تقدم أوروبا نفسها على الدوام باعتبارها حاضنة القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبلاد الحضارة التي أفرزت الثورة الفرنسية ومفكرين كبارا نظروا للقيم الإنسانية وتطورها.. وهذا سياق تاريخي يمكن فهمه جدا، إلا أن مواقفها السياسية خارج القارة وبشكل خاص في أفريقيا وفي الشرق الأوسط، تضرب هذا الطرح وتشظيه إلى حد يجعل البعض يشك أن أوروبا جان جاك روسو وفولتير كانط وهيجل ليست هي أوروبا التي تدعم إسرائيل بالسلاح من أجل إبادة الشعب الفلسطيني وتصمت عن خطة ترامب لتهجير الشعب الفلسطيني.

. إنها تفقد هويتها وتتلاشى كقوة مؤثرة في تاريخ العالم.

ومع دخول الحرب الروسية على أوكرانيا عامها الثالث، وتداعياتها على المشهد الجيوسياسي العالمي، بات واضحا، أيضا، أن أوروبا ليست لاعبا رئيسيا في تشكيل مسار الأحداث في العالم حتى لو كانت هذه الأحداث تهدد القارة وجوديا.. وتظهر أوروبا بشكل جلي جدا باعتبارها تابعة للقرارات الأمريكية، حتى وإن جاءت هذه القرارات على حساب القيم التي طالما نادت بها وشكلت تاريخها خاصة إذا ما تجاوزنا الجانب العملي في السياسات الخارجية الأوروبية.

إن أوروبا أمام درس مهم جدا لا بد أن تفهمه بشكل واضح من موقف الرئيس الأمريكي ترامب تجاه أوكرانيا: على أوروبا أن تعيد النظر فورا في سياساتها الدفاعية وفي استراتيجياتها الاقتصادية أولا، أما ثانيا وهذا هو الأهم عليها أن تعيد تقييم تحالفاتها وفق مصلحتها الوطنية، وليس وفق الأوامر التي تمليها عليها واشنطن.. فحين قرر ترامب التعامل مع الحرب على أوكرانيا باعتبارها ملفا اقتصاديا محضا؛ تجاهلت أوروبا الإشارة الأوضح على أنها مجرد ورقة تفاوضية على طاولة الكبار، وأن أمريكا لن تخوض حروبها إلا حيث تكون لها مصلحة مباشرة، أما حين يصبح الأمر مكلفا، فلا بأس من البحث عن صفقة مربحة، حتى لو كان ذلك على حساب حليف تاريخي مثل كييف.. وبالتالي على حساب أوروبا كلها.. بغض النظر عن مختلف المواقف التي قد تبدو متباينة في تفاصيلها من الحرب الأوكرانية الروسية.

لكن وفق هذه الرؤية لماذا لا تنسحب هذه الفكرة على موقف أوروبا من القضية الفلسطينية؟ لماذا تواصل أوروبا تمويل آلة الحرب الإسرائيلية، وتزويدها بالأسلحة، والتغاضي عن جرائمها بحق الفلسطينيين، بينما تتحدث في الوقت نفسه عن حق الشعوب في تقرير مصيرها؟ هل باتت أوروبا غير قادرة على استيعاب أن دعمها غير المشروط لإسرائيل يعيد إنتاج نفس النموذج الذي عانت منه أوكرانيا، حيث يتم استخدام قضية عادلة لمصالح خارجية؟

إن اللحظة الراهنة تمثل اختبارا حقيقيا لأوروبا، فإما أن تستعيد توازنها الأخلاقي وتعود إلى ميثاق القوانين الدولية، التي تتشدق بها على أقل تقدير، أو أن تستمر في دعم السياسات الإسرائيلية القائمة على الإبادة والتهجير والتوسع الاستيطاني، مما يعني أن دورها في الساحة الدولية سيتقلص أكثر فأكثر، ولن تكون أكثر من تابع لرؤية أمريكية متقلبة، تعتمد المصلحة المالية كقاعدة في اتخاذ قراراتها.. وقد لا يكون نموذج ترامب هو الأخير في قيادة أمريكا.

