خالد بن سالم الغساني

 

الرئيس الأمريكي الخامس والأربعون، بعد أن ظل يبشر العالم عبر أكثر من رسالة وبوسائل مختلفة؛ بحدث كبير في ما يسمى بالشرق الأوسط، أطلَّ بمبادرة سمجة لوقف الحرب في غزة، في لحظةٍ فارقة من عمر القضية الفلسطينية، لحظة تختلط فيها الدماء والخيانة والخذلان معًا، ويُعاد فيها رسم المشهد السياسي بيدٍ ليست فلسطينية.

المبادرة التي قدمها ترامب على أنها نافذة للسلام، لا تعدو كونها محاولة لتصفية ما تبقّى من روح المقاومة، عبر فرض تهدئة تخمد النار، لكنها تُبقي الجرح عميقًا ومفتوحًا، وبتسويةٍ شكلية تُسكت المدافع لتفتح أبواب الوصاية.

في ظاهرها، تدعو المبادرة إلى وقف فوري لإطلاق النار، وتبادل للأسرى، وإدارة مؤقتة لغزة بإشراف دولي أو عربي، لكنها في جوهرها تحمل مشروعًا أخطر، مشروعاً لم تستطع آلة الحرب الصهيوأمريكية ثلمه أو إسكاته، إنه مشروع نزع سلاح المقاومة وتفريغها من مضمونها التحرّري. فمتى كان الاحتلال يمدّ يده للسلام وهو ما زال يغلق المعابر ويقصف البيوت ويقتل الأطفال في أحضان أمهاتهم؟ ومتى كان العدو يمنح الفلسطيني حق الحياة إلا ليضمن بقاءه تحت السيطرة؟!

إنَّ ما يُطرح اليوم ليس سلامًا؛ بل إعادة ترتيبٍ للمشهد بما يضمن استمرار السيطرة الإسرائيلية على الأرض والقرار، وتفكيك أي قوة فلسطينية قادرة على الدفاع عن نفسها أو عن حقها.

وفي خضم هذا المشهد الدموي، لا يمكن تجاهل مشهد العدوان الإسرائيلي على أسطول الصمود، ذلك الأسطول الإنساني الذي حمل متطوعين من عشرات الدول لكسر الحصار وإيصال المساعدات إلى غزة المحاصرة؛ فالهجوم الوحشي الذي شنّته البحرية الإسرائيلية على السفن المدنية، واعتقالها المئات من المشاركين، يعكس جبروت هذا الكيان وإصراره على إذلال كل من يمدّ يده بالعون للفلسطينيين. إنه اعتراض عدواني همجي، ورسالة وقحة للعالم بأسره، تقول بأن لا أحد يحق له أن يساند غزة، ولا أحد يُسمح له بتحدي إرادة الاحتلال. هكذا تمارس إسرائيل إرهاب الدولة بكل صلف وغطرسة ودعم من قوى الاستعمار العالمي، وسط صمت مؤسساتي دولي يُثير الغثيان.

اللافت في المشهد أن السلطة الفلسطينية الغائبة عن الميدان حضرت في الهامش السياسي، دون أن يكون لها كلمة أو مشاركة حتى في قرار؛ فيما حاولت واشنطن تسويق نفسها من جديد كراعٍ مُحايد للحل، بعد أن أسهمت لعقود ولا زالت في تغذية الاحتلال سياسيًا وعسكريًا. أما حماس التي تواجه ضغطًا غير مسبوق بعد شهور من العدوان؛ فهي تقف أمام خيارين أحلاهما مرّ، إما القبول باتفاقٍ يُقزّم المقاومة ويحوّلها إلى إدارة إنسانية في ظل الاحتلال، أو الرفض والاستمرار في حربٍ تستنزف البشر والحجر. وبين هذين الخيارين، يحاول العدو فرض واقعٍ جديد، تُسلَّم فيه غزة لسلطةٍ شكلية بلا سلاح ولا سيادة، ويُعاد فيها إنتاج الاحتلال بوجهٍ أكثر قبولًا دوليًا.

ووسط كل ذلك، يطلّ دونالد ترامب من واشنطن بوجهه المتعجرف ليقدّم نفسه صانع سلام ووسيطًا مُحايدًا، بينما تفضحه لغته المليئة بالغطرسة والتهديد؛ فالرجل الذي يتعامل مع الدم الفلسطيني وكأنه بند تفاوضي قابل للمساومة. في مبادرته، يتحدث عن "حلٍ نهائي"، بينما يضع الفلسطينيين أمام خيارٍ قسري: القبول بما يُملى عليهم أو مواجهة العزلة والعقاب. وظهوره المتكرر بهذه الصورة الفجة يرسّخ مكانته كأحد أكثر الزعماء الأمريكيين حقارةً في التاريخ، ممن وظّفوا نفوذ بلادهم لخدمة الاحتلال لا لإنهائه.

