصصي في تشكيل الوجدان الأخلاقي وتعزيز الانتماء لدى النشء

"العُمانية": تشكّل القصص القصيرة التي تنسج أحداثها بطرق مدروسة مرتكزًا مهمًّا للطفل والناشئة في غرس جملة من القيم الإنسانية والأخلاقية في داخله، عبر عرضها بصورة ماتعة، من خلال استخدام بعض الصور التوضيحية، والتركيز على شخصية البطل لجذب الطفل.

ويمكن أن تقوم القصة القصيرة بدورها التربوي والثقافي إذا التزمت بمجموعة من الأسس والمرتكزات عند مراعاة الكاتب في قصصه السرد المنطقي للأحداث، عبر تسيير الأحداث بطريقة متسلسلة تجذب القارئ، ليكتسب مجموعة من القيم منها: الرحمة والعطف والاحترام والعدل والصدق.

وتقول الدكتورة أمل بنت سالم المغيزوية أخصائية أنظمة مدرسية بوزارة التربية والتعليم إنّ القصة الصغيرة أسهمت بدور كبير في تعزيز الكثير من القيم الإنسانية المتباينة عبر العصور وتتابع الأجيال وتقوية وترسيخ مجموعة من القيم الأخلاقية والإنسانية التي تدفع الطفل لاكتشاف مفهوم القيمة والبحث عن دورها في الحياة والتركيز على أهميتها في حياته.

وأضافت أنّ القصة الصغيرة التي تكتب بطريقة إبداعية وبشكل إيجابي يمكن أن تؤثر في الأطفال والناشئة، حيث يجد فيها القارئ ملاذًا آمنًا داخلها وتعلمه القيم الفاضلة في التعامل وتُعزز قيمتها وأهميتها داخل الإنسان، فيتقمص تلقائيًّا تلك الخصال في تعامله مع الجميع.

ووضّحت أنّ الكثير من القصص تعمل على صقل شخصية الطفل وتسهم في بناء الكثير من جوانب شخصيته عبر القراءة والاطلاع، فيصبح قادرًا على المناقشة والحوار، ويُعبّر عن وجهة نظره بطريقة إيجابية دون خوف أو وجل، مشيرةً إلى أنّ الكثير من القصص تناولت التركيز على قيم الانتماء للوطن وللأسرة إلى جانب مفهوم تشكيل الهوية الفردية لدى الأطفال والناشئة، لتعمق من شعوره بالانتماء لوطنه وتدفعه للذود عنه، وترسخ في داخله الإحساس بالفخر لمنجزاته والعمل بشتى الطرق لرفعته.

ولفتت قائلةً إنه ينبغي للكاتب أن يدرك بأنه يتعامل حاليًّا مع جيل تقني يختلف عن الأجيال السابقة، بحيث يراعي تغيرات العصر، ويسعى لغرس القيم من خلال الكتابة بشكل أكثر جاذبية، ليصبح قادرًا على تحقيق هدفه في غرس القيم التربوية بطريقة فاعلة.

وفي السياق ذاته قالت الدكتورة وفاء بنت سالم الشامسية أكاديمية متخصّصة في ثقافة الطفل إنّ القصة القصيرة يمكن أن تقوم بدور محوري في تعزيز القيم الإنسانية لدى الأطفال والناشئة، كونها أداة سردية قادرة على تجاوز الحواجز الزمنية والثقافية واللغوية، والوصول إلى الطفل في لحظاته الخاصة من التأمل والتلقّي. ففي عمر الطفولة، تكون القيم في طور التشكّل، والخيال يعمل مثل نافذة لتفسير العالم وهنا تأتي القصة القصيرة لتكون "الوسيط الحي" بين الفكرة المجردة والتجربة المعيشة.