لا يحتاج الأوروبيون إلى دليل إضافي ليعرفوا أن إسرائيل ليست شريكا استراتيجيا، بقدر ما هي عبء سياسي وأخلاقي واقتصادي يجر أوروبا إلى صراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل.. فالمعادلة التي يفرضها الدعم غير المشروط لإسرائيل واضحة: أوروبا تخسر نفوذها في العالم العربي والإسلامي، تفقد فرصها الاقتصادية في المنطقة، وتعاني من تداعيات داخلية من خلال تصاعد التوترات العرقية والدينية، فيما تستمر إسرائيل في استغلال هذا الدعم لتحقيق أجندتها التوسعية دون أن تقدم أي ضمانات لأمن أوروبا أو استقرارها.

والعرب الذين يطلبون من أوروبا الانحياز إلى القيم التي طالما دافعت عنها، من حق تقرير المصير إلى احترام القانون الدولي، لا يطالبونها بالضرورة أن تكون معادية لإسرائيل لكن على أقل تقدير تتوقف عن تزويدها بالسلاح الذي ترتكب به المزيد من المجازر بحق الفلسطينيين واللبنانيين وأن تضغط من أجل حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، يضمن إقامة دولة مستقلة قابلة للحياة.. لا أن تصمت وربما تتواطأ مع ترامب الذي يريد تهجير الفلسطينيين من أرضهم.

على أن أوروبا في أمس الحاجة اليوم لعلاقات قوية مع العرب قبل أن تجد نفسها تشرب من الكأس نفسها التي شرب منها الفلسطينيون.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

لماذا أصبح العالم الإسلامي مركز جهود الوساطة وحل النزاعات؟

عندما كان زعماء العالم يجتمعون من أجل إحلال السلام في تسعينيات القرن الماضي، كانت وجهاتهم جنيف أو أوسلو. أما اليوم، فغالبًا ما يستقلون طائراتهم إلى الدوحة أو إسطنبول.

لقد كانت أوروبا، لعقود طويلة، مركزًا عالميًا لحل النزاعات. فقد لعبت دول مثل سويسرا والنرويج، بالاستفادة من حيادها والتزامها بالدبلوماسية، دورًا محوريًا في الوساطة بين الأطراف المتنازعة في صراعات دولية متعددة.

فقد قدّمت سويسرا عبر ما يُعرف بـ"المساعي الحميدة" خدمات تسهيل التفاوض في العديد من الملفات، من دعم عمليات السلام في سوريا وموزمبيق، إلى استضافة كيانات فاعلة في ساحة الوساطة، مثل "مركز الحوار الإنساني" الشهير عالميًا.

أما النرويج، فقد كانت مساهماتها لا تقل أهمية، إذ شاركت في اتفاقيات أوسلو، كما أدت دورًا بارزًا في عملية السلام في كولومبيا، مؤكدة بذلك التزامها العميق بتحقيق الانسجام العالمي.

غير أن مركز الثقل في هذا المجال شهد تحولًا لافتًا في السنوات الأخيرة، حيث انتقل من أوروبا إلى العالم الإسلامي، لا سيما من خلال بروز دولتي قطر وتركيا كقوتين محوريتين تسعيان لإيجاد حلول لبعض من أكثر النزاعات استعصاء في العالم.

ولعل الدور التركي في الحرب الروسية-الأوكرانية يُعد مثالًا كلاسيكيًا على هذا التحول. ففي يوليو/ تموز 2022، وبتعاون مع الأمم المتحدة، توسطت تركيا لإبرام "مبادرة البحر الأسود للحبوب" بين روسيا وأوكرانيا، ما سمح بتصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود بأمان.

وقد ساعد هذا الاتفاق في استقرار أسواق الغذاء العالمية، إذ تم تصدير أكثر من 32 مليون طن متري من الأغذية إلى الأسواق الدولية، ذهب جزء كبير منها إلى الدول النامية، قبل أن تنسحب روسيا من المبادرة في يوليو/ تموز 2023.