لكنّ التاريخ علّم الفلسطينيين أن السلاح الذي حمى وجودهم هو آخر ما يمكن التفريط به، فمن يملك بندقية يملك قراره، ومن يفرّط بسلاحه يُسلّم نفسه للرياح.

إنَّ أي مبادرة لا تضمن حرية الأرض وكرامة الإنسان تبقى حبرًا على ورق، وأي سلامٍ يُفرض تحت التهديد ليس سوى هدنةٍ مفخّخة تنتظر لحظة الانفجار.

أما نتائج هذه المبادرة، في حال مضت كما يُراد لها، وهيهات أن تمُر، فستكون على حساب الشعب لا لصالحه: تهدئة مؤقتة تُسكت صوت المقاومة، إدارة انتقالية تفتح باب الوصاية، واستبدال الاحتلال العسكري بحصارٍ سياسي واقتصادي طويل الأمد، وسيُقدَّم ذلك للعالم على أنه إنجاز تاريخي، بينما هو في حقيقته تثبيتٌ للهيمنة الإسرائيلية، وتصفيةٌ ممنهجة لجوهر القضية الفلسطينية، قضية الحرية والعودة والكرامة.

ومع ذلك، يبقى في الوعي الفلسطيني ما يفوق حسابات السياسة، فالشعب الذي صمد تحت النار لن يرضخ لاتفاقٍ يُفرّغ ثورته من معناها، ولا لتسويةٍ تُجرّد الأجيال القادمة من حقها في المقاومة. قد تتغيّر الموازين، وقد تتبدّل التحالفات، لكنّ الحقيقة التي لا تتبدّل؛ هي أن فلسطين لا تُحرَّر بالوعود ولا بالمبادرات؛ بل بالإرادة، وبسلاحٍ يظلّ مرفوعًا في وجه من يحاول كتابة النهاية قبل أن يقول الشعب كلمته الأخيرة.

وقديمًا قالت العرب على لسان حكيمها وشاعرها الكبير أبي الطيب المتنبي:

ما قيمةُ المرءِ إذا ضاعت كرامتُهُ

فَضْلُ الكرامةِ يعلو الجاهَ والمالا

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

قبلة الأسير وموائد شرم الشيخ.. حين تنتصر الكرامة على بهرجة السياسة

في تلك الصورة التي هزّت الوجدان العربي، انحنى الأسير المحرَّر ليقبّل قدم أمه. لم يكن مجرد ابنٍ يعود من غياب طويل، بل كان رمزا لجيل بأكمله خرج من ظلام الزنازين بخطوة بطيئة ولكن برأس مرفوع. كان وجهه شاحبا من أثر التعذيب، لكن يده كانت ثابتة وهو ينحني، لا خضوعا، بل اعترافا بأن الأم هي الوطن الأول والملاذ الأخير.

وفي اللحظة نفسها تقريبا، كانت الكاميرات تلتقط صورا أخرى: زعماء العالم في شرم الشيخ يجلسون حول طاولة دائرية، يوزعون البيانات الختامية كمن يوزع صكوك الغفران على الخراب. خلفهم بحر هادئ ومنتجعات مضاءة.. وأمامهم غزة تُطفئ أنفاسها الأخيرة تحت الركام.

قبلة الأسير كانت فعلا يفيض بالمعنى، بينما كانت مصافحات القادة في شرم الشيخ خاوية من الروح. هناك -على الأرض- أمٌّ تحتضن ابنها وتبكي كأنها تحتضن قبرا عاد للحياة. وهنا -في قاعات فندقية مكيفة- أمة كاملة تُختزل في "ملف إنساني" قابل للتفاوض
قبلة الأسير كانت فعلا يفيض بالمعنى، بينما كانت مصافحات القادة في شرم الشيخ خاوية من الروح. هناك -على الأرض- أمٌّ تحتضن ابنها وتبكي كأنها تحتضن قبرا عاد للحياة. وهنا -في قاعات فندقية مكيفة- أمة كاملة تُختزل في "ملف إنساني" قابل للتفاوض.

لقد اجتمعوا على أنقاض غزة، يتحدثون عن السلام بينما الدم لا يزال طريّا على حجارة المخيمات. عاد صليل السيوف إلى غمده لحظة واحدة، لكنهم لم يدركوا أن السيف العائد ليس استسلاما، بل هو التقاط أنفاس قبل جولة أخرى من التاريخ.

لم يكن الإفراج عن 20 رهينة إسرائيلي هو ما أثار دهشة الشعوب، بل المعادلة الفاضحة التي كشفت أرقامها عريَ الضمير العالمي: 20 مقابل 2000 أسير فلسطيني.