وأضافت أنّ القصة القصيرة لا تقدم القيم باعتبارها خطابًا، بل تعيشها وتُمسرحها داخل النص، فالطفل لا يسمع عن "العدالة" بوصفها قيمة، بل يراها تتحقّق من خلال بطلٍ يتعرّض للظلم ثم يستعيد حقه، أو يرى أثر التعاطف حينما يعتني أحدهم بصديقٍ ضعيف. وبهذه الطريقة، تصبح القيم كائنات حيّة يتفاعل معها الطفل لا شعارات تُلقن له.

وبينت أنّ القصة يمكن أن تصبح وسيلة تربوية ثقافية قادرة على نقل القيم من جيل إلى جيل في سياق طبيعي غير قسري، عبر سردية واحدة تحمل القيم الجوهرية للإنسانية: الرحمة، والصدق، والإيثار، والشجاعة، والتسامح، وأنّ الوعي القيمي لا يتكوّن فقط بالمعرفة، بل بالتجربة، والتقمّص، والربط الشعوري.

وذكرت أنّ القصة القصيرة تقدم للطفل مساحةً آمنة ليمارس هذا "التجريب القيمي" في بيئة خيالية. حين يواجه البطل أزمةً أخلاقية، ويتخذ قرارًا فيه تضحية من أجل الآخر، ويتابع الطفل التفاصيل ويعيشها بانفعاله، مما يجعل القيمة ترتبط لديه لا بمفهومها اللفظي، بل بنتائجها الحقيقية مثل العدل يريح القلب، والخيانة تؤلم، والشجاعة تُنقذ، مما يجعل هذه الخبرات المصغّرة التي يعيشها الطفل داخل القصة، تتراكم مع الوقت، وتشكّل ما يمكن أن نسمّيه "الوجدان الأخلاقي"، وهو نمط تلقائي من الاستجابة القيمية للمواقف الواقعية في الحياة، لتُحدث التحوّل من الخارج إلى الداخل، ومن التقليد إلى القناعة، ومن الإملاء إلى الاكتشاف.

وأشارت إلى أنّ القصة القصيرة تمثل القوة التأثيرية في كونها تُحدث التغيير عبر "اللعب الرمزي"، لا عبر المواجهة الصريحة، وهذا التأثير الإيجابي يظهر في ثلاثة أبعاد رئيسة وهي البُعد السلوكي إذ تُسهم القصة في تعديل السلوك اليومي للطفل عبر نماذج يُحبها ويثق بها (شخصيات القصة).

وذكرت أنّ البُعد الوجداني للقصص يجعل الطفل يتعاطف، ويحزن، ويفرح، ويقلق مع الشخصيات، ما يطوّر قدرته على فهم مشاعر الآخرين، وهو ما يُعرف بالذّكاء العاطفي، وهو شرطٌ أساسي لاكتساب القيم الإنسانية.

أما البعُد الثالث المجتمعي فيتمثل في تنشئة الطفل على قيم التشارك والتفاعل الإيجابي، فتنقله القصص القصيرة من مركزية الذات إلى الوعي بالآخرين، وهي خطوة بالغة الأهمية في تشكيل إنسان مسؤول اجتماعيًّا.

وأشارت إلى أنّ الهُوية لدى الطفل تُبنى من خلال التعرّف إلى الذات أولًا، ثم إلى المجتمع، ثم إلى الرموز الثقافية الكبرى، فالقصة القصيرة حين تُكتب بوعي ثقافي ووطني تؤدي دورًا تأسيسيًّا في هذا المسار من خلال ترسيخ الانتماء الثقافي. وعندما يقرأ الطفل قصة تجري أحداثها في بيئته، وتظهر فيها مفرداته اليومية، يُعزز ذلك فخره بهُويته الثقافية ويقلّل من اغترابه أمام صورٍ نمطية دخيلة عليه.