ومؤخرًا، أعلن كل من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن استعدادهما لإجراء جولة من المحادثات في تركيا، في محاولة للتوصل إلى وقف إطلاق نار، وإنهاء حرب أودت بحياة الآلاف، وشرّدت الملايين. ويشير ترحيب الطرفين باستضافة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لهذه المحادثات إلى سعي أنقرة للحفاظ على علاقات متوازنة مع الشرق والغرب، دون أن ترغمها التحالفات على الانحياز لطرف دون آخر.

إعلان

أما قطر، فجهودها الدبلوماسية المتعددة تُسلط مزيدًا من الضوء على تنامي تأثير العالم الإسلامي في ساحة الوساطة الدولية. فرغم تعدادها السكاني الصغير نسبيًا، فقد أدت قطر دورًا بارزًا في تسهيل الحوار بين أطراف متصارعة، واستمرت في ذلك على مدى نحو عقدين من الزمن. ولعل كثيرًا من نجاحاتها لم تحظَ بعناوين بارزة في الصحف، لكنها انخرطت بهدوء وفاعلية في الوساطة في نزاعات السودان، وتشاد، واليمن، بما يعكس التزامها العميق باستقرار المنطقة.

كما اضطلعت قطر بدور جوهري في محاولة التوصل إلى هدنة في غزة، بالشراكة مع حلفائها في الولايات المتحدة ومصر. وعلى الرغم من الانتكاسات المتكررة، والإحباط المتزايد الذي أعربت عنه قطر إزاء استمرار الخلافات بين الأطراف، فإنها واصلت استضافة المحادثات بين الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس.

ويعكس توجه جهود السلام العالمي نحو العالم الإسلامي تحوّلًا أوسع في الجغرافيا السياسية، إذ لدى دول الخليج – على وجه الخصوص – من القوة المالية ما يعزز نفوذها السياسي. وقد تجلّى هذا التحول مؤخرًا عندما قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن تكون أول زيارة خارجية له في ولايته الثانية إلى الخليج، متجاوزًا حلفاءه الأوروبيين والأميركيين الشماليين، بل وحتى الإسرائيليين.

إن انخراط العالم الإسلامي في جهود السلام يجب أن يُرحّب به لا أن يُخشى منه.

فالكثير من النزاعات المعاصرة تقع في أو تؤثر على مناطق ذات أغلبية مسلمة. ومن هنا، فإن وجود وسطاء يفهمون الخصوصيات الثقافية والدينية والاجتماعية لهذه المجتمعات يُعد أمرًا لا يقدّر بثمن. إذ إن مخاطبة المسلمين المتحاربين من خلال لغة ثقافية ودينية مشتركة، قد تُحدث فرقًا حاسمًا بين استمرار النزاع أو تحقيق السلام.

بل إن مبادئ السلام والمصالحة متجذّرة بعمق في تعاليم الإسلام. فكلمة "إسلام" ذاتها مشتقة من "سلام".

ولا شك أن كثيرًا من زعماء العالم يسعون إلى تحقيق السلام كوسيلة لترسيخ إرثهم الشخصي، وهو هدف جدير بالسعي إليه. ويمكن القول إن شخصيات مثل الرئيس أردوغان وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، المعروفين بالتزامهما الديني، لا يريان في السعي إلى السلام مجرد مهمة دبلوماسية، بل مسؤولية أخلاقية ودينية أيضًا.

وسيُبادر بعض المنتقدين، لا سيما في الحكومات الغربية، إلى الإشارة إلى مآخذ حقوقية في الدول التي أصبحت تنشط في ساحة الوساطة العالمية. لكنّ هذه المآخذ ليست حكرًا على العالم الإسلامي؛ فالدول الغربية نفسها لطالما قامت بوساطة السلام وهي تتعامل مع انتقادات حقوقية، بل وفي أحيان كثيرة كانت منخرطة في تدخلات خارجية مثيرة للجدل.