قالوا: "عودة الرهائن فرحة إنسانية". وقلنا: "عودة الأسرى الفلسطينيين مشاهد فرح مبللة بالدم والركام والدموع".

رهينة يعود إلى تل أبيب فتستقبله الشرفات المضيئة، أسير يعود إلى غزة فلا يجد إلا الأطلال، وبيتا صار سردابا، وأما إن بقيت حية فقد مات منها نصف الروح في طرقات السجن الطويلة.

ورغم ذلك، خرج الفلسطيني لا ليبكي، بل ليقول للعالم: نحن لا نُقاس بالأرقام، بل بالمعنى.

عشرون رهينة مقابل ألفي أسير؟ إذا هناك ألفان من الحكايات لم تُسمع بعد، وألفان من القلوب التي ستروي -كما روى هذا الأسير- كيف يُصنع الشرف خلف القضبان.

الفرح في غزة لم يكن لامعا ولا أنيقا، كان فرحا يخرج من تحت الأنقاض، يحمل في يده صورة شهيد وفي الأخرى يد أمٍ ترتجف. لم تُرفع الأعلام على منصات رسمية، بل رُفعت في الأزقة، على جدران مدمرة، بين أطفال يتامى وأمهات فقدن نصف ذريتهن في القصف.

لكن -وعلى الرغم من كل هذا الخراب- كان الفرح الفلسطيني أصدق من كل تصفيق دبلوماسي حدث في شرم الشيخ.

يظن العالم أن الحكاية انتهت بتلك الصفقة، وأن المشهد اكتمل. لكن الحقيقة أن التاريخ يبدأ من هنا، من قبلة أسير على قدم أم، من نظرة امرأة فقدت البيت والولد ولكنها لم تفقد اليقين.

..وتبقى الرسالة

الإنسان الفلسطيني لا يبحث عن شفقة، بل عن اعتراف بكرامته، أن الأم التي تُقبَّل قدمها على تراب غزة أصدق من كل بيانات الشرم السياسي المنعقد على شواطئ شرم الشيخ
تلك كانت الرسالة الأولى إلى العالم: أن الإنسان الفلسطيني لا يبحث عن شفقة، بل عن اعتراف بكرامته، أن الأم التي تُقبَّل قدمها على تراب غزة أصدق من كل بيانات الشرم السياسي المنعقد على شواطئ شرم الشيخ.

أما الرسالة الثانية، وهي الأهم، فهي موجهة إلى الداخل العربي والإسلامي؛ إلى الشعوب التي أنهكتها الخيبات، وإلى الأنظمة التي ظنت أن الهزيمة قدرٌ أبدي لا يُكسر. رسالة تقولها قبلة الأسير ببلاغة تفوق كل الخطب:

بين الحزن الراكع والموت الواقف أختار الموت
بين الصمت الهانئ والصوت الدامي
أختار الصوت
بينَ اللَّطْمَةِ والطَّلْقَةِ أختار الطلقة
بين السَّوْطِ وبينَ السَّيْف أختار السيف
هذا قدري

كما قال عبد العزيز المقالح، وكأنّه يكتب عن هذا الجيل الذي قرر ألا يموت جالسا في طوابير الانتظار، بل واقفا على أعتاب الحرية، ولو كانت الحرية شظية في يد أم وأثر قيد في معصم أسير.

هذه ليست نهاية المعركة، هذه لحظة استعادة المعنى، وهذه الأمة -التي تنحني للحب- فقط لا تُهزم.

مقالات مشابهة

  • قبلة الأسير وموائد شرم الشيخ.. حين تنتصر الكرامة على بهرجة السياسة
  • ترامب وقادة المنطقة يوقعون اتفاق سلام غزة خلال قمة شرم الشيخ.. نواب: خطوة تاريخية تعيد رسم ملامح الاستقرار في الشرق الأوسط..و مصر تقود العالم نحو سلام شامل بفضل مبادرة السيسي
  • نص اتفاق غزة الذي وقع عليه ترامب وقادة العالم في شرم الشيخ
  • السكابيوس يحرم الأسرى من معانقة ذويهم.. ما الذي نعرفه عن المرض؟
  • صالح الجعفراوي صوت غزة الذي صمت برصاص الغدر
  • ترامب:  سيجري تشكيل مجلس سلام على نحو سريع من أجل غزة
  • غزة.. انتصار الكرامة وتوحد الإنسانية
  • ترامب يوقف حرب غزّة.. خطة سلام أم فخّ لإعادة رسم الشرق الأوسط؟
  • الجزيرة ترصد حجم الدمار الذي خلفه الاحتلال في حي تل الهوا بغزة