وذكرت أنّ القصة تبني دعم الهوية الفردية، من خلال مساعدته على فهم أن له دورًا في العالم، وأن له رأيًا، وصوتًا، وقدرة على التغيير. كما تعمل القصة على تفعيل الانتماء القيمي عبر منظومة أخلاقية يشترك فيها مع البشرية، في ذات القيم من الحب، والصداقة، والأمان، والأمل، وتقوم القصة بالجمع بين الترفيه والتربية والمعرفة في آنٍ واحد، وهذا ما يجعلها أداة ذهبية في يد المربي والمثقف.

وأشارت إلى أنّ القصة تقوم بدور تربوي عبر تقديم مواقف حياتيّة مُبسّطة تحمل بذورًا عميقة للتوجيه السلوكي، دون أن يشعر الطفل بأنه تحت رقابة أو ضغط، مثل الاعتذار، واحترام الكبير، وضبط النفس.

كما تؤدي دورًا ثقافيًّا تُعرّف الطفل بمفردات لغوية، وعادات، وتراث، وأمثال، وفنون شعبية، مما يوسّع أفقه المعرفي ويجعله ينتمي إلى ثقافة حية قابلة للتجديد، كما تمنحه نافذة على ثقافات الآخرين، فيتشكّل لديه "الاحترام المتبادل" بدلًا من "الرفض أو الانبهار".

ووضّحت أنه عند دمج القصة بين الخيال والعلم، أو بين الفلكلور والأسئلة الفلسفية، تصبح أداة شاملة في تكوين عقلية الطفل المتفتحة، وتتحوّل من مجرد نشاط قرائي إلى "تجربة تربوية ثقافية مكتملة".

من جانبها ترى الشاعرة بدرية بنت محمد البدرية أنّ القصة عبارة عن رسالة غير مباشرة يرسلها الكاتب للطفل تضعه أمام تحدٍّ أو مشكلة ثم يجعله يكتشف الحل الذي لا يكون إلا بقيمة إنسانية يحاول الكاتب غرسها في النشء.

وأضافت أنّ الإنسان يُقاس عمومًا بحصاد تجربته وما عاشه ونشأ عليه منذ طفولته، مشيرة من خلال تجربتها القصصية الموجهة للطفل إلى أن هذه القصص تعمل على غرس قيم الحب والسلام والوحدة والعلم والمعرفة، من خلال إيصالها بشكل غير مباشر إلى الطفل عبر جوانب القصة الإيجابية والسلبية.

وأكّدت على دور الكاتب في إيصال الرسالة والقيمة التي يريد غرسها في الأطفال من خلال قصته، وتحديد أهدافه، وأنه لا حدود للأدوار التي قد يقوم بها الطفل، وقد وُجِدَ للتأقلم مع أي ظرف يوضع فيه، وعلى الكاتب أن يوجّه الأطفال إلى اختيار طريقته وفق مؤهلاته وهواياته.

مقالات مشابهة

  • محمد ثروت لـ الفجر الفني: تجربة ريستارت جديدة..وكان هناك ترشيحات للعمل مع تامر حسني من قبل ( حوار)
  • أهم الشخصيات العالمية زارته... تعرفوا على السان جورج الذي أعيد افتتاحه اليوم
  • الخميس.. مناقشة رواية «وطاويط النجع» بـ«اتحاد الكُتاب»
  • استخدمت إسرائيل ضدهم سلاح التجويع.. اقتحام مركز توزيع مساعدات
  • من السرد إلى الفعل الحضاري.. السيرة النبوية برؤية تجديدية.. قراءة في كتاب
  • الرجال البيض في ورطة.. انقلاب موازين العنصرية ببريطانيا
  • الإعلام الأمريكي يعترف: حملتنا على اليمن كانت مظللة وإنهاء حرب غزة هو الخيار الأمثل
  • باحثون وأكاديميون يؤكدون أهمية السرد القصصي في تشكيل الوجدان الأخلاقي وتعزيز الانتماء لدى النشء
  • توني ستارك التركي يكشف عن المسيرات ذات الذكاء الاصطناعي
  • السرد والبوكر وشهرزاد