فالحقيقة أن الدبلوماسية الدولية نادرًا ما يمارسها "القديسون". ما يهم هو ما إذا كانت الدول قادرة على تجاوز مصالحها الضيقة عندما تتطلب الظروف مواقف سامية. وفي حالات مثل وساطة قطر في غزة، أو دور تركيا في تسهيل صادرات الحبوب أثناء الحرب، فإن هذه الجهود كان لها أثر إنساني ملموس وقابل للقياس. وهذا، لا شك، مقياس مهم.

ويجب أن أكون واضحًا: لا أقول بسذاجة إن دوافع العالم الإسلامي للمشاركة في جهود السلام هي مبرأة عن كل مصلحة خاصة. لكن لا ينبغي لنا أيضًا أن نخدع أنفسنا ونظن أن الوساطة في النزاعات لا تكون نبيلة إلا عندما تكون أوروبا هي الطرف الفاعل.

إعلان

إن من الضروري النظر إلى هذا التطور لا بوصفه تهديدًا لإرث أوروبا الدبلوماسي، بل كتطور مكمّل له. إذ إن الوساطة في النزاعات ليست مشروعًا رخيصًا، فهي تتطلب موارد لاستضافة وفود متعددة، كما تستلزم استثمارًا كبيرًا في الوقت، ورأس المال السياسي، والطاقة، والموارد المالية والبشرية، لتيسير الحوار بين الأطراف المتنازعة.

وفي الوقت الذي تواجه فيه دول أوروبا تحديات اقتصادية وتحولات سياسية، فإن دخول العالم الإسلامي إلى ساحة الوساطة يقدّم زوايا نظر جديدة، ويضيف أيضًا مصادر تمويل حقيقية.

وفي ظل هذا التوازن الجديد في قوى الدبلوماسية العالمية، يبدو أن العالم الإسلامي لم يعد مستعدًا لأن يكون مجرد ضحية سلبية للنزاعات، بل يسعى جديًا إلى أن يكون وسيطًا فاعلًا في تحقيق السلام.

وفي عالم يتزايد فيه الانقسام ويتراجع فيه الإيمان بالقوى التقليدية، تتبوأ دول مثل قطر وتركيا أدوارًا جديدة، نتائجها، في كثير من الحالات، تخدم أهدافًا إنسانية ذات أثر ملموس خلال فترات التفاوض. فهي تجلب معها فهمًا عميقًا للثقافة، وروابط إقليمية متينة، ورأسمالًا سياسيًا وماليًا يُترجم إلى التزامات فعلية.

وهذا لا يشكّل تهديدًا لإرث أوروبا في صنع السلام، ولا هو محاولة للسطو على دورها، بل يُعد توسعة ضرورية ومرحّبًا بها في أدوات العالم لبناء السلام. فإذا كان السلام هو هدفنا المشترك، فينبغي لنا أن نرحب بكل مساهمة مخلصة، أيًا كان مصدرها، ما دامت تُقرّبنا من تحقيقه.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • بعد تسريب بيانات 16 مليار حساب .. 5 خطوات لحماية نفسك من الاختراق
  • الكرملين مؤيدا ترامب: أوكرانيا خسرت القرم منذ سنوات
  • لماذا أصبح العالم الإسلامي مركز جهود الوساطة وحل النزاعات؟
  • نتنياهو يتوعد باستمرار الحرب على إيران وعدم إنهائها قبل الأوان
  • أوكرانيا تتوعد بتكثيف هجماتها في العمق الروسي
  • عضو اللجنة العليا للحزب الجمهوري: ضرب أمريكا لإيران لم يكن أمر مفاجئ
  • إسرائيل تستعيد جثامين ثلاثة رهائن من غزة قُتلوا في هجوم 7 أكتوبر
  • اختراق حساب هيئة التراث الإسرائيلية بصورة لخامنئي ورسالة إلى جميع قادة إسرائيل: قريبا!
  • هدى رؤوف: المحادثات بين ترامب وإيران مرهونة بوقف الحرب مع إسرائيل
  • لندن تحذر طهران: التدخل الأمريكي في الحرب مع إسرائيل مخطط بعناية